حمل أول لقاء قمة بين جو بايدن وشي جين بينغ مؤشرات إيجابية تردد صداها حول العالم، وتصدرتها المصافحة الحارة بينهما، لكن هل يعني هذا أن المنافسة الشرسة بين أمريكا والصين قد لا تتحول لصراع مدمر على المدى القريب؟
تستدعي الإجابة عن هذا السؤال وضع الأمور في نصابها وتحديد أسباب الصراع أو الملفات الشائكة بين واشنطن وبكين في الوقت الحالي، واحتمالات نجاح قمة الساعات الثلاث بين زعيمَي البلدين في التوصل لخطوط عريضة بشأنها بطبيعة الحال.
فقبل أول لقاء شخصي بين يجمع بايدن وشي، منذ أن أصبح بايدن رئيساً، ابتسم الزعيمان وتصافحا بحرارة أمام صف من الأعلام الصينية والأمريكية في فندق فاخر بجزيرة بالي الإندونيسية، وذلك قبل يوم من انعقاد قمة مجموعة العشرين التي من المنتظر أن تكون مشحونة بالتوترات بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية.
التعاون في ملفات تغير المناخ والنووي في أوكرانيا
لنبدأ أولاً بالملفات التي يمكن للقوتين الأعظم في هذا القرن أن يجدا أرضية مشتركة بشأنها، وعلى رأسها التغير المناخي. فالصين وأمريكا تتحملان العبء الأكبر في هذه المصيبة التي تهدد الكوكب نفسه بالفناء، حيث إنهما معاً مسؤولتان عن أكثر من نصف الانبعاثات الكربونية، التي تسبب الاحتباس الحراري، أصل كل تداعيات تغير المناخ التي يكتوي العالم بأسره بنارها.
وفي هذا السياق، اتفق الرئيسان على استئناف التعاون بشأن تغير المناخ، مما يعطي دفعة للمفاوضات المتعثرة في مؤتمر الأمم المتحدة المعنيّ بتغير المناخ (كوب 27) المنعقد حالياً في مصر، بحسب رويترز.
بثت موافقة الرئيسين على الحديث مجدداً، ووجهاً لوجه أيضاً، بثت بعضاً من الدفء في العلاقات بين البلدين، بعد ما اعتراها من جمود في وقت سابق من هذا العام بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان التي أثارت غضب الصين بشدة.
وبحسب بيان البيت الأبيض، أبلغ بايدن نظيره الصيني أن الولايات المتحدة مستعدة لإعادة الاشتراك بقوة في محادثات المناخ، "واتفق الزعيمان على أن يكثف كبار المسؤولين في إدارتيهما من التواصل وتعميق الجهود البناءة في هذا الملف الحيوي بالنسبة للعالم أجمع، وملفات أخرى لا تقل أهمية مثل استقرار الاقتصاد العالمي من خلال حل أزمة الديون والأمن الصحي والأمن الغذائي".
ولا شك أن البيانات الإيجابية بشأن التعاون في مجال المناخ تمثل بارقة أمل للمفاوضات في مؤتمر كوب 27 للمناخ في منتجع شرم الشيخ المصري، فهي إشارة إلى أن دول مجموعة العشرين مستعدة لجمع المزيد من الأموال والتعهد بالتزامات جديدة لمكافحة ارتفاع درجات الحرارة الأرض.
وقالت وزيرة المناخ الإسبانية تيريزا ريبيرا إنها تأمل في أن يؤدي التقارب بين الولايات المتحدة والصين إلى تنشيط المفاوضات. وأضافت لرويترز: "أكبر مصدرين للانبعاثات يجب أن يكونا متعاونين وطموحين".
ووصف مانيش بابنا، رئيس مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، التعاون الأمريكي الصيني بشأن تغير المناخ بأنه أمر "أساسي". وقال: "هذه الإشارة الواضحة من أكبر اقتصادين للعمل معاً لمعالجة أزمة المناخ هي موضع ترحيب كبير".
اتفق شي وبايدن أيضاً على أنه لا يمكن استخدام الأسلحة النووية ولا يمكن خوض حروب نووية في أوكرانيا، ولا يمكن قبول التلويح أو التهديد باستخدام السلاح النووي، وهي نقطة أكدها الجانبان وليس الجانب الأمريكي فقط، وهو ما يمثل متنفساً لعالم كان يقف على أطراف أصابعه حرفياً بسبب القلق من خروج الحرب في أوكرانيا عن السيطرة وتحولها إلى حرب نووية بين موسكو وحلف الناتو.
تايوان.. ثم تايوان.. ثم تايوان!
