تثمل الطاقة الهيدروكربونية أهمية كبيرة من الناحية الجيوسياسية اليوم، لكن أهميتها تتضاءل بالتزامن مع بدء تحوُّل الاقتصادات العالمية إلى أنظمة الطاقة الأكثر استدامة. وكما فعل النفط في الماضي، ستساعد المعادن الحرجة على دفع عمليات تحول الطاقة المذكورة.. فكيف يبدو شكل الصراع الدولي على هذه المعادن؟
حرب باردة على المعادن الحرجة
لا تُعَدُّ تلك المعادن مجرد واحد من المدخلات الصناعية المهمة فقط، بل تُعتبر من الموارد الأساسية اللازمة لبناء وإمداد ونشر الجيوش الحديثة وتقوية الاقتصادات التي ترعاها أيضاً، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
ولا تزال الجيوش المعتمدة على الوقود النفطي تلعب دوراً محورياً في فرض الهيمنة بالطبع. لكن الأمن القومي والاقتصادي أصبح معتمداً بدرجةٍ متزايدة على تقنيات متقدمة تستهلك المعادن الحرجة بكثافة، مثل المصفوفات الحاسوبية التي تدعم عمليات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.
وشكل الوصول إلى خطوط إمداد الموارد الاستراتيجية -وتأمينها- السياسات الخارجية للاقتصادات الكبرى والقوى العسكرية على مدار التاريخ، وهو الأمر الذي سيستمر مستقبلاً. لكن السؤال يتمحور حول ما إذا كانت الضرورات المرتبطة بالموارد ستُسفر عن عودةٍ إلى ديناميات الحرب الباردة، التي دارت حول التنافس على الموارد.
إذ ربما تنتقل هذه العدوى إلى المعادن الحرجة مثل الليثيوم، والكوبالت، وعناصر الأرض النادرة، والنيكل، والغرافيت، وغيرها. وتشير ثلاثةٌ من العوامل إلى أن الجغرافيا السياسية للمعادن الحرجة ستكون أقل احتداماً من تلك المرتبطة بالنفط والغاز. بينما ترسم ثلاثة عوامل أخرى صورةً تنذر بالسوء.
ولا تستهلك مصادر الطاقة المتجددة المعادن الحرجة بصفةٍ مستمرة، بل تمثل تلك المعادن مجرد مدخلات في البنية التحتية لتسهيل إنشاء وتخزين طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة الحرارية الجوفية، والطاقة الكهرومائية، وغيرها من أشكال الطاقة المتجددة. وربما يؤدي فقدان الوصول إلى المعادن الحرجة إلى تقليل فرص توسيع قدرتها أو إصلاح بنيتها التحتية القائمة، لكنه لن يُترجم بصورةٍ فورية إلى النوع نفسه من أزمات الطاقة الشاملة التي أحدثها حظر النفط العربي عام 1973 أو حتى الهجوم الروسي على أوكرانيا.
من يستحوذ على المعادن الحرجة؟
هناك اختلافٌ كبير بين هياكل ملكية المعادن الحرجة والهيدروكربونات؛ إذ تتباين التقديرات في هذا الصدد، لكن نسبة احتياطيات النفط والغاز التي تخضع لسيطرة شركات النفط الوطنية تتراوح بين الثلثين والـ80%.
ولا تتصرف تلك الشركات عادةً مثل الشركات التقليدية، التي تتفاعل مع مؤشرات السوق. كما تُعَدُّ تصرفات الشركات الحكومية بمثابة امتدادٍ لمصالح حكوماتها. بينما يختلف هيكل ملكية المعادن الحرجة نوعاً ما؛ إذ تستحوذ الشركات الخاصة والعامة على حصصٍ أكبر بكثير من تلك الموارد؛ حيث لا تتواجد الشركات المملوكة للحكومات ضمن أكبر ست شركات منتجة لليثيوم (التي تمثل 66% من السوق العالمية)، كما هو الحال مع أكبر خمس شركات منتجة للكوبالت (50%).
وتقع المقرات الرئيسية لبعض تلك الشركات في الصين، حيث يصعب لمس الفارق بين الشركات الحكومية والخاصة أحياناً. لكن تلك الشركات المنتجة للمعادن الحرجة لم تتصرف حتى يومنا هذا كامتدادٍ للمصالح الوطنية الخاصة بالحكومات المسيطرة عليها.
