يبدو أن الهجمات الصاروخية الشاملة التي تشنها روسيا على جميع مدن أوكرانيا، رداً على تفجير جسر القرم، قد تؤدي إلى نتائج وخيمة بالنسبة لكييف، التي طالبت مواطنيها بمغادرة البلاد تفادياً لمصير مظلم وبارد قارس.
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما تصفه كييف والغرب بأنه "غزو غير مبرر"، قد دخل مرحلة من التصعيد الكبير منذ مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً، نجحت من خلاله في استعادة السيطرة على مدينة خاركيف وأجبرت القوات الروسية على التخلي عن خيرسون أيضاً، والتي كانت المدينة الوحيدة التي سيطرت عليها قوات الكرملين بداية الحرب أواخر فبراير/شباط الماضي.
رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ذلك التقدم الأوكراني بإعلان ضم أربع مناطق أوكرانية واعتبارها أراضي تابعة للاتحاد الروسي، مهدداً باستخدام الأسلحة النووية للدفاع عنها، معتبراً أن الصراع هو في الواقع حرب بين قواته وقوات حلف الناتو، لكن ذلك التصعيد الروسي لم يردع داعمي كييف الغربيين، وبخاصة إدارة بايدن، واستمر تدفق الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، لتحقق القوات الأوكرانية مزيداً من التقدم.
لماذا الهجمات الصاروخية الروسية؟
جاء تفجير جسر القرم، الذي يربط بين شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014 وبين روسيا، بمثابة الصفعة التي لم يتقبلها بوتين، معتبراً أنها "عمل إرهابي"، فبدأت موسكو في شن ضربات جوية شرسة، باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة الانتحارية، تستهدف جميع المدن الأوكرانية، وتركز على استهداف البنية التحتية عموماً، ومحطات الماء والكهرباء بشكل خاص.
وبدأت هذه الموجة التي لا هوادة فيها من الضربات الجوية التي تشنها روسيا على جميع مدن أوكرانيا، منذ صباح الإثنين 10 أكتوبر/تشرين الثاني، ورغم استنجاد زيلينسكي بالغرب، ووصول أعداد كبيرة من منظومات الدفاع الجوي بالفعل إلى كييف، إلا أن وتيرة تلك الهجمات لم تخفت، كما لم يقل حجم الأضرار التي تتسبب فيها.
كانت تلك بداية لأشرس حملة من الهجمات الصاروخية الروسية منذ اندلاع الهجوم الروسي على الإطلاق، في إطار رد الكرملين على استهداف جسر كيريتش، الذي يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم، خصوصاً أن بوتين اتهم أوكرانيا بتدبير الانفجار، واصفاً إياه بأنه "عمل إرهابي".
ففي تسجيل فيديو نُشر الأحد، على قناة الكرملين على تليغرام، قال الزعيم الروسي: "لا شكَّ في أن هذا عمل إرهابي بهدف تدمير بنية تحتية مدنية مهمة. هذا العمل دبرته ونفذته وأمرت به قوات أوكرانية".
رسالة بوتين جاءت بعد لقائه مع ألكسندر باستريكين، رئيس لجنة التحقيق الروسية الذي قدم له ما خلص إليه تحقيق في الانفجار، الذي قوبل برسائل مبتهجة من المسؤولين الأوكرانيين، وتقارير أمريكية تثني على "جرأة" المخابرات العسكرية الأوكرانية التي يقولون إنها خططت للتفجير.
أدت تلك الضربات الصاروخية إلى تدمير ما يقرب من نصف نظام توليد الطاقة في أوكرانيا بشكل عام، ولا تزال الهجمات مستمرة دون توقف، بينما أشار المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إلى أن الضربات الصاروخية كانت "نتيجة" لرفض أوكرانيا التفاوض مع روسيا.