لكن الأجواء الإيجابية والمصافحة الحارة والبيانات الخاصة بالتعاون في تغير المناخ والأمن الغذائي ورفض حرب نووية في أوكرانيا وغيرها، لا تلغي وجود ملفات كثيرة شائكة تعني أن التنافس بين واشنطن وبكين مرشح للتصعيد أكثر وليس العكس، بحسب أغلب المحللين هنا وهناك.
أبلغ بايدن نظيره الصيني بأنهما مسؤولان عن الحيلولة دون تحول المنافسة بين بلديهما إلى صراع، وقال الرئيس الأمريكي لشي وهو يضع ذراعه حوله قبل اجتماعهما: "كم هو رائع أن ألتقي بك".
وتابع بايدن قائلاً: "بصفتنا زعيمين لبلدينا، فإنني أعتقد أن من واجبنا إظهار أن بإمكان الصين والولايات المتحدة إدارة خلافاتنا، والحيلولة دون تحول المنافسة إلى صراع، وإيجاد سبل للعمل سوياً بشأن القضايا العالمية الملحَّة التي تتطلب تعاوننا المتبادل".
لكن بايدن أثار، وفقاً لما ورد في وثيقة للبيت الأبيض، تلخص محتوى اللقاء، عدداً من الموضوعات الشائكة خلال الاجتماع منها اعتراض الولايات المتحدة على "الإجراءات القسرية والعدوانية المتزايدة للصين تجاه تايوان" و "الممارسات الاقتصادية غير المستندة إلى قواعد السوق" التي تتبعها بكين وممارساتها في "إقليم شينجيانغ، والتبت وهونغ كونغ وحقوق الإنسان على نطاق أوسع".
هذه إذا هي الملفات الشائكة -تايوان والاقتصاد وحقوق الإنسان- والسؤال هنا: ماذا يريد كل طرف فيها؟ بالنسبة لتايوان، تعتبر هذه القضية مسألة حياة أو موت بالنسبة للحزب الشيوعي الصيني عموماً، ولشي جين بينغ خصوصاً، فالزعيم الصيني يعتبر إعادة توحيد الجزيرة (أو ما تصفه واشنطن بالغزو) مسألة محسومة وخطاً أحمر لا يمكن تجاوزه.
فالصين تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها بموجب سياسة "الصين الواحدة"، وتقول بكين إنها الأمر الأكثر حساسية وأهمية في علاقاتها بالولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تقوم سياسة الولايات المتحدة على الاعتراف بأن "الصين واحدة" ولا تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع تايوان.
لكن بايدن نفسه خالف سياسة "الغموض الاستراتيجي الأمريكي" عندما صرح مراراً بأن واشنطن ستدافع عن تايون عسكرياً إذا ما حاولت الصين ضمها بالقوة، وهو ما وصفته بكين بأنه "لعب بالنار"، وجاءت زيارة بيلوسي للجزيرة مطلع أغسطس/آب الماضي، لترد الصين بمحاصرة تايوان تماماً وفرض أمر واقع جديد في مضيق تايوان لم يكن موجوداً من قبل.
ولا شك أن لقاء شي وبايدن لم يقدم أي مؤشرات على أن موقفهما من قضية تايوان قد حدث فيه تغيير يذكر، أو أن هذا وارد في المستقبل القريب، ولهذا السبب وغيره، عنونت شبكة CNN الأمريكية تحليلها حول قمة الصين وأمريكا بأنها "قد تكون هدأت قليلاً من العواصف، لكن البلدين لا يزالان على نفس مسار التصادم".
واعتبرت تغطية الغارديان البريطانية للقمة أن الابتسامات والمصافحة والحديث الودي المختصر قبل دخول شي وبايدن إلى قاعة الاجتماع، لا تعني أي شيء لمسألة تايوان؛ حيث أصر شي على أنها تمثل "جوهر الجوهر بالنسبة للمصالح الصينية"، مضيفاً أنها "الخط الأحمر الأول" في العلاقات الثنائية مع واشنطن، والذي يجب ألا تتخطاه أمريكا أبداً.
المنافسة بين الصين وأمريكا.. هي في جوهرها صراع
لكن حتى قضية تايوان الجوهرية لهذه الدرجة ليست الملف الوحيد الشائك بين الصين وأمريكا، فالقصة ببساطة عبارة عن صراع القوى العظمى على الهيمنة على العالم، وتشبه الأجواء بينهما الآن ما كانت عليه الأجواء بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، رغم أن كليهما كان يحارب في المعسكر ذاته ضد ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الإمبراطورية.
