لا تفتقد أوروبا للقدرات المالية ولا التقنية ولا حتى العسكرية، فالسلاح متوفر، لكن القارة العجوز لا توظّفه للدفاع عن مصالحها، فهل السبب هو عدم القدرة على القتال؟ أم الاعتماد على أمريكا؟
فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم بين المعسكر الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة، أصبح القرار العسكري وإدارة الصراعات المسلحة على أراضي القارة العجوز، وحول العالم أيضاً، قراراً أمريكياً في أغلب الأحيان.
وأزمة أوكرانيا، التي هي بالأساس أزمة جيوسياسية تقع على الأراضي الأوروبية، كانت تدار كصراع بين موسكو وواشنطن، حتى انفجرت وتحولت إلى الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية دون أن يتمكن القادة الأوروبيون الحاليون من نزع فتيلها كما حدث في الأزمة ذاتها عام 2014.
هل تفتقد أوروبا إلى القدرات العسكرية؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت معضلة القارة العجوز في تحليل عنوانه "الأوروبيون لديهم السلاح لكنهم ليسوا مستعدين للقتال والحرب"، ألقى الضوء على المعضلة المتمثلة في توفر إمكانيات القتال وغياب الرغبة فيه أو عدم القدرة عليه عندما يكون لا مفر منه.
إذ يدرك القادة العسكريون في أوروبا منذ مدةٍ أن النزاعات العسكرية الكثيفة، وحتى الحروب الكبرى، لم تعد أمراً مستبعد الوقوع في القارة. ومما يدل على هذا الإدراك إقبال القارة على إعادة تسليح نفسها، وهو أمر تسارعت وتيرته بعد اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
ففي ألمانيا، على سبيل المثال، أعلن المستشار أولاف شولتس عن تخصيص 100 مليار دولار سنوياً لإعادة تسليح الجيش، كما تعاقدت برلين على شراء عشرات الطائرات الأمريكية من طراز إف-35، إضافة إلى رفع ميزانية الدفاع بما لا يقل عن 2% من الناتج الإجمالي القومي.
ومن ثم، ليس من الإنصاف القول إن القادة الأوروبيين يتوهمون خلاف الواقع، ولا يدركون التهديدات التي تواجهها القارة العجوز. لكن ذلك لا يمنعنا من القول إنهم أخطأوا حين ظنوا أن الاستعداد المادي كافٍ وحده للرد على مثل هذه التهديدات، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
فالتسلح ليس إلا جانباً واحداً من مشكلة أوروبا، فضلاً عن أن حلف الناتو لديه بالفعل من الوسائل العسكرية تحت تصرفه ما يتجاوز المتاح من العتاد العسكري لدى روسيا بكثير. لكن ذلك كله لم يمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من المضي قدماً بتنفيذ خطة الهجوم على أوكرانيا، حتى بعد أن أعلنت أوروبا صراحةً أنها معنية بالأمر، وأنها معترضة على هذا "الغزو".
أقدمَ بوتين على ذلك لأنه يدرك الحقائق الأخلاقية والسياسية الكامنة خلف حجاب الاختلال المادي لقوته أمام القوى الأوروبية. فقد كان بوتين يعلم أن أوروبا، وإن كانت لديها القوة العسكرية، فإنها عاجزة عن القبول بإمكان نشوب صراع مفتوح على حدودها.
والمقصود من ذلك أن الأسلحة التي تملكها أوروبا تحت تصرفها لن تكون رادعة لأحد ما دامت المجتمعات الديمقراطية في القارة غير مهيأة لإظهار القدرة والعزيمة على استخدامها إذا استدعت الحاجة، تقول فورين بوليسي.
ومن المهم هنا أن نذكر وجهة النظر الروسية التي عبر عنها بوتين نفسه بإسهاب عندما أعلن عن قرار شن "العملية العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا، حيث اعتبر بوتين أن روسيا تتعرض لخطر داهم بسبب إصرار الغرب على ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، ورفض الولايات المتحدة تقديم ضمانات بأن ذلك لن يحدث. كما قدم بوتين مبررات تتعلق بسعي الغرب إلى فرض "قيمه ومعتقداته" على روسيا وباقي الدول.
