حققت الصين انتصاراً هاماً في حربها ضد الولايات المتحدة بشأن تايوان، والانتصار هذه المرة جاء دون إطلاق رصاصة واحدة، فلماذا تمثل نتائج الانتخابات المحلية في الجزيرة لطمة على وجه إدارة جو بايدن؟
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنها ستستعيد الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك، ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها مؤخراً، في ظل إرسال الجيش الصيني عدداً قياسياً من الطائرات الحربية بالقرب من الجزيرة.
ما قصة انتخابات تايوان؟
يتولى الحزب الديمقراطي التقدمي الحكم في تايوان حالياً، ورئيسة البلاد تساي إينغ وين تسعى بكل قوة إلى تكريس انفصال الجزيرة عن الصين والاعتراف بتايوان كدولة مستقلة على المستوى الدولي. أما الحزب الرئيسي المعارض فهو حزب كومينتانغ، وهو حزب يتبنى سياسات تعتبر تايوان جزءاً من الصين يتمتع بحكم ذاتي.
وفي هذا السياق العام، شهدت الجزيرة انتخابات محلية لاختيار رؤساء البلديات والمحليات في تايوان، جاءت نتيجتها بمثابة الصفعة المباشرة على وجه الرئيسة تساي إينغ وين، بعد أن فقد حزبها الحاكم منصب 13 رئيس بلدية ومقاطعة لصالح حزب كومينتانغ في أنحاء الجزيرة، بما في ذلك العاصمة تايبيه، ولم يحقق الفوز إلا في 5 بلديات ومقاطعات فقط. وكان حزب كومينتانغ قد حقق نتائج مماثلة في الانتخابات المحلية السابقة في 2018.
وعلى الرغم من أنها انتخابات محلية يفترض أنها تتمحور بالأساس حول سياسات محلية بحتة ولا علاقة لها بالسياسة الخارجية للدولة، إلا أن تساي إينغ وين كانت قد وضعت استراتيجية للحزب الحاكم، تصور تلك الانتخابات على أنها فرصة لرفع راية التحدي الشعبي في وجه ما تصفه بالنوايا العدوانية من بكين تجاه تايبيه.
وفي اعتراف مباشر من الرئيسة بفشل استراتيجيتها، أعلنت إينغ وين، السبت 26 نوفمبر/تشرين الثاني، استقالتها من رئاسة الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم، وقالت للصحفيين في مقر الحزب أثناء إعلانها استقالتها من منصب رئيسة الحزب: "جاءت النتائج عكس توقعاتنا. نتقبل النتائج بكل تواضع ونقبل قرار الشعب التايواني"، بحسب رويترز.
وأضافت تساي، التي ستستمر في منصب الرئيس حتى عام 2024، "فشل الحزب الديمقراطي التقدمي من قبل… لا وقت لدينا لنشعر بالأسف. خسرنا (الانتخابات)، لكننا سنقف على أقدامنا مرة أخرى".
وقالت رئيسة تايوان إنها رفضت استقالة رئيس الوزراء سو تسينغ تشانغ، وهو أيضا عضو بارز في الحزب الديمقراطي التقدمي، مضيفة أنها طلبت منه البقاء في منصبه لضمان تنفيذ سياساتها بشكل صحيح. وقال مجلس الوزراء إن سو وافق على البقاء بسبب الحاجة إلى الاستقرار وسط الظروف المحلية والدولية "الصعبة".
استقالة تساي من رئاسة الحزب الحاكم في تايوان ليست المرة الأولى، فقد أعلنت استقالتها أيضاً في أعقاب بعد النتائج السيئة في نفس الانتخابات المحلية عام 2018.
ما علاقة انتخابات تايوان بالصراع الصيني-الأمريكي؟
يمكن تلخيص إجابة هذا السؤال في الصورة العامة للصراع الحالي بين أمريكا والصين، فواشنطن تعتبر أن بكين أصبحت قوة عظمى منافسة لها على المسرح العالمي، وتهدد النظام الحالي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفييتي. وترى الصين أن النظام العالمي الحالي لم يعد صالحاً ولا بد من تغييره ليسود نظام متعدد الأقطاب.