عبر العديد من القادة الغربيين، وبخاصة الرئيس الأمريكي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، عن رأيهم بأن استهداف البنية التحتية المدنية يعد جريمة حرب، لكن موسكو ترى من جانبها أن كييف هي من بدأت باستهداف البنية التحتية من خلال تفجير جسر القرم، إضافة إلى اغتيال داريا دوغين، ابنة ألكساندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقب بأنه "عقل بوتين"، في إحدى ضواحي العاصمة الروسية.
وعلى أية حال، يعتبر تبادل الاتهامات وإلقاء كل طرف المسؤولية على الطرف الآخر إحدى أبرز سمات تلك الحرب المستعرة منذ نحو 9 أشهر، وهي الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن لها تداعيات كارثية على أغلب شعوب العالم، وعلى الاقتصاد العالمي ككل.
أوكرانيا تدعو مواطنيها "لمغادرة البلاد"
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني، إن العاصمة كييف والمنطقة المحيطة بميناء أوديسا على البحر الأسود وأكثر من 12 منطقة أخرى حول البلاد تعاني من نقص في الكهرباء، بسبب الهجمات الروسية المستمرة على البنية التحتية للطاقة.
أضاف زيلينسكي في خطابه الليلي عبر الاتصال المرئي: "الوضع المتعلق بإمدادات الطاقة صعب في 17 منطقة وفي العاصمة"، مضيفاً أن "الأمور صعبة للغاية في منطقة كييف ومنطقة أوديسا وأيضاً فينيتسيا وترنوبل"، في إشارة إلى منطقتين في غرب وجنوب غرب أوكرانيا.
وكان رئيس وزراء أوكرانيا، دنيس شميهال، قد قال في وقت سابق إن الهجمات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية عطلت نصف منظومة الطاقة في البلاد.
لكن يبدو أن الوضع أكثر وطأة مما عبر عنه الرئيس ورئيس الوزراء، إذ قال رئيس أكبر شركة خاصة للطاقة في أوكرانيا، السبت 19 نوفمبر/تشرين الثاني، إنه على الناس التفكير في مغادرة البلاد لتقليل الطلب على شبكة الكهرباء.
ماكسيم تيمشينكو، الرئيس التنفيذي لشركة دي تيك، قال لبي بي سي: "إذا تمكنوا من العثور على مكان بديل للإقامة لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر أخرى، فسيكون ذلك مفيداً للغاية للنظام"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
انقطاع التيار الكهربائي في أوكرانيا، سواء كان بشكل مخطط أو غير مخطط، أصبح أمراً شائعاً في أجزاء كثيرة من البلاد، وقال تيمشينكو، الذي توفر شركته أكثر من ربع الطاقة الأوكرانية في البلاد، إن النظام (الكهربائي) يصبح أقل كفاءة مع كل هجوم روسي، وإن تقليل استهلاك الكهرباء هو المفتاح لإبقاء هذا النظام قيد التشغيل.
ويعيش الملايين من الأوكرانيين حالياً من دون كهرباء، وفي ظل انخفاض درجات الحرارة في فصل الشتاء إلى ما دون الصفر، من المتوقع أن تزداد الأمور سوءاً، فالظلام والتجمد برداً هي أمور قاتلة بطبيعة الحال.
وفي هذه الظروف الصعبة، تحث الحكومة الأوكرانية مواطنيها على الحد من استخدام الأجهزة المنزلية، مثل الأفران والغسالات، وأوضح تيمشينكو أن نظام الطاقة المتضرر لا يزال غير قادر على إنتاج ما يكفي من الكهرباء لتلبية الاحتياجات الحالية، لذا فإن أي طريقة لتقليل الاستخدام، بما في ذلك مغادرة البلاد، يجب أن يُنظر إليها على أنها تساعد أوكرانيا على الفوز في الحرب ضد روسيا.
وأضاف: "إذا كنت تستهلك كميات أقل، فسيكون لدى المستشفيات التي بها جنود جرحى مصدر طاقة مضمون. وبهذه الطريقة يمكن تفسير ذلك من خلال تقليل استهلاك السكان للطاقة أو المغادرة، وبذلك فإنهم يساهمون أيضاً في مساعدة أشخاص آخرين".