لماذا يفتقد الأوروبيون إلى الرغبة في القتال؟
في محاضرة ألقاها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون عام 1939 قبيل الحرب العالمية الثانية، أشار آرون إلى أن الدول الديمقراطية، وإن كانت لديها الثروة المادية والقوة العسكرية، فإنها جرَّأت خصومها عليها حين فصلَت مكاسب السلام عن الفضائل العسكرية التي ادعت الأنظمة الشمولية احتكارها، وقال: "حين يتحدث المرء إلى أناس يصرِّحون بازدراء السلام، يجب عليه أن يرد على ذلك بأنه إذا كان يحب السلام، فإن ذلك ليس بداعي الجبن. وما أسخف الاعتقاد بأن أنظمة قائمة على الرفاه قادرة على الصمود أمام أنظمة قائمة على العمل. وما أغربه من وهم أن نظن بأن ضربات المدافع تُقاوم بصناعة الزبدة، وأن الراحة مُنجية لنا حين يجد الجد".
يمكن التعبير عن ذلك بطريقة أخرى، فنقول إن التفوق من حيث القدرات العسكرية يكاد ألا يكون له قيمة سياسية تُذكر إذا لم يقترن بالخصال الأخلاقية التي تجعل المجتمعات السياسية على أهبة الاستعداد لتعبئة هذه القدرات فعلاً وليس قولاً فحسب.
ومن أهم هذه الخصال الاجتماع على المبادئ -إدراك المصلحة العامة- التي يجب أن يكون المجتمع على استعداد للتضحية من أجلها. وقد نختلف أو نتفق بشان ماهية هذه المبادئ، لكن استشراف الحرب يدفع المجتمعات حتماً إلى منحها الجوهر والمعنى، لكي تتخذ قرارها بشأن حدود المصلحة العامة للفرد بدلاً من السعي إلى التوفيق المتعذر بين القيم المتباينة لأفراد المجتمع.
وفي محاضرة أخرى ألقاها آرون عام 1952 أمام مجموعة من الموظفين المقبلين على الالتحاق بالخدمة المدنية، وصف النفور المفرط من الصراع بأنه أحد الأمراض الناشئة عن السياسة الديمقراطية الحديثة، "فأكبر آفة أصابت الدول الديمقراطية هي الإيمان بإرادة الاتفاق أكثر من اللازم، أي التوهم بأن كل أمر يمكن معالجته إذا توصلنا إلى حلٍّ وسط. ففي كل مرة واجهت فيها الدول الديمقراطية أنظمة استبدادية، ظنت أن المسؤولين عن تلك الأنظمة عقلانيون بما يكفي للميل إلى اتفاق مناسب وتفضيله على حرب غير محمودة العواقب".
قد تُفرط الدول الديمقراطية في استدعاء إرادة الاتفاق لأنها ترى العنف أعظم الشرور، ويقتصر المفهوم السائد للعمل السياسي عند دول الاتحاد الديمقراطية على تطبيق المعايير العالمية وتلبية الاحتياجات الضرورية للعيش في هذا العالم.
هل انحصرت أخلاق الغرب في المتعة والسعادة الفردية؟
وفي هذا السياق، أعرب آرون مبكراً عن مخاوفه من تأثير السياسات الحديثة لحقوق الإنسان على العلاقة بين الانضباط المدني والديمقراطية، "فالأخلاق المدنية تضع بقاء المجتمع وأمنه فوق كل شيء آخر. لكن إذا انحصرت الأخلاق الغربية في مبادئ المتعة والسعادة الفردية، وانصرفت عن الفضائل المدنية، فإن بقاء هذا المجتمع نفسه يصبح معرضاً للخطر. إذا لم تعد هناك واجبات واقعة على المواطن، ولم يعد الأوروبيون يدركون بأنهم يجب أن يكونوا مستعدين للقتال من أجل الحفاظ على فرصة للعيش في نعيم وسعادة، فإننا نكون عندئذ حضارة عظيمة في طور الانحلال".
