بينما تتواصل إثارة وإبهار كأس العالم في قطر، تتواصل أيضاً معارك بريطانيا بسبب مجتمع الميم من خلال قرار لندن منع إعلانات سياحية للدولة الخليجية على وسائل النقل العام في العاصمة البريطانية، وردّ الدوحة بمراجعة استثماراتها هناك.
كانت صحيفة The Financial Times البريطانية قد نشرت السبت، 26 نوفمبر/تشرين الثاني، تقريراً عنوانه "قطر تراجع استثماراتها في لندن بعد حظر إعلاناتها الترويجية على الأتوبيسات ومترو الأنفاق"، ذكر أن الخطوة التي اتخذتها هيئة النقل بلندن جاءت نتيجة لما وصفته بالمخاوف بشأن موقف الدولة المستضيفة لكأس العالم لكرة القدم 2022 حيال حقوق "مجتمع الميم"، ومعاملتها للعمالة الوافدة.
وكانت صحيفة بريطانية أخرى هي The Economist قد نشرت مقالاً عنوانه "دفاعاً عن استضافة قطر لكأس العالم"، وذلك قبل ساعات من الافتتاح المبهر للنسخة رقم 22 من المونديال، فنّدت فيه المزاعم الغربية تجاه الدوحة، خاصة فيما يتعلق بأوضاع العاملين المهاجرين في الدولة الخليجية.
ما قصة حظر إعلانات قطر على أتوبيسات لندن؟
فايننشال تايمز نقلت عن أحد المصادر قوله إن هيئة النقل في العاصمة البريطانية، والتي يرأسها رئيس بلدية لندن، صادق خان، اتصلت هذا الأسبوع بلجنة قطر 2022، التي تُشرف على تنظيم بطولة كأس العالم وهيئة السياحة القطرية لإعلامهما بقرار حظر الإعلانات.
وقال متحدث باسم الهيئة إنها أرسلت قبل بطولة كأس العالم إلى المعلنين من شركائها والعلامات التجارية "تعليمات إضافية بشأن الإعلانات التي من المرجح أن نعتبرها مناسبة للتنفيذ أثناء البطولة، بينما نتأكد أيضاً ألا يُحرم مشجعو كرة القدم من فرصة تشجيع فرقهم"، وأضاف "نواصل مراجعة كل حملة إعلانية على حدة".
وقالت الهيئة إن الإعلانات التي تروّج للسفر إلى قطر أو السياحة في قطر أو تصور قطر على أنها وجهة مفضلة، لن تعتبر مقبولة. بينما قال المصدر للصحيفة البريطانية إن الحظر الذي فرضته هيئة النقل "فُسِّر على أنه رسالة من مكتب العمدة بأن أنشطة الأعمال القطرية غير مرحَّب بها في لندن".
وأكد تقرير فايننشال تايمز أن قطر بدأت بالفعل مراجعة استثماراتها في لندن بعد هذا الحظر، الذي يمنع الإعلانات السياحية للدولة الخليجية على الحافلات والسيارات الأجرة وقطارات الأنفاق بالعاصمة الإنجليزية.
وتعتبر قطر واحدة من أكبر المستثمرين في العاصمة البريطانية من خلال صندوقها للثروة السيادية، التي تتخطى أكثر من 53 مليار دولار. إذ يمتلك جهاز قطر للاستثمار سلسلة متاجر هارودز وناطحة السحاب شارد، كما أنه شريك في ملكية حي كناري وارف للأعمال. وتمتلك الدولة الخليجية فندقي سافوي وجروفنر هاوس وحصة 20% في مطار هيثرو و14% في سينسبري ثاني أكبر مجموعة لمتاجر التجزئة في بريطانيا.
ومن المرجح أن تفتح المراجعة القطرية للاستثمارات في لندن الباب أمام مراجعات أخرى لدول خليجية أخرى تمتلك أيضاً استثمارات كبيرة هناك، خصوصاً أن قضية ما يُعرف باسم حقوق "مجتمع الميم" مفتوحة على مصراعيها بالفعل بين الغرب عموماً والدول الإسلامية والعربية.
فخلال سبتمبر/أيلول الماضي، وجهت الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع ولجنة مسؤولي الإعلام الإلكتروني في دول مجلس التعاون الخليجي تحذيرات صارمة لمنصة نتفليكس الأمريكية على خلفية تناول المسلسلات والأفلام، التي تنتجها قضية المثلية الجنسية بصورة مكثفة، وهو ما أثار غضباً متصاعداً، انعكس عبر منصات التواصل الاجتماعي منذ فترة ليست بالقصيرة.
ما حجم استثمارات الخليج في بريطانيا؟
تعتبر الدول الخليجية، من خلال صناديق الثروة السيادية الخاصة بها، من أكبر المستثمرين في المملكة المتحدة عموماً، وفي إنجلترا وعاصمتها لندن خصوصاً. كما تبذل الحكومة البريطانية جهوداً مكثفة لاجتذاب مزيد من الاستثمارات الخليجية، في أعقاب الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي.
وخلال السنوات القليلة الماضية، ضخت الدول الخليجية ما يقرب من 200 مليار دولار استثمارات في المملكة المتحدة، بحسب مؤسسة UK Declassified، وهي مؤسسة صحفية بريطانية متخصصة في الصحافة الاستقصائية. وتنال لندن نصيب الأسد من تلك الاستثمارات، والتي تتنوع بين قطاعات العقارات والفنادق والمؤسسات الإعلامية ومتاجر التجزئة وغيرها.
