أصبحت العلاقات بين مصر وروسيا واحدة من أكثر الملفات تعقيداً، بالنسبة للسياسة الخارجية المصرية حتى قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، فالقاهرة تريد الحفاظ على علاقتها الوثيقة مع موسكو التي اكتسبت زخماً في عهد الرئيس السيسي دون إغضاب الغرب في الوقت ذاته.
يسلط عقد مؤتمر المناخ الدولي (Cop27) بمصر الضوء على أهمية البلاد السياسية من ناحية، وعلى تداخل شبكة علاقاتها من ناحية أخرى.
وبقدر ما شكل هذا المؤتمر نجاحاً للدبلوماسية المصرية، فإنه سلط الأضواء أكثر على سياستها وجعل الحكومة مضطرة لمراعاة الضغوط الغربية في العديد من القضايا ومن بينها العلاقة مع روسيا.
وقبيل مؤتمر المناخ الدولي (Cop27)، عمدت الحكومة المصرية إلى اتخاذ بعض الخطوات لتحسين صورتها، فأفرجت عن عدد من السجناء السياسيين، وأعلنت عن مشروعات بيئية جديدة.
"تريد مصر أن تقدم نفسها في صورة المتحدث عن دول الجنوب العالمي، فهي تجمع هوية مركبة بوصفها دولة إفريقية عربية وكونها بوابة إلى إفريقيا والشرق الأوسط في آن معاً، حسبما قال محمد سليمان، الباحث الخبير في شؤون مصر بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن، في تصريحات لموقع DW الألماني في أواخر أكتوبر/تشرين الأول.
وأضاف: "وهي تزعم لنفسها هيئة البطل… الذي تلجأ إليه جميع الأطراف لسبب أو لآخر".
تاريخ طويل للعلاقات بين مصر وروسيا
تأتي روسيا من بين هذه الأطراف، فلمصر تاريخ طويل من التحالف معها، وكانت مصر الحليف الرئيسي للاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة، وهي لا تزال شريكاً مهماً لروسيا إلى اليوم. وبعد الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي عام 2013، ثم تولي عبد الفتاح السيسي الرئاسة رسمياً في عام 2014، زاد التقارب بين مصر وروسيا.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد استقبل السيسي حتى قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، في فبراير/شباط 2014، عندما كان النائب الأول لرئيس الوزراء، وزير الدفاع، حيث أهدى بوتين السيسي خلال اللقاء بذلة رائد فضاء، وكان لهذا اللقاء أهمية خاصة لأنه جاء بعد أقل من عام من الإطاحة بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي، في وقت كانت أغلب الدول الغربية تنظر بتوجس للنظام الجديد، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت مساعدتها العسكرية للقاهرة، وهو ما دفع السيسي للتوجه لموسكو لشراء السلاح، ومحاولة الدخول للمجتمع الدولي عبر البوابة الروسية.
واليوم فإن المفارقة أنه بعد تعرض روسيا للعزل من قبل الغرب، فإن القاهرة مثل أنقرة والعواصم الخليجية، باتت بوابة روسيا لكي تستطيع القول إنها غير معزولة دولياً، كما ظهر ذلك في زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقاهرة في يوليو/تموز الماضي، حيث ألقى كلمة أمام مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين (وليس الوزراء)، شكر فيها الدول العربية على موقفها المعتدل في الأزمة الروسية الأوكرانية.
وقبل ذلك، قال السيسي في كلمة له بمؤتمر أقيم بسان بطرسبرغ الروسية في يونيو/حزيران من هذا العام: "روسيا شريك مهم لمصر في مختلف المجالات، والعلاقات بين البلدين متميزة". وبادله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الإطراء في خطاب ألقاه أواخر سبتمبر/أيلول ترحيباً بالسفير المصري الجديد في بلاده، بالقول: "ترى روسيا في مصر أحد أهم شركائها في إفريقيا والعالم العربي. ونحن على تواصل دائم بالرئيس السيسي".
