تتمثل إحدى نقاط الضعف المتكررة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في ميلها إلى تمكين ما سمَّاه الباحث باري بوزن "القيادة المتهورة"، من خلال تشجيع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، عن قصد أو بغير قصد، على اتباع سياسات محفوفة بالمخاطر لن يشرعوا فيها لولا هذا التشجيع.. كيف ذلك؟
من جورجيا إلى السعودية وغيرها.. هكذا ورطت أمريكا شركاءها
يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي إن المثال الكلاسيكي للقيادة المتهورة هو قرار الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي بشن هجوم لاستعادة منطقة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية في عام 2008؛ مما عجَّل بردٍّ روسي مدمر. وقد شجع ساكاشفيلي في أفعاله اعتماده المفرط على إشارات إدارة جورج دبليو بوش لدعم طموح جورجيا في الانضمام إلى الناتو.
في النهاية، لم تأتِ واشنطن لإنقاذ ساكاشفيلي، وصار بقاؤه وبقاء جورجيا كدولة مستقلة يعتمدان على اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوض عليه مع موسكو الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي.
ومن الأمثلة الحديثة، وعد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان "بنقل الحرب إلى إيران"، خصمه الإقليمي الرئيسي. وقد شجعته في ذلك سياسة إدارة ترامب المتمثلة في حملة "الضغط الأقصى" على طهران و"الحد الأقصى من الحرية" إزاء الرياض، تلك السياسة التي امتدت إلى دعم الولايات المتحدة لتدخل محمد بن سلمان الكارثي في اليمن. ومع ذلك، عندما أطلقت إيران صواريخ على منشآت نفطية سعودية رئيسية في عام 2019، مما تسبب في أضرار جسيمة، تقاعست الولايات المتحدة في الرد عسكرياً نيابةً عن الرياض التي شعرت بالخذلان.
ومثلما يُظهِر هذان المثالان، فإن تقديم دعم غير مشروط تقريباً يشجع الجهات الفاعلة الإقليمية الطموحة على التصرف بناءً على افتراض أن واشنطن ستدافع عن شركائها. ومع ذلك، نظراً لأن أفعالهم قد تتعارض مع المصالح الأمريكية، فإن الدعم الأمريكي المفترض لم يتحقق، وتواجه هذه الجهات الفاعلة العواقب (الكارثية عادةً) من أجل تجاوزها.
أزمة أذربيجان وإيران
مع ذلك، تواصل الولايات المتحدة تشجيع القيادة المتهورة. في مؤتمر صحفي لوزارة الخارجية الأمريكية يوم الخميس 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أيد المتحدث نيد برايس أذربيجان بشكل لا لبس فيه، عندما سئل عن التوترات المتصاعدة بين إيران وأذربيجان. وبحسب برايس، فإن إيران تمثل "تهديداً للمنطقة". لذلك، فإن الولايات المتحدة "ستقف إلى جانب شركائها وتدعمهم، وفي النهاية ستقف ضد التأثير المزعزع للاستقرار الذي تمثله إيران".
من المفهوم أن يُنظر إلى إيران من منظور سلبي، أكثر من ذلك بكثير في سياق القمع الدموي المستمر للنظام ضد مواطنيه ودعم طهران النشط للحرب الروسية في أوكرانيا.
ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة فاحصة على جنوب القوقاز يكشف عن صورة أدق. شددت إيران مؤخراً من خطابها ضد أذربيجان التي تتهمها بالتواطؤ مع إسرائيل، العدو اللدود لإيران. وأجرت إيران مناورات عسكرية تهديدية بالقرب من الحدود الأذربيجانية. واتهمت طهران باكو بالوقوف وراء الهجوم على ضريح شيعي في مدينة شيراز، دون أن تقدم، حتى الآن، أدلة دامغة لدعم مزاعمها.