الأمر الآخر، يمكن إعادة تدوير غالبية المعادن الحرجة. ونستطيع الاستمرار في إعادة تدوير معادن كالنحاس للأبد، دون أن تفقد خصائصها. بينما ليس بالإمكان إعادة تدوير الوقود الهيدروكربوني بعد احتراقه. ولا شك أن إعادة التدوير الصناعية يمكن أن تقلل الاعتماد على الخام المُعدّن، مما يُقلل أهمية السيطرة على الرواسب المعدنية نفسها.
ويمكن القول إن حروب الاستيلاء على الموارد النفطية لم تكن شائعةً بقدر المفترض. لكن التشاحن حول السيطرة السياسية على مصادر المعادن كان من أهم العوامل المؤدية إلى تدخلات عصر الحرب الباردة في الدول الغنية بالمعادن، ومنها تشيلي والكونغو الديمقراطية وإندونيسيا.
وتبشر العوامل السابقة بجغرافيا سياسية تميزها درجة أقل من الصراعات على المعادن الحرجة. لكن لدينا ثلاثة عوامل أخرى تصب في الاتجاه المعاكس.
ويذكرنا العامل الأول منها بالجغرافيا السياسية للحرب الباردة. ويتمثل هذا العامل في أن درجة التعرض للمخاطر من جانب الولايات المتحدة والصين أصبحت أكثر تساوياً على صعيد المعادن الحرجة، بينما لم تكن متساويةً بهذه الدرجة مع النفط والغاز. ويُعَدُّ هذا الأمر مهماً لأن قرار اعتماد الولايات المتحدة على النفط إبان الحرب الباردة كان خياراً استراتيجياً بشكلٍ أساسي، وليس نتيجةً لمقتضيات الضرورة.
ولا خلاف على مدى صعوبة التفكير المغاير للواقع. لكننا نستطيع القول إن الجغرافيا السياسية للحرب الباردة كانت ستصير أكثر شراسة لو لم يكن الاتحاد السوفييتي ينعم بالاكتفاء الذاتي على مستوى الوقود الهيدروكربوني.
وفي القرن الـ21، أصبحت الولايات المتحدة قريبةً من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الوقود الهيدركربوني، بينما تعتمد الصين على النفط الأجنبي بشدة. ومن الواضح أن الولايات المتحدة ليست محصنةً ضد ديناميات أسواق النفط والغاز العالمية، لكنها لا تعتمد عليها لتغطية الطلب المحلي بقدر الصين.
منافسة شديدة بين الصين وأمريكا على المعادن الحرجة
في المقابل، تعتمد الولايات المتحدة والصين على المعادن الحرجة المستوردة من خارج حدودها في المقام الأول. وتسيطر الصين بالتأكيد على سلاسل توريد العديد من المعادن الحرجة؛ حيث تستحوذ بكين على مراكز رائدة في تكرير وصهر الألومنيوم (66% من السعة العالمية)، وتكرير الليثيوم والكوبالت (80% و66% على الترتيب)، وإنتاج وتكرير الغرافيت (80% تقريباً)، إلى جانب العديد والعديد من المعادن الحرجة.
لكن هذه الهيمنة ليست ناتجةً عن هبات مواردها الطبيعية بقدر ما هي نتيجة لأولوياتها الاستراتيجية، التي تتمثل في امتلاك الأصول المعدنية الأجنبية واستغلال سياساتها الصناعية لتصبح أكبر معمل تكريرٍ في العالم. ومع ذلك، تعتمد الولايات المتحدة والصين في النهاية على مصادر المعادن الحرجة الخارجة عن نطاق سيادتهما.
وثانياً، تُعتبر أسواق المعادن الحرجة أقل تنافسيةً وأصغر حجماً، مما يجعلها أكثر عرضةً للتلاعب الاستراتيجي بالأسواق؛ إذ لم يتجاوز إجمالي صادرات الكوبالت عام 2020 حاجز الـ5 مليارات دولار. بينما وصل حجم صادرات النيكل إلى 30 مليار دولار فقط. وبالمقارنة، سنجد أن إجمالي صادرات البترول والغاز الطبيعي العالمية تجاوز حاجز التريليوني دولار في العام نفسه.