نعم، تعهد بايدن للصحفيين، بعد القمة مع شي، أنه لن "تكون هناك حرب باردة جديدة" مع الصين، مضيفاً أنه لا يعتقد أن بكين ستغزو تايبيه، لكن الحقيقة على أرض الواقع تؤكد أن الحرب الباردة بين بكين وواشنطن قائمة بالفعل.
وترى بكين أن التوتر الملحوظ في العلاقات بين البلدين، مدفوع أساساً برغبة أمريكا في الحفاظ على مكانتها كقوة عالمية بارزة. فاستراتيجية الأمن القومي الصادرة حديثاً عن الرئيس جو بايدن، تعتبر بكين مصدر تهديد للنظام العالمي الحالي أكبر من موسكو، بحسب تحليل لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، يعكس وجهة النظر الغربية ويعتبر أن شي جين بينغ لن يرضخ لاستراتيجية واشنطن الساعية إلى احتواء بكين.
وبالتالي فبايدن يتعامل مع الصين كخصم، حتى وإن كان يستخدم وصف "منافس"، ويمكن القول إن محاولته منع وصولها إلى أشباه الموصلات المتقدمة هي أهم انتكاسة لنهج التجارة والشراكة مع الصين، الذي كان سائدا منذ عقود طويلة.
أما الملف الآخر الذي تستخدمه واشنطن للضغط على بكين، وهو قمع أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ، فيمكن القول إنه حق يراد به باطل، لأن إدارة بايدن، التي كانت قد أعلنت وضع ملف حقوق الإنسان في القلب من سياساتها الخارجية، لم تضع هذا القول موضع التنفيذ في جميع أنحاء العالم، إلا في المناطق والتوقيت الذي يمثل فيها الحديث هذا الملف مصلحة أمريكية مباشرة.
ففي الهند، على سبيل المثال، يتعرض المسلمون لحملة قمع غير مسبوقة، يصفها البعض بالسعي للتطهير العرقي، منذ تولي ناريندرا مودي، الهندوسي اليميني، رئاسة الوزراء عام 2014، ومع ذلك لم تثر إدارة بايدن هذه القضية إلا مؤخراً، وفي سياق الضغط على نيودلهي لتتوقف عن استيراد النفط الروسي، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
الصراع بين الصين وأمريكا إذاً هو صراع جيوسياسي بين قوى عظمى تهيمن منفردة على النظام العالمي الذي أرسته وتديره منذ انهيار الاتحاد السوفييتي قبل نصف قرن، وبين قوة عظمى أخرى صاعدة تبحث لنفسها عن دور يناسب قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية أيضاً، وبالتالي فإن هذا الصراع لا يزال في بدايته والاحتمال الأكبر أنه مرشح للتصعيد.
نعم، لقاء الساعات الثلاث بين بايدن وشي شهد مؤشرات إيجابية لا يمكن التغاضي عنها، لكنه بالقطع لا يعني أن التنافس بين الصين وأمريكا ستخف حدته أو سيتحول إلى تعاون كما كانت الأوضاع قبل سنوات قليلة.
ليون بانيت، رئيس موظفي البيت الأبيض ووزير الدفاع ومدير وكالة الاستخبارات الأمريكية الأسبق، عبر عن هذا الرأي بقوله لشبكة CNN: "لو أن نتيجة هذا الاجتماع هي إعادة العلاقة بينهما إلى المسار الدبلوماسي، حيث يتبادلان الحديث بدلاً من اللكمات، فيمكنهما الحديث بشأن القضايا التي تحتمل التعاون، أعتقد أن هذه القمة يمكن أن تكون محورية تماماً".
وين تي سونغ، أستاذ العلوم السياسية الذي يدرس في برنامج دراسات تايوان التابع للجامعة الوطنية الأسترالية، قال لـ"بي بي سي" إن هناك "القليل من الاتفاقيات الحقيقية" التي نتجت عن القمة، مضيفاً أن الزعيم الصيني "أظهر أن بايدن لا يخيفه، وكأن الولايات المتحدة والصين متساويتان حقيقيتان".
واتفق عالم السياسة إيان تشونغ، من جامعة سنغافورة الوطنية بشكل عام مع نفس الاتجاه، قائلاً لـ"بي بي سي": "أعتقد أن النغمة كانت إيجابية بشكل عام. هناك بعض الاعتراف بأن هناك مصالح مشتركة، ويشمل ذلك عدم ترك العلاقة تخرج عن نطاق السيطرة. لكنني سأظل حذراً إلى حد ما. نظراً للتقلب في العلاقات الصينية – الأمريكية".