في الوقت الذي يسعى العالم إلى التعامل مع التداعيات الكارثية للتغير المناخي، توجد في الهند أكوام قمامة يبلغ ارتفاع أحدها 62 متراً، بجوار تاج محل، فما قصة مكبات النفايات تلك؟ وكيف تتعامل معها حكومة ناريندرا مودي؟
رصد تقرير لشبكة CNN الأمريكية قصة جبال النفايات في الهند، والتي كان مودي قد صرح بأنَّ الجهود جارية على قدمٍ وساق لإزالتها وتحويلها إلى مناطق خضراء، وذلك في إطار مبادرته "الهند النظيفة".
وسيؤدي تحقيق هذا الهدف -إذا تحقق- إلى تخفيف جزء من معاناة السكان المحليين الذين يعيشون في ظلال مواقع النفايات هذه، بالإضافة إلى مساعدة العالم في خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، ومن ثم كارثة التغير المناخي.
ومصطلح التغير المناخي معنيّ بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة، وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه.
ما قصة مكب نفايات "بهالسوا" في الهند؟
يسير تدفق مستمر من سيارات طراز "جيب" في مسار متعرج عند مكب نفايات "بهالسوا"، شمالي غرب مدينة دلهي، لإلقاء المزيد من القمامة على كومة نفايات تجاوز ارتفاعها الآن 62 متراً.
تندلع حرائق من حينٍ لآخر في هذا الموقع بسبب انبعاثات غاز الميثان القابل للاشتعال ودرجات الحرارة المرتفعة -تلقت إدارة الإطفاء في دلهي 14 بلاغاً باندلاع حرائق في هذا العام- وقد يتصاعد الدخان من أعماق كومة القمامة لأسابيع أو شهور، بينما يواصل الرجال والنساء والأطفال عملهم في فرز القمامة للعثور على أشياء صالحة للبيع.
يقول بعض سكان "بهالسوا"، البالغ عددهم 200 ألف نسمة، إنَّ المنطقة غير صالحة للعيش، لكنهم لا يستطيعون تحمّل تكاليف الانتقال إلى مكانٍ آخر، وليس لديهم خيار سوى تنفس هوائها السام والاستحمام بمياهها الملوثة.
ويعتبر مكب نفايات "بهالسوا" ثاني أكبر مكب نفايات في دلهي بعد مكب نفايات "غازيبور"، وكلاهما يساهم في معظم إجمالي انبعاثات غاز الميثان في البلاد.
يعد غاز الميثان ثاني أكثر الغازات المسببة للاحتباس الحراري وفرة في البيئة بعد ثاني أكسيد الكربون، لكن دوره في أزمة المناخ أقوى من ثاني أكسيد الكربون لأنَّه قادر على حبس المزيد من الحرارة.
ووفقاً لمؤشر تتبع الميثان التابع لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، تأتي الهند في المرتبة الثانية بعد الصين من حيث إجمالي انبعاثات غاز الميثان.
تريد الهند خفض انبعاثاتها من غاز الميثان، لكنها لم تنضم إلى 130 دولة وقعت على "التعهد العالمي بشأن الميثان"، وهو اتفاق لخفض انبعاثات غاز الميثان عالمياً بنسبة 30% على الأقل عن مستويات 2020 بحلول عام 2030. يُقدّر العلماء أنَّ هذا الانخفاض قد يساهم في إبطاء وتيرة ارتفاع درجات الحرارة العالمية بنسبة 0.2% -ويساعد العالم في بلوغ هدفه الرئيسي المتمثّل في إبقاء الاحترار العالمي أقل من 1.5 درجة مئوية.
تقول الهند إنَّها لن تنضم إلى هذا الاتفاق لأنَّ حوالي 74% من انبعاثاتها من غاز الميثان تأتي من الزراعة -حيوانات المزارع وحقول الأرز- مقابل أقل من 15% من مكبات النفايات.
قال وزير البيئة والغابات وتغير المناخ، أشويني تشوبي، في بيان صدر العام الماضي، إنَّ التعهّد بخفض إجمالي انبعاثات الميثان في الهند قد يهدد سبل عيش المزارعين ويؤثر على تجارة الهند وآفاقها الاقتصادية. ومع ذلك، تواجه الهند أيضاً تحدياً كبيراً في خفض انبعاثات الميثان من أكوام القمامة المتبخرة.
السكان في دلهي يواجهون خطراً مميتاً
كانت "بهالسوا" مكاناً جميلاً عندما انتقل إليها نارايان شودري (72 عاماً) في عام 1982، لكن كل شيء تغيَّر -على حد قوله- بعد مرور 12 عاماً عندما وصلت أول كومة قمامة إلى مكب النفايات المحلي.
