لا تبدو بلدة كابان، وهي مجتمع تعدين خامل يقع في جبال جنوب شرق أرمينيا، وكأنها مركز محتمل للدبلوماسية الدولية. لكن في أكتوبر/تشرين الأول، اجتمع المسؤولون الأرمن في ساحتها المركزية لقص شريط قنصلية جديدة تماماً، والترحيب بالوفد القادم من إيران.
تبعد أحدث بعثة دولية لطهران على بُعد 3 كيلومترات تقريباً من الحدود مع أذربيجان. وتقع منطقة سيونيك الأرمنية المحيطة – وعاصمتها كابان – في قلب النزاع المتزايد بين يريفان وباكو، اللتين خاضتا حرباً قصيرة، لكن دموية، في عام 2020 حول منطقة ناغورنو كاراباخ المتنازع عليها. والآن، تنخرط طهران في الخلاف وتلقي بدعمها السياسي والعسكري وراء يريفان.
لماذا توسع إيران نفوذها في أرمينيا؟
قبل أيام من افتتاح القنصلية، أعلن الحرس الثوري الإيراني أنَّ قواته تنفذ مناورات "ضخمة" على الحدود الإيرانية مع أذربيجان. وبحسب العميد الإيراني محمد باكبور، صُممَت التدريبات لإرسال رسالة "سلام وصداقة" إلى دول المنطقة، مع إظهار قدرتها على "الرد بحسم على أي تهديد".
باعتبارها ديمقراطية ليبرالية نسبياً وتفتخر بكونها أول "دولة مسيحية" في العالم، فإنَّ أرمينيا شريك غير محتمل لإيران. ومع ذلك، بعد تعرض البلدات والقرى الأرمينية على طول الحدود لقصف مكثف من أذربيجان لفترة وجيزة في سبتمبر/أيلول، تبحث يريفان عن الدعم أينما وجدته، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
على الرغم من عضوية يريفان في الكتلة العسكرية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تقودها موسكو، رفضت روسيا حتى الآن دعوات أرمينيا للتدخل. وفي هذه الأثناء، تبدو إيران أكثر من حريصة على ملء فراغ السلطة وفتح جبهة أخرى ضد أذربيجان وداعمتها تركيا، التي لا تثق بها إيران منذ فترة طويلة وتعتبرها منافساً محتملاً في المنطقة.
فراغ للنفوذ روسي تملأه إيران
ويبدو أنَّ الكرملين، المشتت بسبب حربه في أوكرانيا، غير راغب أو غير قادر على التصرف كضامن أمني ليريفان، على الرغم من أنَّ عضويته في منظمة معاهدة الأمن الجماعي تُلزمه بالتدخل إذا تعرض شريكه للهجوم.
وأدى قرار روسيا بعدم إرسال قوات إلى البلاد بعد اشتباكات سبتمبر/أيلول إلى احتجاجات حاشدة في يريفان، دعا خلالها المتظاهرون الأرمن إلى الانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أنَّ المحادثات حول ممر زنجيزور -الذي يربط تركيا مع حليفتها أذربيجان عبر أرمينيا- تجري مع موسكو، وليس يريفان، وأنَّ أرمينيا لن تكون قادرة على رفض الخطة إذا كان الكرملين على متنها.
وفي اجتماع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في يوليو/تموز، حذر المرشد الأعلى للبلاد، آية الله علي خامنئي: "إذا كانت هناك محاولة لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا، فإنَّ الجمهورية الإسلامية ستعارض ذلك؛ لأنَّ هذه الحدود كانت طريق اتصال لآلاف السنين".
وعلّق حسين باناي، الأستاذ المشارك في جامعة إنديانا بلومنغتون والمتخصص في المنطقة: "طهران لا تريد أن تعمل تركيا على عسكرة أو تأمين ممر زنجيزور الحدودي، ولا أن يصبح غير قابل للتفاوض عليه مع أذربيجان. أعتقد أنَّ هذا ما تحاول تحقيقه من خلال افتتاح القنصلية. إيران تتقدم الآن لأنَّ قادتها لا يشعرون أن روسيا تفعل ما يكفي لإبقاء الجميع تحت السيطرة"، حسب تعبيره.
مخاوف إيران من أذربيجان
وازداد قلق إيران أيضاً بشأن العلاقات الوثيقة بين أذربيجان وإسرائيل؛ إذ بدأ البلدان تبادل التكنولوجيا العسكرية، وتوفر باكو بالفعل 40% من احتياجات البلاد من الطاقة. وقال النائب الإيراني محمد صفائي، في أكتوبر/تشرين الأول، إنَّ "الصهاينة يسعون لتقويض نفوذ الجمهورية الإسلامية في آسيا الوسطى، لكنهم لن ينجحوا أبداً".
ووفقاً الأستاذ باناي، فإنَّ "سياسة إيران الخارجية هي امتداد لجنون العظمة الداخلي لديها". وقال إنَّ تصرفات طهران في الخارج تسعى إلى إقامة "مناطق عازلة للمقاومة ضد ما تعتبره مخططات صهيونية وإمبريالية غربية على أراضيها".
في نوفمبر/تشرين الثاني، وجّه رئيس أذربيجان إلهام علييف انتقادات ضمنية لمعاملة إيران لمجتمعها الأذربيجاني، قائلاً إنَّ "أمنهم وحقوقهم ورفاههم لها أهمية قصوى بالنسبة لنا وسنواصل بذل كل ما في وسعنا لمساعدة الأذربيجانيين الذين وجدوا أنفسهم معزولين عن دولتنا".