السيسي وبوتين لديهما نظرة متشابهة للعالم
يتشارك بوتين والسيسي في كثير من الأمور، فقد هاجمت موسكو الاحتجاجات الشعبية المؤيدة للديمقراطية في ثورات الربيع العربي، وعادت مصر إلى الحكم الاستبدادي بقيادة الجيش في عهد السيسي بعد حقبة من الاضطراب السياسي، حسب الموقع الألماني.
وقال تقرير الموقع الألماني إنه إذا نظرنا إلى سجل السيسي في حقوق الإنسان، فلا صعوبة في الاستنتاج بأنه يشارك بوتين الشعور نفسه حيال الاحتجاج السياسي. وعلى خلاف الولايات المتحدة وأوروبا، فإن متانة الصداقة مع روسيا لا تتوقف على تحسين حقوق الإنسان ولا تصحيح المسار الاقتصادي المضطرب في البلاد.
وأشارت الصحفية المصرية شهيرة أمين، في تقرير نشره "المجلس الأطلسي"، وهو مركز أبحاث أمريكي، هذا العام، إلى أن "تبرُّم السيسي من انتقادات الزعماء الأمريكيين والأوروبيين… دفعه إلى تنويع وجهات الشراكة بين مصر ودول العالم الأخرى، فسعى إلى تعزيز علاقاته بنظيره الروسي، لا سيما أن الأخير رئيس سلطوي لا يعبأ بالديمقراطية وحقوق الإنسان".
هذا التوافق في الأمزجة أدى إلى تعزيز العلاقات
التوافق في المزاج" بين السياسة الشخصية والخارجية لكل من بوتين والسيسي، أدَّى إلى تعزيز العلاقات التجارية والعسكرية والسياسة الخارجية بين مصر روسيا منذ عام 2014، حسب الموقع الألماني.
لطالما جمعت الروابط التجارية بين البلدين، وكل منهما شريك اقتصادي مهم للآخر، فمصر تستورد معظم قمحها من روسيا، ويمثل السياح الروس نحو 40% من إجمالي زوار مصر كل عام. وللسياحة أهمية كبيرة في مصر، فهي تدر مليارات الدولارات، وعوائدها نحو 12% من إجمالي دخل البلاد.
زادت القيمة الإجمالية للتبادل التجاري بين مصر وروسيا من نحو 3 مليارات دولار في عام 2013 إلى قرابة 5 مليارات دولار في عام 2021. وقد وقع البلدان في عام 2018 اتفاقية تعاون استراتيجي لتعزيز التجارة بينهما، وتقوية غيرها من سبل التعاون.
روسيا تعهدت ببناء محطة نووية للقاهرة وتمويلها
يتشارك البلدين في عدة مشروعات كبيرة، منها إسهام روسيا في بناء أول محطة للطاقة النووية في مصر وتمويلها، وتحديث السكك الحديدية، فضلاً عن إنشاء منطقة تجارة حرة خاصة لروسيا داخل مصر.
والتزمت روسيا بتمويل 85% من تكلفة مشروع الضبعة من خلال قرض بقيمة 25 مليار دولار على مدى 22 عاماً.
ومع ذلك، فقد أشار محللون إلى أن تداعيات انصراف موارد روسيا إلى الحرب في أوكرانيا من المتوقع أن تؤثر في وتيرة إسهامها فيما يسميه السيسي "المشروعات (القومية) العملاقة" التي يُقيمها لخدمة البلاد.
صفقة أسلحة مصرية نشرت النفوذ السوفييتي في العالم الثالث برمته
لطالما كانت الأسلحة ركناً أسياسياً في العلاقات بين العلاقات بين مصر وروسيا، حيث أن موسكو من أكبر موردي الأسلحة لمصر، إن لم تكن أكبرها في بعض الأحيان.
