يُطلق الأوكرانيون قذائف مدفعيتهم بوتيرةٍ أسرع بمراحل من قدرة حلفائهم في الناتو على تصنيع تلك الذخائر، وذلك وفقاً لتقديرات وزارات الدفاع الغربية. كما جرى شحن عشرات الملايين من طلقات الرصاص، وملايين القنابل اليدوية، وعشرات الآلاف من الصواريخ إلى كييف خلال الأشهر التسعة الماضية.
ونتيجةً لذلك بدأ مخزون الذخيرة في التراجع بمختلف أرجاء القارة. ويُمكن القول إن التحالف دخل متأخراً في سباقٍ مع الزمن لإعادة تشكيل صناعات الأسلحة استعداداً لمستقبلٍ من الحروب البرية مرتفعة الحدة، وذلك بعد سنواتٍ من التركيز على الذخائر "الذكية" المخصصة لعمليات مكافحة الإرهاب، كما يقول تقرير لموقع defense news الأمريكي.
ندرة بالذخيرة لدى أوروبا بمختلف أنواعها
يقول كوستي سيلم، المسؤول البارز في وزارة الدفاع الإستونية، إن حالات نقص الذخيرة أصبحت "دراماتيكية" بعد عقودٍ من الإهمال. حيث صرّح لصحيفة The Times البريطانية قائلاً: "ركّزت جهود الدفاع الوطني لحلفاء الناتو خلال العقدين الماضيين على العمليات خارج المنطقة، حيث لا توجد الحاجة لكميات ضخمة من الذخيرة. ما أسفر عن انخفاضٍ حاد في مخزونها".
وأصبحت الذخيرة تُعاني من الندرة بمختلف أنواعها. إذ يوجد نقصٌ شديد في معروض الذخائر من عيار 155 مم التي تستخدمها المدفعية الغربية الحديثة في أوكرانيا، سواء مع دبابات PzH 2000 الألمانية أو غالبية مدافع هاوتزر الأمريكية.
وبدأت الفجوات تظهر حتى داخل مخازن الذخيرة الضخمة للجيش الأمريكي. إذ شحن البنتاغون نحو مليون طلقة مدفعية عيار 155 مم إلى أوكرانيا، ويقول الآن إن مخزونه من تلك الذخيرة أصبح "منخفضاً بدرجةٍ مزعجة". فضلاً عن التراجع السريع في مخزون صواريخ مثل توماهوك وهاربون الخاصة بالسفن، وقاذفات الصواريخ المتعددة متوسطة المدى، وأنظمة جافلن وستينغر المحمولة على الكتف.
ونقلت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية قبل عدة أيام أن واشنطن تخلّفت عن تسليم شحنات أسلحة لتايوان بقيمة 5 مليارات دولار، وتضم تلك الشحنات 208 منظومات جافلن و215 ستينغر، لكن تلك الشحنات لم تُصنّع بعد.
ألمانيا أكثر المتضررين
فيما قالت مصادر دفاعية ألمانية إن هناك حالات نقص واسعة الانتشار في قذائف الدبابات، ومختلف أعيرة الرشاشات المتوسطة التي تستخدمها المدافع الآلية فوق العربات المدرعة. ومن الصعب كذلك الحصول على بعض أنواع الذخائر المتخصصة. وتشعر الحكومة الألمانية بالغضب من نظيرتها السويسرية لأنها حظرت تصدير المزيد من ذخائر مدافع جيباد المضادة للطائرات، حيث شحنت ألمانيا تلك الذخائر إلى أوكرانيا، ويُقال إنها كانت شديدة الفاعلية في ساحة المعركة.
وأصبح الوضع شديد الخطورة لدرجة وجود مخاوف حيال قدرة أوروبا على التوفيق بين إمداد القوات الأوكرانية بالأسلحة خلال الأشهر المقبلة، وبين إعادة تسليح نفسها استعداداً لحربٍ برية مستقبلية في الوقت ذاته.
ولا شك أن طريق الخروج من هذا المأزق يتمثل في إنتاج المزيد من الذخيرة. لكن الأقوال أسهل من الأفعال. ويرجع السبب الأول إلى أن العديد من الدول الأوروبية لم توفر المال اللازم أو تطلب كميات ذخيرة مجدية من صناعة الدفاع، حتى بعد مُضيّ تسعة أشهر على الحرب في أوكرانيا.
تعويض النقص يحتاج لسنوات
بينما يرجع السبب الآخر إلى أن غالبية المصنعين حُرموا من الاستثمارات على مدار العقود الثلاثة الماضية، ما سمح للشركات الأجنبية من تركيا وكوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا بتثبيت أقدامها. وأصبحت الصين المصدر الرئيسي للحصول على بعض المكونات الأساسية مثل البارود والصوف القطني المخصص للاستخدامات العسكرية.
وقال سيلم: "جرى تقليص القدرات التصنيعية وأصبحت منخفضةً للغاية. ويمكن أن يكون الاستهلاك الفعلي لذخائر المدفعية (بواسطة القوات المسلحة الأوكرانية) أعلى بأضعاف من معدل الإنتاج الفعلي لأوروبا في أي يومٍ بعينه. ما يعني أن بذل جهدٍ إضافي لصنع المزيد من الذخائر عيار 155 مم لن يكون كافياً ببساطة. فعندما نتحدث عن مصانع المدفعية والذخائر، سنجد أننا بحاجة لبناء مصانع جديدة حتى نبلغ المعدلات الكافية.
وأضاف أنه "من الواضح أن هذا الاستثمار الرأسمالي سيستغرق بعض الوقت. وإذا بدأنا التحرك بسرعةٍ كبيرة اليوم، فستُشير التوقعات الواقعية إلى حل المشكلة بحلول عام 2025 أو بعده".