نما مكب النفايات في "بهالسوا" عالياً ليقترب من ارتفاع ضريح "تاج محل" التاريخي، وبات معلماً بحد ذاته ومشهداً مزعجاً للعين يعلو المنازل المحيطة، وهو ما يؤثر على صحة الأشخاص المقيمين هناك.
أشار شودري، الذي يعاني من ربو مزمن، إلى أنَّه كاد يموت عندما اندلع حريق كبير في مكب نفايات "بهالسوا" استمر لعدة أيام في أبريل/نيسان الماضي.
قال: "لقد تَورَّم وجهي وأنفي. كان وضعي مزرياً للغاية. كنت على فراش الموت"، مضيفاً أنَّ "الكثير من سكان هذه المنطقة خرجوا قبل عامين في احتجاجات للتخلَّص من النفايات. لكن السلطات المحلية لم تتعاون معنا. أكدّوا لنا أنَّ الأمور ستتحسن في غضون عامين. لكن ها نحن ذا، دون أي انفراجة أو إغاثة".
وفقاً لتقرير عن مكبات النفايات في الهند صادر في عام 2020 عن مركز العلوم والبيئة (CSE)، وهي وكالة أبحاث غير ربحية في نيودلهي، استنفد هذا الموقع طاقته في عام 2002. ومع ذلك، تستمر أطنان القمامة في الوصول إلى الموقع يومياً بسبب الافتقار إلى تطبيق معايير حكومية موحدة في أنظمة إعادة التدوير، وبذل مزيد من الجهود الصناعية لتقليل إنتاج واستهلاك البلاستيك.
يُعد مكب "بهالسوا" واحداً من 3 مكبات نفايات كبرى في دلهي تفيض بالنفايات المتحللة وتنبعث منها غازات سامة في الهواء، مُتسبّبة في معاناة السكان القريبين. ويوجد أكثر من 3100 مكب نفايات في جميع أنحاء البلاد، أكبرها هو مكب "غازيبور" في دلهي الذي يبلغ ارتفاعه 65 متراً وتنبعث منه كميات هائلة من غاز الميثان.
وفقًا لمؤسسة "GHGSat"، التي تراقب انبعاثات غاز الميثان عبر الأقمار الصناعية، سجَّل موقع "غازيبور" تسريب أكثر من طنّين متريين من غاز الميثان كل ساعة على مدار يوم واحد فقط من شهر مارس/آذار.
قال ستيفان جيرمان، الرئيس التنفيذي لمؤسسة "GHGSat": "إذا استمر هذا الوضع في مكب نفايات "غازيبور" لمدة عام، ستحدث انبعاثاته من غاز الميثان التأثير المناخي نفسه للانبعاثات السنوية المتسرّبة من 350 ألف سيارة أمريكية".
حتى المياه الجوفية تتعرض للتسمم
تجدر الإشارة إلى أنَّ انبعاثات الميثان ليست الخطر الوحيد الناجم عن مكبات النفايات في الهند. أدَّى تحلل النفايات إلى تسرب ما تحتويه من سموم خطيرة إلى التربة على مدار عقود، الأمر الذي نجم عنه تلويث إمدادات المياه لآلاف السكان المقيمين في المناطق المحيطة.
كلَّفت شبكة "CNN" الأمريكية مختبرين معتمدين لإجراء اختبار للمياه الجوفية الموجودة حول مكب نفايات "بهالسوا" في شهر مايو/أيار. وأظهرت نتائج تقرير المختبر الأول أنَّ مستويات الأمونيا والكبريتات في المياه كانت أعلى بكثير من الحدود المقبولة المنصوص عليها من جانب الحكومة الهندية.
ووفقاً لنتائج تقرير المختبر الثاني، بلغت مستويات إجمالي المواد المذابة (TDS) المكتشفة في إحدى عينات المياه تقريباً ضعف الحد المقبول بمقدار 19 مرة، ما يجعلها غير آمنة للاستهلاك البشري.
يُحدّد مكتب المعايير الهندية (BIS) الحد المقبول لإجمالي المواد المذابة عند 500 ملليغرام لكل لتر، وهو رقم تعتبره منظمة الصحة العالمية "جيداً" إلى حدٍ ما. تعتبر منظمة الصحة العالمية زيادة إجمالي المواد المذابة في المياه عن 1200 ملليغرام لكل لتر مستوى "غير مقبول".
