يؤدي صعود التضخم إلى تآكل القيمة الحقيقية للمدخرات للعديد من الأشخاص حول العالم، حيث تسبب ارتفاع أسعار الفائدة المستمر في العديد من الدول بعد رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، الاقتصاد الأول في العالم، إلى إعادة تسعير السندات والأسهم. والنتيجة هي أن قدر الأصول الذي يأمل العديد من المتقاعدين في المستقبل أن يعيشوا منه قد تقلص بشكل كبير. ولطالما توقع النقاد أنه مع تقدم السكان في السن وقلة العمال، فإن المتقاعدين ومؤسسات التقاعد الوطنية ستتعرض لضغوط كبيرة، وهي مشكلة يطلق عليها الخبراء اسم "قنبلة التقاعد الموقوتة"، والتي يبدو أننا نمر بها الآن.
التضخم حول العالم قد يخرج عن السيطرة
تعاني اليوم العديد من الاقتصادات المتقدمة حول العالم وعلى رأسها الاقتصاد الأمريكي من تفاقم التضخم، حيث حذر صندوق النقد الدولي مؤخراً من أن وضع الاقتصاد العالمي سيزداد صعوبة عام 2023، في حال عجزت البنوك المركزية عن السيطرة على التضخم.
تقول رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا: "العام الجاري صعب، لكن العام المقبل سيكون أصعب"، مشيرة إلى مشكلات سلاسل التوريد العالقة نتيجة الجائحة والهجوم الروسي على أوكرانيا باعتبارهما السبب في رفع أسعار الطاقة والغذاء لمستويات كبيرة خلال العام الجاري.
كما أوضحت أن احتمالات تحقيق انتعاشة اقتصادية كاملة في العام المقبل تُعتبر منخفضة؛ لأن الاقتصاد ما زال يترنح من "صدمةٍ تلو الأخرى". وتلقي هذه الأمور بتداعياتها على الاقتصاد العالمي، بحسب كريستالينا، التي وصفت ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة حول العالم بأنه يمثل "أزمةً في تكلفة المعيشة"، ويحطم آمال العديد من البشر حول العالم من تأمين مستقبل ميسور الحال لهم ولعائلاتهم.
ويحمل كثيرون نتيجة التضخم الأمريكي إلى سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن الاقتصادية، حيث تحاول واشنطن معالجة الأمر على حساب بقية دول العالم.
حيث كان هدف بايدن الاقتصادي الأهم وشاغله الرئيسي هو تخفيض التضخم الأمريكي قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس التي عقدت نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فيما انخرط مجلس الاحتياط الفيدرالي في موجة رفع لأسعار الفائدة لمواجهة التضخم الذي فاقمته سياسة بايدن الاقتصادية، بشكل غير مسبوق منذ سنوات.
وتسبب ذلك في هروب الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة، بل حتى الأسواق الناضجة، ما أدى إلى تراجع لافت لأغلب العملات الرئيسية في العالم، حتى إن الجنيه الإسترليني سجل أدنى مستوى له أمام الدولار منذ 200 عام، وازدادت الأزمة في أوروبا نظراً لاعتمادها على استيراد الغاز والنفط من الخارج، عكس الولايات المتحدة التي تصدرهما، كما أن أوروبا أكثر عرضة لأزمة الغاز من بقية العالم.
أما الدول النامية فهي في الأصل تكتوي بنار ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب جراء الحرب الأوكرانية، ثم بدأت تكتوي بنار الدولار الأمريكي المرتفع. بالتالي أصبح الجميع مضطراً لرفع أسعار الفائدة على عملاته لمجاراة الدولار الأمريكي وتقليل هروب الأموال لأمريكا، وهو ما يؤدي لارتفاع تكلفة الديون، وتقليل النمو الاقتصادي.
كيف ينعكس ذلك على مدخرات المتقاعدين ومكتسباتهم؟
تقول مجلة Economist البريطانية، غالباً ما يُنصح المتقاعدون أو الذين يوشكون على التقاعد بتحويل أصولهم إلى السندات والخروج من الأسهم أثناء استعدادهم للتوقف عن العمل، لحماية مدخراتهم من تصحيحات سوق الأسهم الكبيرة.