إفريقيا من أغنى المناطق بالمعادن الحرجة
وأخيراً، تتركز احتياطيات بعض المعادن الحرجة بدرجةٍ كبيرة داخل عددٍ قليل من الدول، التي تمتلك الكثير منها اقتصادات صغيرة بسياسات محلية غير مستقرة نسبياً. حيث تسيطر الكونغو مثلاً على أكثر من 60% من إنتاج الكوبالت العالمي.
وهناك العديد من الأمثلة الأخرى. بينما توصف غينيا بأنها "السعودية في مجال البوكسيت"، وهي المادة الخام المستخدمة في صنع الألومنيوم، لكن ذلك الوصف يُعد تقليلاً من حجم حصة غينيا في هذه السوق؛ إذ تمتلك غينيا نحو ربع الاحتياطيات العالمية، وتستحوذ على أكثر من نصف الصادرات العالمية. وفي مثل هذه الحالات، تزيد احتمالية السيطرة على حصص ضخمة من الإمدادات العالمية عن طريق التدخل العسكري المباشر، أو باستخدام النفوذ الدبلوماسي القوي ضد دولةٍ منفردة.
وبالنظر إلى كل ما سبق، كيف سنتمكن من تمهيد الطريق نحو مستقبلٍ مستدام دون تكرار التاريخ المؤسف من الصراع على الموارد في زمن الحرب الباردة؟
تبدأ الإجابة هنا بتوسيع نطاق سلاسل الإمداد، سواءً من خلال الاستثمار في زيادة سعة إنتاج المعادن الجديدة أو إعادة التدوير. ولا شك أن الأسعار المرتفعة والطلب المتوقع يحفزان حمى التنقيب، فضلاً عن جهود تحويل تلك الموارد إلى احتياطيات قابلة للاستغلال الاقتصادي.
وتساعد هذه الجهود في حل المخاوف المرتبطة بالندرة المطلقة، أو بفكرة أن موارد العالم ستنضب عما قريب. لكنها لن تحل بالضرورة مشكلات تركيز الأسواق في دول قليلة، أو المُعوِّقات التي تواجه سعة التكرير. ولا شك أن حل تلك المشكلات سيتطلب توسيع الإمدادات وسعة التكرير بطرق تُنوّع قائمة المنتجين، وتجعل الأسواق أقل اعتماداً على مناجم أو معامل تكرير بعينها.
ولن تُحل المشكلات عن طريق قيام الولايات المتحدة أو غيرها من الاقتصادات المتقدمة بنقل ملكية عمليات التعدين وسعة التكرير إلى أراضيها.
بل يكمن الحل الأفضل في زيادة سعة التكرير داخل الدول المنتجة للخام، وغالبيتها من الدول الفقيرة التي ستنتفع بشدة من ارتقاء سلسلة القيمة والوظائف الصناعية المصاحبة لسعة التكرير. وإبان بحث تلك الدول عن رأس المال الاستثماري، سيكون من الأفضل لها أن تتبنى نهجاً متوازناً على صعيد المزج بين المستثمرين الغربيين وغير الغربيين.
وإذا تعاونت شركات التعدين متعددة الجنسيات من الدول الغربية وغير الغربية معاً داخل بلدٍ واحد، فلا شك أن وجودها سيقلل من النفوذ السياسي لأي حكومة بلد مستثمر منفردة. مما سيحل بالتبعية مشكلة تركيز سعة التكرير، ومخاطر الاعتماد على دولة منتجة أساسية منفردة.
أخيراً، يُعَدُّ تغير المناخ من المخاطر الأمنية غير التقليدية، لكنه يمثل خطراً داهماً رغم ذلك. ولا يستطيع العالم تحمل تكلفة أن تعلق تحولات الطاقة في الصراعات الجيوسياسية نفسها التي ميزت زمن الحرب الباردة. ولدينا العديد من الأسباب المقنعة لنظن أن هذه المرة ستكون مختلفة، سواء على صعيد الموارد أو التقنيات المتجددة المعتمدة عليها. لكننا نحتاج لتوسيع سلاسل التوريد وتنويع الإنتاج وسعة التكرير، حتى نتمكن من الوفاء بالطلب المستقبلي على الموارد ونمنع سيطرة منطق المجموع الصفري على المعادلة.