يوشك مجلس النواب الليبي في طبرق على إخضاع السلطة القضائية لنفوذه، بعدما شكلت تهديداً وجودياً له، عندما قضت في 2014 بإلغائه، ثم تحدته في 2022، عندما أعادت فتح الدائرة الدستورية التي أغلقتها قبل أعوام، لكن ذلك من شأنه نسف مباحثاته مع المجلس الأعلى للدولة، وإعادة ترتيب التحالفات في المنطقة الغربية.
صادق مجلس النواب، في 6 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بأغلبية الحاضرين، على قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا، التي سيكون مقرها الدائم في مدينة بنغازي (شرق)، بدلاً من العاصمة طرابلس، التي تحتضن مقر المحكمة العليا، ودائرتها الدستورية.
وينص "القانون" على إلغاء المحكمة العليا، وتغيير اسمها إلى محكمة النقض، ونقل تبعية الجريدة الرسمية من وزارة العدل إلى البرلمان.
ولا يتيح "الطعن بعدم دستورية القوانين إلا من رئيس البرلمان، أو رئيس الحكومة، أو 10 نواب، أو 10 وزراء"، ولم يتضمن أي إشارة لأعضاء مجلس الدولة.
القضاء بيد "النواب"
من شأن حل الدائرة الدستورية، واستبدالها بمحكمة دستورية عليا، ونقل مقرها من طرابلس إلى بنغازي، ومنح صلاحية تعيين 13 من أعضائها لمجلس النواب، أن يجعلها بالضرورة خاضعة لنفوذ الأخير، ورئيسه عقيلة صالح، وحليفه العسكري خليفة حفتر، قائد قوات الشرق، الذي يسيطر بالكامل على بنغازي.
فالقانون الجديد ينص على أن مجلس النواب يختار ثلاثة أعضاء في المحكمة الدستورية، والمجلس الأعلى للقضاء يختار ثلاثة أعضاء أيضاً، ونفس الحصة لرئيس الدولة، أما الأربعة المتبقون فتنتخبهم الجمعية العمومية لمجلس القضاء، ويصدر قرار تعيين رئيس المحكمة ونائبه وأعضائها من مجلس النواب.
وبهذه الخطوة، يكون مجلس النواب، ضَمِن عدم اتخاذ السلطة القضائية ودائرتها الدستورية أي قرار يمس استمراره كسلطة تشريعية، وإلغاء القضايا المرفوعة ضد تعديلاته على مشروع الدستور، وفي حالة الذهاب إلى انتخابات رئاسية فسيكون له النفوذ على تحديد الأسماء التي ستشارك في السباق الرئاسي أو التي يجب أن تستبعد.
وتأتي هذه الخطوة بعد نجاح مجلس النواب في الإطاحة بمحمد الحافي، من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ثم من رئاسة المحكمة العليا، وتعيين عبد الله أبو رزيزة، المحسوب على عقيلة صالح، رئيساً للمحكمة العليا، وقبلها تعيين 45 قاضياً في المحكمة العليا، واختيار مفتاح القوي، المحسوب أيضاً على عقيلة، رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء.
ورغم محاولة الحافي، مقاومة هذا القرار، ورفضه نقل المحكمة العليا إلى مدينة البيضاء (شرق)، وتلويحه بورقة الدائرة الدستورية، التي تمت إعادة فتحها بقرار من الجمعية العمومية للمحكمة، في أغسطس/آب الماضي، للضغط على مجلس النواب، إلا أن ذلك لم يُجدِ نفعاً.
ولم يكن بإمكان مجلس النواب الإطاحة بالحافي، من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، إلا بموافقة المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، برئاسة خالد المشري، الذي اختار الصمت حينها.
ليتبين فيما بعد أن الإطاحة بالحافي، جاءت بموافقة المشري، مقابل اعتراف مجلس النواب بتعيين "الصديق الصور"، نائباً عاماً، ضمن سياق تقسيم المناصب السيادية، ولو بشكل جزئي بين المجلسين.
مجلس الدولة يعترض
استغل مجلس النواب تقاربه مع مجلس الدولة مؤخراً بشأن تشكيل حكومة جديدة وتقاسم المناصب السيادية، بالتزامن مع الشرخ الظاهر الذي أحدثه هذا التقارب بين المشري ورئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، ليقوم بخطوته المفاجئة للهيمنة على السلطة القضائية.
لكن موقف المجلس الأعلى للدولة، كان هذه المرة قوياً وسريعاً "نسبياً"، عندما أعلن رفضه المطلق لما سماه "القانون المعيب"، بعد ساعات من المصادقة عليه، رغم أن مناقشة مشروع القانون بدأت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
واتهم مجلس الدولة، "النواب"، بالاعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات، من خلال محاولة الاستحواذ على السلطة القضائية، وصلاحيات المحكمة العليا.
فبعد إصدار مجلس النواب قانوناً لإنشاء محكمة دستورية، اعتبر بيان لمجلس الدولة، ذلك "مساساً بالأساس الدستوري لهذه السلطة المعتمدة من دستور 1951، الذي ينص على أن السلطة القضائية تتولاها المحكمة العليا والمحاكم الأخرى…".