وسيمثل هذا الأمر تحدياً حتى لو كانت الظروف الاقتصادية مشمسة. بينما تعاني صناعة الدفاع من كافة أشكال القوى التضخمية التي تخطر في البال، ومنها: ارتفاع أسعار الطاقة، ونقص أشباه الموصلات، وارتفاع تكاليف المواد الخام، والنقص الاستثنائي في سوق الأيدي العاملة الماهرة من مهندسين وفنيين.
حيث قال وولفغانغ هيلميتش، عضو الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني ورئيس لجنة الدفاع البرلمانية ورئيس مؤتمر برلين الأمني: "جرِّب أن تشتري النحاس من الأسواق في الوقت الحالي. لن تجد سوى كميات قليلة منه، وبأسعارٍ باهظةٍ للغاية".
ولهذا السبب لا توجد سوى شركات قليلة في أوروبا تستطيع تصنيع خراطيش القذائف. ونلاحظ الأزمة الآن نتيجة تداخل عدة مشكلات في الوقت الحالي. وتتمثل إحدى المشكلات في اختناقات سلسلة التوريد بالصين، بالإضافة إلى الاستهلاك المرتفع للذخيرة بسبب الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن إدراك الغرب لحقيقة أن المخزون كان نادراً للغاية بالفعل منذ البداية. وتحدث كل تلك الأمور في آنٍ واحد معاً، ما يُشير إلى وجود ضغوط كبيرة لإصلاح تلك المشكلات على وجه السرعة".
ذخيرة ألمانيا لن تصمد لأكثر من يومين في حالة الحرب
وتُعاني ألمانيا تحديداً من مشكلتها الخاصة. إذ كانت الفجوات المتسعة في مخزون ذخائرها سراً مكشوفاً على مدار أكثر من عقد. وتحتاج البلاد لذخيرة بقيمة تتراوح بين 20.9 مليار دولار و31.4 مليار دولار حتى تُلبي الحد الأدنى من متطلبات أعضاء حلف الناتو، الذي يُلزمها بامتلاك مخزونٍ كافٍ لخوض حرب برية مرتفعة الحدة لمدة 30 يوماً على الأقل. وقدّر بعض المحللين أن ذخيرة الجيش الألماني بوضعها الحالي لن تصمد لأكثر من يومين في حالة الحرب.
بينما قالت سارة ناني، المتحدثة الدفاعية باسم حزب تحالف "الخضر" في البوندستاغ: "كان من الواضح أن الطريق لا يزال طويلاً أمام ألمانيا لتحقيق أهداف الناتو على صعيد الذخيرة، حتى قبل الـ24 من فبراير/شباط. لكنني لا أفهم لماذا نسخر كل جهودنا الممكنة لتحريك الأمور بسرعة أكبر بعد الـ24 من فبراير/شباط على الأقل".
ولا شك أنه أمرٌ يصعُب تفسيره. إذ سألت وزارة الدفاع الألمانية نحو 250 شركة ذخيرة محلية عن الكميات التي يمكنها إمدادها، وذلك بعد أيام من الهجوم الروسي على أوكرانيا. ومن المفهوم أن الجيش الألماني أعدّ منذ ذلك الحين قائمة مشتريات مفصلة، بفضل التمويل المُخصّص له بقيمة 104 مليارات دولار أمريكي. لكن محتويات قائمة المشتريات المذكورة لا تزال سريةً للغاية، ولم تتعاقد الحكومة على أي طلبيات كبيرة حتى الآن بحجة قيود الميزانية، ما أثار استياء مصنعي الأسلحة. وجرى حتى الآن التعاقد على شراء ذخائر بقيمة 1.15 مليار دولار فقط من أجل العام المقبل.
إحباط متزايد وحلول صعبة
واحتدم الإحباط المتزايد في الأشهر الأخيرة خلال "قمة الذخيرة" التي عُقِدَت داخل المستشارية الاتحادية الألمانية يوم الإثنين، 28 نوفمبر/تشرين الثاني. حيث اتهم لارس كلينغبايل، الرئيس المشارك للحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، صناعة الدفاع الألمانية بالفشل في إعادة بناء قدراتها المستنزفة بعد اندلاع الحرب. كما هدد كلينغبايل الصناعة الألمانية باستيراد الذخيرة من الدول الأخرى إذا لم تستجمع شتاتها. لكن لم يتضح حتى الآن من أين سيأتي المال لتغطية طلبات الذخيرة، حيث أن المشروعات الأخرى استنزفت الغالبية العظمى من التمويل المخصص للتسليح.
بينما يقول حلفاء أولاف شولتز إن استعادة قدرات الحرب البرية الألمانية ستمثل تحدياً معقداً للغاية، خاصةً بعد 30 عاماً من التقليص والرضا بالحال. وقال هيلميتش: "تُعَدُّ عملية تغيير المسار عمليةً واسعة النطاق، وستستغرق بعض الوقت".
لكن الصبر بدأ ينفد. إذ قال سيباستيان شولته، محرر مجلة Griephan العسكرية الألمانية: "يحتاج أي جيشٍ في العالم للذخيرة، سواء الجيش البريطاني أو الألماني. حيث نحتاجها في وقت السلم من أجل التدريبات، كما نحتاج لكميات كبيرة منها في المخازن تحسباً لاندلاع حربٍ لا يريدها أحد. ويفهم الجميع ذلك. لكن المواطن العادي لا يفهم لماذا لا تؤدي الحكومة ووزارة الدفاع هذه المهمة".