ويقدر حجم التبادل التجاري بين المملكة المتحدة ودول الخليج الست، السعودية وقطر والكويت والإمارات والبحرين وعمان، بأكثر من 62 مليار دولار سنوياً، وهو ما يجعل دول مجلس التعاون الخليجي الشريك التجاري الرابع لبريطانيا بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين.
وتحتل السعودية المركز الأول خليجياً في الاستثمار الخليجي في المملكة المتحدة، إذ تبلغ استثمارات الرياض هناك نحو 60 مليار جنيه إسترليني، بينما تأتي قطر في المرتبة الثانية باستثمارات تتخطى 40 مليار جنيه إسترليني، ثم الإمارات في المركز الثالث باستثمارات تتخطى 25 مليار جنيه إسترليني، والكويت رابعاً باستثمارات تتخطى 17 مليار جنيه إسترليني، وأخيراً البحرين باستثمارات تبلغ نحو 2.5 مليار إسترليني.
كانت حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوريس جونسون، قد سعت للدخول في مفاوضات مع الدول الخليجية للتوصل إلى اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين، وهي المفاوضات التي انطلقت بالفعل في يونيو/حزيران الماضي، بحسب بيان نشره موقع الحكومة البريطانية.
وزيرة التجارة الدولية في الحكومة البريطانية، آن ماري تريفيليان، وصفت انطلاق تلك المفاوضات بأنها "المحطة المهمة التالية في هذه السنة التجارية المتميزة، حيث نعمل على تعزيز العلاقات الوثيقة بين المملكة المتحدة ودول الخليج".
بلغ حجم علاقتنا التجارية حالياً 33.1 مليار جنيه إسترليني في السنة الماضية وحدها. وإني أتطلع بشوق لفتح أسواق جديدة للشركات البريطانية، الكبيرة منها والصغيرة، بمجال المأكولات والمشروبات البريطانية الرائعة وخدماتنا المالية المتميزة، ودعم أكثر من 10 آلاف من الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم تصدّر منتجاتها إلى المنطقة.
هذه الاتفاقية التجارية من الممكن أن تدعم فرص العمل، من دوفر في بريطانيا إلى الدوحة، وتنمّي اقتصادنا في المملكة المتحدة، وتساهم في بناء قطاعات حيوية صديقة للبيئة وتقديم خدمات مبتكرة لدول الخليج.
فتوقيع اتفاقية بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يعود بالنفع الكبير على منتجي المأكولات والمشروبات البريطانيين، الذين بلغت صادراتهم في السنة الماضية ما قيمته 625 مليون جنيه إسترليني إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ويمكن أن تؤدي الاتفاقية إلى خفض كبير في الرسوم الجمركية أو إلغائها على صادرات المملكة المتحدة من المأكولات والمشروبات. كما أن الاستثمارات الخليجية في بريطانيا دعمت أكثر من 25 ألف وظيفة في المملكة المتحدة في 2019 – وهو رقم ارتفع بمعدل 3 أضعاف في العقد الماضي.
بدأت بريطانيا محادثات مهمة للوصول إلى اتفاق تبادل تجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي التي أصبحت هدفاً أساسياً للحكومة البريطانية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتشرف وزيرة التجارة آن ماري تريفيليان شخصياً على هذه المفاوضات التي تنطلق في الرياض مع ممثلي الدول الخليجية الست.
كيف قد تؤثر حرب بريطانيا "غير المفهومة" على كل ذلك إذاً؟
منذ اللحظة الأولى لانطلاق قطار بريكست عام 2016، أي مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، كان اجتذاب الاستثمارات الخليجية وتوسيع التبادل التجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي هدفاً بريطانياً معلناً.
فقد كانت أول وجهة قصدتها رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، مباشرة بعد استفتاء بريكست هي منطقة الخليج، إذ حلت ضيفة شرف على قادتها، والهدف هو الرفع من حجم المبادلات التجارية بين لندن والخليج، وضخ استثمارات خليجية أكبر في المملكة المتحدة.
كما استقبل بوريس جونسون، قبل أن يستقيل، أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي أعلن عن استثمارات قطرية قادمة إلى بريطانيا بقيمة 10 مليارات جنيه إسترليني (نحو 12.2 مليار دولار) خلال السنوات المقبلة، كما التقى جونسون أيضاً رئيسَ دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، وخلال اللقاء أعلنت أبوظبي عن استثمارات بقيمة 10 مليارات جنيه إسترليني في السنوات المقبلة.
وتأمل بريطانيا أن تغطي الاستثمارات الخليجية جزءاً من تراجع الاستثمارات الأجنبية الذي شهدته بريطانيا منذ سنة 2017.
لكن موقف بريطانيا الغريب وغير المفهوم فيما يتعلق بمسألة المثلية، على الأرجح يمثل خطراً على تلك العلاقات التجارية التي تطمح إليها المملكة المتحدة مع دول الخليج عموماً، وليس قطر فقط. فالمسألة هنا تتعلق بالدين والمبادئ الأخلاقية والقوانين، وليست خلافاً سياسياً يمكن تجاوزه في مرحلة ما.
والخلاصة هنا هي أن خطوة قطر بمراجعة استثماراتها في لندن، على الأرجح ستكون بداية تحرك خليجي صارم في هذا الاتجاه، خصوصاً أن الموقف البريطاني الغريب لا تبدو له نهاية وشيكة. فعلى الرغم من تواصل مباريات كأس العالم واستمرار الإبهار القطري في التنظيم والترحيب بالمشجعين من شتى أنحاء العالم، ها هي لندن تتخذ خطوة حظر الإعلانات، في تصعيد لم تقبل به الدوحة بطبيعة الحال.