وظهرت عدة مجموعات احتجاجية تطالب المجتمع الأذربيجاني في إيران بالانفصال عن طهران والانتقال تحت حكم باكو بدلاً من ذلك، بينما شنت قوات الأمن التابعة لعلييف حملة اعتقالات بعد تفكيك ما زعمت أنها خلية نفوذ إيرانية.
وقال رصف حسينوف، عضو هيئة التدريس المساعد في الأكاديمية الدبلوماسية الأذربيجانية ومدير مركز توبشوباشوف للأبحاث ومقره باكو لفورين بوليسي: "الحديث الأخير الذي سمعناه من الرئيس علييف تطور جديد. ففي الماضي، كان القادة الأذربيجانيون حذرين للغاية في خطاباتهم، ويحرصون على عدم إثارة غضب إيران. هذا أمر غير مسبوق، وأرى أنه رد فعل على هذا النهج التخريبي من إيران".
وأضاف حسينوف أنَّ مصالح إيران في الحفاظ على الوضع الراهن تأتي من مخاوفها من أنه "عندما ينتهي الصراع مع أرمينيا، ستكون أذربيجان قوية بما يكفي لتكون أكثر جاذبية للآذريين الإيرانيين وتشكل خطراً على أمن إيران". بالنسبة لطهران، يبدو أنَّ باكو تكون أقل تهديداً إذا استمر الصراع الداخلي يضرب بجذوره عميقاً على أراضيها، ويسلبها القدرة على بناء الجسور مع مواطنيها المحتملين عبر الحدود.
أسباب أخرى تدفع إيران لتوثيق نفوذها في أرمينيا
مع ذلك، هناك أسباب أخرى دفعت إيران إلى توثيق العلاقات مع أرمينيا، وهي واحدة من الدول الصديقة الوحيدة في جوارها المباشر؛ وهي الفوائد التي تأتي من علاقات يريفان المحايدة مع الغرب.
قال ديفيد هوفهانيسيان، الدبلوماسي الأرميني السابق الذي يشغل الآن منصب مدير قسم الدراسات العربية في جامعة يريفان الحكومية: "الحكومة الإيرانية تستخدم أرمينيا كنقطة اتصال مع العالم الخارجي". ووفقاً لهوفهانيسيان، يذهب كبار الشخصيات في النظام إلى أرمينيا للحصول على فترة راحة نادرة من قيود حكومتهم، وهم يغضون الطرف عن الإيرانيين الآخرين الذين يفعلون الشيء نفسه. وأوضح: "يمكنهم القدوم إلى هنا، وشراء سلع غير متوفرة هناك، والاستماع إلى موسيقانا، وشرب الكحول، وما إلى ذلك".
وفرضت واشنطن عقوبات على شركتين أرمينيتين تزعم أنهما تصرفتا ضد المصالح الأمريكية من خلال التجارة عبر الحدود مع إيران؛ مما أدى إلى تكهنات بأنَّ الشركات في البلاد تساعد طهران في التحايل على القيود المفروضة على استيراد المعدات الحساسة وغيرها من السلع.
في الوقت نفسه، لطالما قدمت المؤسسات المالية في أرمينيا شريان حياة محتملاً للبنوك والمستثمرين الإيرانيين الذين يحاولون نقل الأموال إلى داخل البلاد أو خارجها. كما زار وفد تجاري رفيع المستوى من طهران أرمينيا في مارس/آذار كجزء من الجهود المبذولة لتعزيز العلاقات الاقتصادية واستعادة الإيرادات التي تشتد الحاجة إليها.
علاقات تتجاوز التوافق الأيديولوجي
لكن في النهاية، يبدو أنَّ العلاقات تتعلق بالراحة أكثر من التوافق الأيديولوجي. قال زهراب مناتساكانيان، الذي أشرف على سياسة توثيق العلاقات مع إيران حين كان وزير خارجية أرمينيا من 2018 إلى 2020، إنَّ هذه الشراكة عملية نظراً للخوف من جيرانهم وتجدد الأعمال العدائية الإقليمية. وصرح لمجلة Foreign Policy: "مع استمرار التوترات في المنطقة، فإنَّ تلاقي مصالح أرمينيا وإيران في ظل هذه الظروف يتعلق ظاهرياً بأمن حدودهما المشتركة".
ويحذر باناي، على الأقل، من أنَّ المجتمع الدولي يجب أن يشعر بالقلق من أن تستغل طهران ضعف يريفان لتقوية موقفها. وقال: "يمكن أن تصبح المنطقة بسهولة بؤرة ساخنة مع تفاقم الوضع الداخلي في إيران. ومع مواجهة النظام الإيراني لمقاومة شرسة على نحو متزايد في الداخل، يمكن أن تزداد أفعاله في الخارج عدوانية – مع عواقب خطيرة محتملة بالنظر إلى هشاشة السلام في جنوب القوقاز".
وأضاف باناي: "مأساة هذا الوضع هي أنه بينما لدينا هذه المنافسة الشرسة بين القوى العظمى، فإنَّ أرمينيا ليس لديها خيار سوى الحصول على ما في وسعها من هذا التحالف البغيض؛ لأنها محاصرة في الزاوية". لكن ما قد تعتبره أرمينيا ضرورة مؤسفة، تبدو إيران عازمة على التعامل معه على أنها فرصة كبيرة.