ورغم أن مصر تبتاع أيضاً الكثير من أسلحتها من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلا أن الأمريكيين والأوروبيين غالباً ما يفرضون شروطاً مع مبيعات الأسلحة، على خلاف روسيا.
وكانت الأسلحة السوفييتية هي التي سلحت مصر بعد نهاية الملكية وتأسيس النظام الجمهوري عام 1952، وكانت مصر هي إحدى أوائل دول العالم التي حصلت على أسلحة من الكتلة الشيوعية، عندما عقدت صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 (فضّلت القاهرة وموسكو إبرامها مع تشيكوسلوفاكيا حليف الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت لتجنب استفزاز الغرب)، وكانت هذه الصفقة بمثابة انقلاب في السياسة الدولية، وبداية دخول الاتحاد السوفييتي في معترك السياسة في العالم الثالث، وفي مناطق المستعمرات الأوروبية القديمة، وأدت الصفقة إلى وقف أمريكا لتمويل مشروع السد العالي، فردت مصر بتأميم قناة السويس، فانتقمت بريطانيا (التي كانت تمتلك أغلب اسهم القناة) بالتعاون مع فرنسا وإسرائيل بمهاجمة مصر فيما عرف بالعدوان الثلاثي عام 1956، الذي أيد فيه السوفييت القاهرة، التي أصبحت عاصمة مناهضة الاستعمار في المنطقة العربية والعالم الثالث.
وأدى الضغط الأمريكي والانتقادات الدولية لانسحاب قوات العدوان، الأمر الذي اعتُبر تراجعاً مهيناً للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وصعود نجم عبد الناصر كقائد تحرر وطني، وتحالف الاتحاد السوفييتي مع مصر، وصعود نفوذه في العالم الثالث.
بعد هزيمة مصر وسوريا في يونيو/حزيران 1967، سلح السوفيت جيشيْ البلدين بشكل كبير (بتمويل عربي إلى حد ما)، بعد أن فقدا جزءاً كبيراً من ترسانتيهما، حيث خاضا حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بهذا السلاح، الذي حرر جزءاً من سيناء والجولان، وظلت القاهرة تعتمد على السلاح السوفييتي إلى أن بدأت مفاوضات السلام مع إسرائيل في السبعينيات، لتتحول مصر إلى السلاح الغربي ولاسيما الأمريكي، وخاصة في تدفق معونة أمريكية عسكرية على مصر سنوياً.
السيسي أعاد روسيا لمكانتها كواحدة من أهم مصدّري السلاح لمصر
ولكن بعد مجيء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عادت مصر لتصبح زبوناً مهماً للأسلحة الروسية، فأبرمت صفقات مع موسكو لشراء أنظمة إس 300 ونحو 45 طائرة ميغ 29، ومروحيات Ka 52، وأنقذت مصر روسيا وفرنسا من مأزق عندما اشترت حاملتي مروحيات صنعتهما باريس لصالح موسكو، ثم تم وقف الصفقة بسبب ضم روسيا للقرم عام 2014، فدخلت مصر واشترت الحاملتين.
كما أبرمت مصر صفقة مهمة لشراء نحو 25 طائرة سوخوي 35 الروسية لتصبح ثاني دولة في العالم تشتريهما، بعد الصين، ولكن يعتقد أن الولايات المتحدة ضغطت على القاهرة لإلغاء الصفقة، وهددت بتطبيق عقوبات على مصر من خلال قانون مكافحة خصوم أمريكا (CAATSA)، وبالفعل، توقفت التقارير الإخبارية عن الصفقة.
كما تتشابه السياسة الخارجية كل من مصر وروسيا في بعض الأمور، فكلاهما ساند اللواء خليفة حفتر في الصراع الذي شهدته ليبيا المجاورة لمصر، وتؤيد مصر التدخل الروسي في سوريا، ومن ثم تجمعهما مصالح مشتركة في منطقة شرق البحر المتوسط ذات الأهمية الكبيرة لمصر.