في القلب من هذا الصراع تأتي تايوان، حيث تروج واشنطن لما تقول إنه نظام ديمقراطي يحفظ حقوق الإنسان وهو ما تتمتع به الجزيرة ذاتية الحكم، تحت قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي برئاسة تساي إينغ وين، وبالتالي فإن تزويد إدارة جو بايدن لتايبيه بالسلاح ووعود بايدن نفسه بالوقوف عسكرياً أمام أي تحرك صيني "لغزو" تايوان بالقوة، يتم الترويج له على أنه دفاع عن إرادة الشعب التايواني بالأساس مما يعطي الإدارة الأمريكية اليد العليا أخلاقياً في هذا الصراع.
فالعلاقات بين واشنطن وتايبيه لم تكن على هذا القدر من التقارب على الإطلاق، منذ اعتراف الولايات المتحدة ببكين ممثلاً رسمياً للصين وسحب اعترافها بتايوان كدولة، وكان ذلك قبل عقود طويلة مضت. خلال تلك العقود كانت واشنطن، ومنذ ما يعرف بدبلوماسية البينغ بونغ في سبعينيات القرن الماضي، تقيم علاقات ودية مع بكين حتى تبعدها عن أي احتمال للتحالف مع موسكو.
وتعتمد واشنطن سياسة "الصين الواحدة" في سياستها الخارجية تجاه بكين وتايبيه، بمعنى أنها لا تعترف بتايوان كدولة مستقلة، لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت تتبع سياسة "الغموض الاستراتيجي"، بمعنى عدم الإفصاح عن موقف واشنطن إذا ما أقدمت بكين على إعادة توحيد الجزيرة مع بر الصين الرئيسي بالقوة.
لكن الأمور اختلفت تماماً خلال السنوات القليلة الماضية، وأعلنت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، حرباً تجارية على الصين، ثم جاءت إدارة بايدن لتعلن الصين "منافساً استراتيجياً" لأمريكا وتبدأ مرحلة جديدة من صراع القوى الكبرى.
وفي القلب من هذا الصراع تأتي تايوان، حيث ترفع إدارة الجزيرة الحالية شعار "الاستقلال الكامل" وتوسع من فتح مكاتب تمثيل دبلوماسي لها حول العالم وتسعى للانضمام إلى عضوية المنظمات الدولية، وكل هذا بدعم أمريكي، وهو ما يثير غضب الصين، التي يصف رئيسها شي جين بينغ قضية تايوان بأنها "الخط الأحمر الذي لن تسمح بكين أبداً بتجاوزه".
ووصف تحليل لشبكة CNN الأمريكية نتائج الانتخابات الأخيرة بأنها "صفعة على وجه تساي"، التي حاولت تصويرها على أنها "فرصة لإرسال رسالة تحدٍّ في وجه الصين ونواياها العدوانية تجاه الجزيرة".
لماذا تعتبر نتائج الانتخابات انتصاراً للصين؟
على الرغم من أن انتخابات رؤساء البلديات ورؤساء المقاطعات وأعضاء المجالس المحلية في تايوان تتعلق بقضايا داخلية، مثل جائحة كوفيد-19 ومكافحة الجريمة، ولن يكون للفائزين فيها رأي مباشر في سياسة التعامل مع الصين، إلا أن تساي صورت الانتخابات على أنها أكثر من مجرد اقتراع محلي، وقالت إن العالم يراقب كيف تدافع تايوان عن ديمقراطيتها، وسط التوتر العسكري مع الصين.