وأوضح أن إنشاء محكمة دستورية "يحتاج إلى دستور أو قاعدة دستورية حتى يتم إقراره وليس إلى قانون".
وفي اليوم الموالي، قرر مكتب مجلس الدولة برئاسة المشري، وقف التواصل مع مجلس النواب، وتعليق اجتماعات اللجان المشتركة إلى حين إلغاء القانون، والبدء في إجراءات الطعن الدستوري، كما دعا السلطة القضائية إلى الامتناع عن تطبيقه.
أول امتحان
ويمثل طعن مجلس الدولة، لدى الدائرة الدستورية للمحكمة العليا، أول امتحان لمدى استقلالية رئيسها الجديد أبو رزيزة، وقضاتها الـ45 الجدد، المعينين من مجلس النواب.
فقبول الدائرة الدستورية للمحكمة العليا، لطعن مجلس الدولة، يمثل أول خطوة نحو عدم الاعتراف بدستورية "قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا".
واستند مجلس النواب في إصدار هذا القانون "لمسودة الدستور التي توافق عليها أعضاء (لجنة) المسار الدستوري، المشكلة من مجلسي النواب والدولة".
وردت لجنة المسار الدستوري بمجلس الدولة، في بيان، ليل الأربعاء/الخميس، باتهام مجلس النواب بالسعي للانفراد بصلاحيات ممنوحة لثلاث سلطات مجتمعة (تشريعية وتنفيذية وقضائية)، التي ستنتخب من خلال هذا الأساس الدستوري.
ومن المثير للغرابة أن يتم إنشاء "محكمة دستورية" بالاستناد إلى "مسودة دستور" لم يتم الاستفتاء عليها، ولم يصادق عليها حتى من مجلسي النواب والدولة.
ناهيك أن مجلس النواب لم يعلن عدد أعضائه الذين شاركوا في التصويت على القانون، ما يوحي بعدم بلوغهم النصاب القانوني الموصوف، خاصة أنه أصبح من النادر أن يتم تحقيق النصاب في ظل عودة الانقسام للبرلمان.
غير أن عدم تسلم المحكمة العليا للطعن، من مجلس الدولة، سيعني اعترافاً ضمنياً بدستورية "القانون"، وبالتالي الإقرار بحل الدائرة الدستورية، خاصة أن وسائل إعلام داعمة لمجلس النواب تحدثت عن إحالة الأخير مشروع القانون إلى المجلس الأعلى للقضاء، لإبداء الرأي الفني بخصوص مواده، دون أن يصدر أي موقف حياله، وأن رئيس "الأعلى للقضاء" رحب بمشروع القانون.
وإذا مضى مجلس النواب سريعاً في تعيين القضاة الـ13 "للمحكمة الدستورية"، فحينها لن يكون هناك أي معنى لأي طعن لدى محكمة لا يعترف بها مجلس الدولة، خاصة إذا كانت هي الخصم والحكم.
وستقع حينها المسؤولية على مجلس الدولة، لسماحه منذ البداية بتغيير رئيس المحكمة العليا، وأعضائها، وأيضاً لعدم تحركه منذ أكتوبر/تشرين الأول لعرقلة المصادقة على القانون.
لكن السيناريو الأسوأ أن يؤدي إنشاء المحكمة الدستورية ببنغازي، إلى انقسام المؤسسة القضائية بين شرق وغرب، رغم أنها المؤسسة الدستورية الوحيدة التي حافظت على وحدتها وتماسكها عندما انقسمت السلطتان التشريعية والتنفيذية منذ 2014.
إعادة تشكيل التحالفات
يمكن لمجلس الدولة أن يعتبر خطوة مجلس النواب طعنة في الظهر، خاصة أنه وافق على تغيير رئيس المحكمة العليا وأعضائها، كما أنها تأتي في ظل مشاورات متواصلة لتشكيل حكومة جديدة وتقاسم المناصب السيادية.
وهذه التنازلات من المشري، للوصول إلى توافق ينهي الانقسام، كان ثمنها غالياً، خاصة أنها فتحت بوابة من الانتقادات لمجلس النواب، وخلافات حتى مع حليفه السياسي المتمثل في حكومة الوحدة.
ومُضي مجلس النواب قدماً في تشكيل المحكمة الدستورية العليا، من شأنه نسف مباحثاته مع مجلس الدولة لتشكيل حكومة جديدة، واستكمال تعيين المناصب السيادية المتبقية، على غرار مفوضية الانتخابات، ومجلس المحاسبة.
وهذا قد يدفع المشري للتقارب أكثر مع الدبيبة، الذي سيتضرر من نقل تبعية الجريدة الرسمية من وزارة العدل التابعة لحكومته إلى مجلس النواب.
ومن شأن هذا الاستقطاب السياسي الشديد أن يدفع السلطة القضائية للانقسام، خاصة في ظل رفض قطاع من قضاتها المساس بمبدأ استقلالية القضاء، ويعرقل أي مبادرة جديدة للتوجه نحو الانتخابات.