وتشكل صناديق المعاشات التقاعدية عادة من 90-100٪ من الأسهم في السنوات الأصغر لمالكيها، وهي استراتيجية تهدف إلى الحصول على عوائد أعلى من الأسهم التي تولدها بشكل عام على مدى فترات طويلة. ولكن مع بقاء أقل من شهر على انقضاء العام، يبدو أن 2022 سيكون أسوأ عام على الإطلاق بالنسبة لأسعار السندات التي تفقد بعض قيمتها.
والمحصلة هي أنه قبل عام، كان الشخص البالغ من العمر 65 عاماً الذي ادخر 2.5 مليون دولار على سبيل المثال لتقاعده، واستثمر 80٪ منه في السندات الحكومية و20٪ في الأسهم، كان سيحقق عادةً دخلاً قدره 100 ألف دولار.
مع ذلك، فإن انهيار أسعار الأصول يعني أن القدر هذا قد تلاشى إلى حوالي 2.1 مليون دولار في 12 شهراً قصيراً، ما سمح لهم بسحب مدفوعات سنوية اسمية تبلغ 83 ألف دولار فقط. وفي الوقت نفسه، التهم التضخم المتصاعد 10٪ أخرى من هذا الدخل، تاركاً لهم 75 ألف دولار فقط من حيث القيمة الحقيقية، والانكماش لم ينته بعد. لذلك، يمكن أن يصبح هذا الفقر حقيقة واقعة للملايين بسرعة كبيرة حول العالم.
ارتفاع كبير في أعداد المتقاعدين بعد الجائحة
بعد أزمة كورونا، وتجربة العمل عن بعد، وتعود الكثير من الناس على الجلوس في المنزل، تحول الكثير من العاملين إلى معاشات تقاعدية مبكراً. وفي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، يقدر مجلس الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس أن عدد المتقاعدين بلغ في أكتوبر 2021 في أمريكا 3.3 مليون متقاعد، أي أن أكثر من نصف الأمريكيين الذين تزيد أعمارهم عن 55 عاماً تقاعدوا من أعمالهم، في ارتفاع بنسبة 48٪ عن عام 2019.
وبحسب مجلة الإيكونومست، يبدو أن هناك نمطاً مماثلاً أيضاً في جميع أنحاء دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي يصل عدد أعضائها لنحو 40 دولة.
وتشير بيانات المسح إلى أن بعض المتقاعدين الجدد يفكرون في العودة إلى العمل. لكن أولئك الذين لا يفعلون، أو لا يستطيعون، ربما يواجهون سنوات أصعب مما كانوا يتوقعون. لكن الأفراد ليسوا وحدهم الذين سيتحملون عبء ذلك، حيث ستتحمل الحكومات بعضاً من خلال خطط الضمان الاجتماعي والتأمين.
وسيتحمل جزءاً من ذلك أيضاً كائن أصبح نادراً للغاية: خطة التقاعد ذات المزايا المحددة نظام المزايا المحددة Defined Benefit، حيث أمضى العديد من أولئك الذين يفكرون في التقاعد اليوم جزءاً كبيراً من حياتهم في العمل خلال العصر الذهبي لخطط db، حيث وافقت الشركات أو أرباب العمل في القطاع العام، مثل المدارس، على دفع أجر سنوي للعمال بعد توقفهم عن العمل.
ويبلغ إجمالي أصول التقاعد في أمريكا اليوم حوالي 40 تريليون دولار، منها 17 تريليون دولار محتفظ بها في مثل هذه المخططات. وتبلغ مدفوعات db النموذجية 2٪ من الراتب النهائي للعامل، مضروبة في سنوات الخدمة. لذا فإن المعلمة التي عملت لمدة 40 عاماً، على سبيل المثال، والتي تقاعدت عندما كان راتبها 80 ألف دولار في العام، ستحصل على 64 ألف دولار سنوياً لبقية حياتها. بهذه الطريقة يتحمل صاحب العمل جميع مخاطر الاستثمار التي قد يواجهها الفرد.
ولكن مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع في العقود الأخيرة، زاد السكان المسنون من الضغط على أسعار الفائدة. وأصبح من الواضح تدريجياً للشركات ووكالات القطاع العام ما هي خطط معاشات db للعمال، وكيف سيكون من الصعب على أصحاب العمل الوفاء بوعودهم.