وركز كل من الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب كومينتانغ، الذي يفضل إقامة علاقات وثيقة مع الصين على الرغم من نفيه كونه موالياً لبكين، جهود حملتيهما على منطقة شمال تايوان الغنية والمكتظة بالسكان، وخصوصاً العاصمة تايبيه، التي لم يتمكن رئيس بلديتها المنتمي إلى الحزب الشعبي التايواني الصغير من الترشح مجدداً نظراً لاستنفاده أقصى مدة في المنصب.
ويتهم حزب كومينتانغ تساي والحزب الديمقراطي التقدمي بالإفراط في التصادم مع الصين. وركز حزب المعارضة الرئيسي حملته على انتقاد تعامل الحكومة مع تفشي وباء كوفيد-19، وخصوصاً بعد ارتفاع عدد الإصابات هذا العام.
وفي هذا السياق تعتبر الهزيمة الساحقة لحزب تساي انتصاراً هاماً للصين بطبيعة الحال، وهذا ما عبرت عنه بكين بالفعل؛ إذ قال مكتب شؤون تايوان في الصين إن النتائج أظهرت "أن التوجه الرئيسي للرأي العام في الجزيرة هو للسلام والاستقرار والحياة الهانئة".
وأضاف في بيان نشرته وكالة الإعلام الرسمية شينخوا أن بكين ستواصل العمل مع شعب تايوان في توطيد علاقات السلام ومعارضة استقلال الجزيرة والتدخل الأجنبي بحزم.
والتدخل الأجنبي هنا مقصود به واشنطن بالطبع، التي تعتبرها الصين المحرض الأول لتساي وحكومتها على رفع راية التحدي في وجه بكين. فالتوتر العسكري بين الصين وتايوان كان قد وصل إلى مستوى غير مسبوق في أعقاب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، للجزيرة مطلع أغسطس/آب الماضي، وهي الزيارة التي اعتبرتها الصين تجاوزاً غير مقبول للخط الأحمر، وفرضت حصاراً شبه كامل على تايوان وفرضت أمراً واقعاً جديداً لم يكن موجوداً قبل تلك الزيارة.
ترجع آخر زيارة من هذا النوع لمسؤول أمريكي بارز لتايوان إلى أكثر من ربع قرن، وكان الزائر أيضاً رئيساً لمجلس النواب، وهو الجمهوري نيوت غينغريتش. لكن شتان بين الزيارتين على جميع المستويات، إذ كانت دوافع زيارة غينغريتش، والتي أثارت غضب الصين أيضاً، مرتبطة بتجاذبات سياسية داخلية في واشنطن وليست دعماً مباشراً لاستقلال تايوان، على عكس زيارة بيلوسي الأخيرة، والتي وصفتها بكين بأنها "لعب بالنار".
وفي ظل تبقي عامين في رئاسة تساي لتايوان وكذلك رئاسة بايدن، قبل الانتخابات في يناير/كانون الثاني للأولى ونوفمبر/تشرين الثاني 2024 للثاني، من المرجح أن يشهد العامان استمراراً للتوتر الشديد بين تايبيه وبكين، التي أعلنت أنها لن تنتظر للأبد لإعادة توحيد الجزيرة سلمياً.
لكن الصين الآن تشعر أنها في موقف أقوى بكثير مما كانت عليه الأمور قبل الانتخابات التايوانية، فالتقارير الأمريكية كانت تظهر أن غالبية سكان الجزيرة يكرهون الصين ويريدون الاستقلال، لكن النتائج أظهرت ما يمكن تفسيره على أنه العكس تماماً.
وفي هذا السياق، بدأ الاهتمام يتحول إلى الانتخابات الرئاسية التي تجري في تايوان في عام 2024، إذ قال إريك تشو رئيس حزب كومينتانغ للصحفيين مساء السبت إن الحزب أدرك أنه لا يمكنه الفوز إلا من خلال الاتحاد فقط. وأضاف: "لقد منحنا شعب تايوان فرصة. إنكار الذات هو الفرصة الوحيدة لفوز حزب كومينتانغ بانتخابات عام 2024".