لكن أذربيجان بعيدة كل البعد عن البراءة في هذه الأزمة متسارعة التصاعد كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي. فقد دأبت وسائل الإعلام الحكومية الأذربيجانية منذ شهور على بث الدعوات للانفصال عن المناطق الشمالية الغربية العرقية في إيران التي يهيمن عليها الأذربيجانيون والتي يسميها القوميون الأذربيجانيون "أذربيجان الجنوبية". وفي نظام مُحكَم مثل النظام الأذربيجاني، من غير المتصور أن مثل هذا الخطاب الملتهب لم يتلقَّ الضوء الأخضر من أعلى مستويات السلطة.
في هذا السياق، ألقت السلطات في باكو القبض على أعضاء مزعومين في شبكة تجسس إيرانية تتألف من بعض الناشطين الشيعة وآخرين متهمين بجمع معلومات استخبارية عن البنية التحتية النفطية والأصول العسكرية في أذربيجان.
ماذا تريد أمريكا من أذربيجان؟
تبنَّى الرئيس إلهام علييف نفسه لغة استفزازية بشكل متزايد من خلال ادعائه بأنه حامي حمى عدد كبير من السكان الأذريين في إيران. من المحتمل أن يكون دور أذربيجان الذي اكتُشِفَ حديثاً كمورِّد للغاز إلى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، لتحل محل روسيا، قد زاد من إحساس علييف بالحصانة تجاه إيران.
ردَّ المسؤولون الإيرانيون ووسائل الإعلام الإيرانية بمقال رأي في صحيفة إصلاحية مؤثرة دعا طهران إلى إلغاء الاعتراف الدبلوماسي الذي منحته لأذربيجان بعد خروجها من الانهيار السوفييتي في عام 1991.
ليست هناك مصلحة وطنية واضحة للولايات المتحدة للتورط في هذا الخلاف. الورقة الرابحة الرئيسية لأذربيجان في الغرب -غازها- لا تصل إلى الحجم الذي يجعلها بديلاً عن الإمدادات الروسية وقابلاً للتطبيق أيضاً. إن "مذكرة التفاهم" التي وقَّعتها باكو مع الاتحاد الأوروبي لا تلزمها بتقديم حتى المبالغ المتواضعة التي يمكن أن تقدمها.
بالتالي، فإن أفضل مسار للولايات المتحدة هو الالتزام بالحياد وحث كلا الجانبين على نزع فتيل التوترات. ومع ذلك، يمكن تفسير تصريحات برايس على أنها استعداد واشنطن لتقديم المساعدة العسكرية لباكو. لن يؤدي هذا إلا إلى زيادة سخرية علييف من إيران. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة، كما هو الحال مع ساكاشفيلي ومحمد بن سلمان من قبل، لن تنقذه إذاً وعندما تجاوز حدوده. لذلك يجب على واشنطن ألا تشجع التوقعات الخاطئة في باكو.
تأجيج التوترات والتهور
في النهاية، يقول الموقع الأمريكي إن تعزيز مثل السلام في القوقاز ودعم أذربيجان ضد إيران ليسا سياستين متوافقتين. لا يمكنها العمل إلا من خلال المضي قدماً في عملية مصالحة حقيقية بين أرمينيا وتركيا وأذربيجان. ومع ذلك، وبالنظر إلى التاريخ السام بين الثلاثة، فإن الأمر سيستغرق عقوداً من بناء الثقة لتحقيق مثل هذه المصالحة في أفضل الأوقات، ناهيك عن إصدار أذربيجان للتهديدات باستمرار. في ظل هذه الظروف، لا تستطيع أرمينيا ببساطة تحمل رفاهية الاضطرار إلى الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران.
كما يجب على المسؤولين الأمريكيين مراعاة تعقيدات الصراعات في المناطق النائية قبل أن يسارعوا إلى تقديم دعم قوي وغير مشروط -حتى خطابياً- لأحد الجانبين، لا سيما إذا كانت سياسات هذا الجانب المتهورة عاملاً رئيسياً في تأجيج الصراع.