يتحدث الاتحاد الأوروبي باستمرار عن اللجوء إلى النقاش السلمي والحوار وتبادل الآراء، حتى يبدو كأن السلام هو النتيجة الحتمية إذا تم الاعتماد على مزيد من النقاش وتبادل الآراء. ولم يعد الأوروبيون يستوعبون أن الرجال المختلفين قد يسعون إلى أهداف متعارضة، وأن العنف وسيلة مشروعة لتأمين مصالح وأعراض معينة. وكأن الصراع عندهم أصبح نتاجاً لأسباب عرضية، كمشكلة في الفهم يمكن حلها بالنقاش أو ضعف في التواصل يمكن التغلب عليه ببعض الجهد.
تعرضت أوروبا لأضرار مادية ومعنوية شديدة الوطأة بسبب الحربين العالميتين، فمال بها ذلك إلى التخلص تدريجياً من أدوات ممارسة القوة، وحتى الرغبة في ذلك. وصارت أوروبا تعدُّ امتناعها عن ممارسة القوة فضيلةً وعلامة على التقدم، وما فتئت تدين استخدام القوة وتصفها بأنها من بقايا عصور عفا عليها الزمن، عصور القومية والإمبريالية. وآمنت أوروبا بأن التنمية الاقتصادية قادرة على بلوغ ما بلغته القوة العسكرية من تأثير لكن دون صراع وحروب.
ويطرح تحليل مجلة فورين بوليسي الأمريكية سؤالاً: كيف يستعيد الأوروبيون الثقة بقدرتهم على بذل الجهد العسكري والتضحية فيه؟ والإجابة لا تقتصر على أن يكون لدى الأوروبيين الوسائل المناسبة [التسليح] والمنظومة الأمنية المخلصة، بل يجب أيضاً أن يدرك المواطنون المصالح والمخاطر التي تجعل استخدام هذه الوسائل أمراً ضرورياً ومشروعاً.
ويجب أن يفهم المواطنون الأوروبيون أن مصلحتهم العامة لن تتوافق دائماً مع مصلحة غيرهم من الأنظمة، وأن المبادئ الأخلاقية والسياسية تنطوي على أمور أخرى قد لا يمكن تفسيرها على أساس الحقوق المشتركة للناس جميعاً أو المصالح المرجوة لجميع الأطراف.
وفي هذا السياق يصبح أهم واجب يقع على النخب الأوروبية الآن هو أن توضِّح لمواطني القارة الواجبات والمسؤوليات الملقاة على كل فرد منهم إذا كانوا يريدون الحفاظ على استمرار المجتمعات الحرة التي يعيشون فيها.
ولا يمكن لأوروبا أن تزيد من ميزانياتها العسكرية، ثم تواصل في الوقت نفسه الترويج للاندماج في الاقتصاد المعولم نفسه الذي كثيراً ما أمدَّ خصومها بوسائل قوتهم. ومن خفة العقل أن ترى أوروبا أن مكافحة التغير المناخي تعني إجبار الناس على التخلي عن مصادر طاقة معينة، وأن تخاطر بإضعاف الإنتاج الصناعي دون أي اهتمام بأن ذلك قد يضع أوروبا تحت تبعية قوى معادية لها.
ومن جهة أخرى، فإن الأمر يقتضي من أوروبا إصلاح طريقة تفكيرها في الغايات المرجوة من الديمقراطية، فقد ظلت أنظمة القارة تحث الناس طويلاً على التخلي عن النوازع الإنسانية الباعثة على خدمة المصلحة الذاتية.
يجب أن يكون استشراف الحرب فرصة لصياغة الواجبات السياسية على نحو يخدم المصلحة الأوروبية، والإدراك بأن التخلي عن المصلحة الذاتية من أجل توسيع نطاق حقوق الإنسان لن يحرر الأوروبيين من أعباء السياسة، بل يجعلهم معرضين دون أن يدروا لخطر الوقوع تحت هيمنة الأجانب والخصوم.
إن بدء هذا النقاش داخل كل بلد أوروبي وخارجه على حد سواء أمرٌ له مخاطر كبيرة، ويقتضي الشجاعة ممن يريد أن يضطلع بهذه المهمة. والواجب على الحكام أن يكونوا على قدر المسؤولية، وأن يتحلوا بما يلزم لإنجاز الأمر، حتى وإن استجلب ذلك عليهم الطعن في سمعتهم بتهمة انتهاك الفضائل السياسية.