إلى أين تتجه الحرب إذاً؟
الواضح أن روسيا لن تخفف من حدة ضرباتها الصاروخية التي تستهدف محطات الطاقة والمياه، وهو ما يثير تساؤلات بشأن المسار الذي قد تتخذه الأمور على المدى القصير. فليس سراً أن بوتين ينتظر قدوم الشتاء، بينما يريد الغرب أن تتوقف الحرب قبل هذا الفصل المخيف، في ظل أزمة طاقة عنيفة تعاني منها أوروبا عموماً.
فحتى الآن، كان انقطاع التيار الكهربائي في أوكرانيا بشكل عام يستمر لبضع ساعات، لكن المزيد من الهجمات الروسية قد يؤدي إلى فترات أطول بدون كهرباء. كما أصبح إصلاح البنية التحتية المتضررة أكثر صعوبة أيضاً.
وقال تيمشينكو: "للأسف نفدت المعدات وقطع الغيار لدينا.. لهذا السبب نناشد شركاءنا، والمسؤولين الحكوميين، والشركات، ومنتجي المعدات لمساعدتنا في الإمداد الفوري بالمعدات المتاحة".
كما تضررت العلاقات التاريخية بين روسيا وأوكرانيا، كما توقفت خطط الأخيرة لتطوير نظام الطاقة في البلاد، وقال تيمشينكو: "لقد كانوا رفقاء لنا، والآن أصبحوا أعداء.. إنهم يجلبون كل هذه المعرفة إلى القوات العسكرية الروسية، ويضعون أهدافاً ملموسة للغاية، ويعرفون أجزاء كبيرة من شبكتنا ومحطات الطاقة لدينا".
وعلى الرغم من أن ضغوط بايدن على زيلينسكي مؤخراً قد أدت إلى إسقاط الرئيس الأوكراني لشرطه المستحيل بعدم التفاوض مع روسيا طالما ظل بوتين رئيساً، إلا أن الرئيس الأوكراني يواصل تصريحاته التي يؤكد فيها أن الحرب لا يمكن أن تتوقف قبل "تحرير" أوكرانيا بالكامل، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.
أما روسيا فقد أعلنت مراراً عن استعدادها لدخول المفاوضات دون شروط مسبقة، علماً بأن شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو منذ عام 2014، ليست مطروحة للتفاوض من الأساس، بحسب المسؤولين الروس، وربما يكون شكل التسوية في إطار ما كان وزير خارجية أمريكا الأسبق وعراب الحرب الباردة، هنري كيسنغر، قد تحدث عنه أواخر مايو/أيار الماضي.
هذه التسوية تشمل احتفاظ روسيا بالقرم وإقليم دونباس، حيث منطقتا لوغانسيك ودونيتسك، مقابل أن تظل أوكرانيا دولة محايدة ولا تنضم أبداً لحلف الناتو، وهي تقريباً نفس الأفكار التي كان إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، قد طرحها عبر تويتر قبل أسابيع، وتحدث عنها كثير من المحللين الغربيين.
وربما تكون تلك التسوية أيضاً، أو نسخة قريبة منها، هي ما توصلت إليه روسيا وأوكرانيا بالفعل خلال مفاوضاتهما في تركيا خلال أبريل/نيسان الماضي، والتي أدت إلى التوصل لاتفاق سلام، لكن زعماء غربيين، أبرزهم بايدن ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق، بوريس جونسون، أقنعوا زيلينسكي بمواصلة الحرب.
فهل يكون الدور الآن على هؤلاء الزعماء الغربيين كي يبذلوا مزيداً من الضغوط على الرئيس الأوكراني كي يقبل الآن بما أقنعوه برفضه سابقاً، حتى يتم التوصل لتسوية توقف الحرب قبل أن يشتد البرد ويسود الظلام؟ هذا ما قد تكشف عنه الأسابيع المقبلة.