وفقاً لريتشا سينغ من مركز العلوم والبيئة، تراوح إجمالي المواد المذابة في عينات المياه المأخوذة بالقرب من مناطق بالقرب من مكب نفايات "بهالسوا" بين 3 آلاف و4 آلاف ملليغرام لكل لتر. قالت ريتشا: "هذه المياه ليست غير صالحة للشرب فحسب، بل أيضاً غير صالحة لملامسة الجلد. وبناءً عليه، لا يجوز حتى استخدامها لأغراض مثل الاستحمام أو تنظيف الأواني أو تنظيف الملابس".
يعتمد معظم الناس في "بهالسوا" على المياه المعبأة للشرب، لكنهم يستخدمون المياه المحلية لأغراض أخرى. يقول كثيرون إنَّهم ليس لديهم خيار آخر.
قالت سونيا بيبي، واحدة من السكان المقيمين بالقرب من مكب النفايات والمصابة بطفح جلدي يغطي ساقيها: "المياه هنا ملوثة، لكننا مغلوبون على أمرنا ويتعيَّن علينا تخزينها لاستخدامها في غسل الأواني والاستحمام وأحياناً للشرب أيضاً".
في السياق ذاته، قال جوالا براشاد، البالغ من العمر 87 عاماً، ويسكن في كوخ صغير في أحد الأزقة بالقرب من مكب النفايات، إنَّ "المياه ذات لون أحمر باهت وجلدي يلتهب بعد كل استحمام، لكنني لا أستطيع تحمُّل تكاليف مغادرة هذا المكان على الإطلاق".
لماذا لا يثق أحد بوعود مودي؟
يصل يومياً أكثر من 2300 طن من النفايات الصلبة إلى مكب نفايات "غازيبور"، أكبر مكب نفايات في دلهي، وذلك وفقاً لتقرير صادر في يوليو/تموز عن لجنة مشتركة تَشكّلت لإيجاد حلول لتقليل معدل اندلاع الحرائق في الموقع.
أفاد التقرير أنَّ 300 طن فقط من تلك النفايات يجري معالجتها والتخلص منها بوسائل أخرى. في الوقت نفسه، تنشر بلدية دلهي طائرات دون طيار كل 3 أشهر لمراقبة حجم كومة القمامة، وتُجرّب طرقاً لاستخلاص الميثان من هذه القمامة.
لكن وصول المزيد من القمامة كل يوم يُعقّد أية محاولات للحل. قالت اللجنة إنَّ تقنية التعدين الحيوي كانت "بطيئة ومتأخرة"، ومن المستبعد بدرجة كبيرة أن تنجح بلدية شرق دلهي (التي اندمجت الآن مع بلديات شمال وجنوب دلهي) في تحقيق هدفها المُتمثّل في "تسطيح جبل القمامة" بحلول عام 2024.
وأضاف التقرير أنَّ "الحكومة الهندية لم تضع خططاً فعَّالة لتقليل ارتفاع جبل القمامة هذا. علاوة على ذلك، كان ينبغي الإشارة منذ وقت طويل إلى أنَّ مواصلة إلقاء القمامة في هذا المكان من شأنه تلويث المياه الجوفية في المستقبل".
أرسلت شبكة "CNN" الأمريكية سلسلة من الأسئلة جنباً إلى جنب مع نتائج اختبارات المياه إلى وزارتي البيئة والصحة في الهند، ولم تتلق أي رد.
في تقرير عام 2019، أوصت الحكومة الهندية باستخدام طرق لتحسين إدارة النفايات الصلبة في البلاد، من ضمنها إضفاء الطابع الرسمي على قطاع إعادة التدوير، وإنشاء المزيد من مصانع الأسمدة في البلاد.
على الرغم من إدخال بعض التحسينات، مثل جمع القمامة من المنازل وتطوير آليات معالجة النفايات، لا تزال القمامة تتراكم في مكبات دلهي. قالت ريتشا سينغ من مركز العلوم والبيئة: "تتمثَّل المشكلة في أنَّ دلهي ليس لديها خطة عمل ملموسة بشأن النفايات الصلبة. لذا، نحن نتحدث هنا عن معالجة النفايات القديمة، فما بالك بالنفايات الجديدة التي تستقبلها مكبات النفايات الثلاثة يومياً!".
وأضافت ريتشا: "لا يمكنك بدء عملية معالجة النفايات القديمة دون وجود منشأة بديلة للنفايات الجديدة، وإلا ستدور الأمور في حلقة مفرغة وعملية لن تنتهي أبداً. هذا هو أكبر تحدٍّ".