مصر تبتعد قليلاً عن روسيا بعد غزو أوكرانيا
على الرغم من ذلك التعاون الوثيق بين مصر وروسيا، فإن الأخيرة بقيت حريصة على عدم الميل كل الميل إلى روسيا والحفاظ على توازن دقيق لعلاقتها مع الحلفاء والداعمين المختلفين مع روسيا. فعلى سبيل المثال، سارعت السلطات المصرية إلى نفي إرسالها مراقبين إلى أوكرانيا للإشراف على الاستفتاءات الصورية التي أجرتها روسيا في سبتمبر/أيلول، على النقيض مما أفادت به وكالة الأنباء الروسية "تاس" TASS.
لكن مصر أعلنت من جهة أخرى أنها تنوي السماح للزوار الروس باستخدام البطاقات المصرفية التي تعمل بنظام الدفع الروسي "مير" Mir، وذكرت مجلة The Economist البريطانية الشهر الماضي، أن "روسيا ستنتهز الموافقة المصرية على بطاقات مير للتدليل على أن دولاً مهمة في العالم النامي ضاقت ذرعاً بضغوط الولايات المتحدة عليها لاتخاذ موقف مناهض لروسيا بشأن النزاع في أوكرانيا.
ومع ذلك تقول تقارير وسائل الإعلام المصرية إن الخطة معلقة الآن بسبب المخاوف من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على أي مؤسسات مالية يجمعها تعامل مع مؤسسات روسية.
القاهرة تحاول تحقيق التوازن بين القوى الكبرى في العالم
وأجرت شركة Dezan Shira and Associates لاستشارات الأعمال الدولية دراسة تحليلية لأنماط التجارة المصرية لهذا العام، وكشف التقرير عن ملامح التوازن الدقيق الذي تنتهجه مصر في علاقاتها التجارية بروسيا والغرب.
خلص تقرير الشركة الاستشارية إلى أن مصر "تتبع سياسة تجارية متكافئة الأبعاد. فلما كانت البلاد تقع على مفترق طريق بين أوروبا وآسيا… فإن نسبة تجارتها مع كل قارة منهما بلغت نحو 22% من تجارة البلاد الخارجية"، وعمدت مصر إلى موازنة تجارتها على الجانب الآخر، فقسَّمتها بدقةٍ بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الشرقية (ومنها روسيا).
قال سليمان، الباحث بمعهد الشرق الأوسط، تعليقاً على هذه البيانات، إن كلا البلدين يتبادلان النفع بقدر متساوٍ، وفي حين أن روسيا حليف مهم لمصر، فإنها بالتأكيد ليست أهم حليف لها.
وأوضح سليمان أن "مصر والخليج حليفان وثيقان وإن شهدت العلاقات بعض الاختلافات التكتيكية"، فالسعودية والإمارات تضخان مليارات الدولارات إلى مصر على هيئة استثمارات وقروض لمساندة الاقتصاد المصري. وتجمع مصر شراكة مهمة بالاتحاد الأوروبي كذلك في مجالات الطاقة والهجرة والتجارة. لكن "التحالف مع الولايات المتحدة يأتي في صدارة خيارات التحالف الاستراتيجي للقاهرة في الوقت الحالي، خاصة بعد الزلات الروسية في أوكرانيا".
على الجانب الآخر، أشار ديميتار بيشيف، المحاضر في جامعة أكسفورد، في تحليل نشره "معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" الأمريكي، إلى أن روسيا ترى مصر بالرؤية ذاتها، و"مصر واحدة من بين مجموعة واسعة من الشركاء الذين تتعاون معهم موسكو في سعيها إلى تحقيق مكاسب دبلوماسية واقتصادية".
ويرى سليمان أن "مصر تمكنت طوال الشهور الماضية [منذ بدء الحرب على أوكرانيا] من تدبير مسارٍ خاص لنفسها. فقد صوتت لقرار الأمم المتحدة بإدانة ضم روسيا لمناطق أوكرانيا، لكنها تحافظ على خط تواصل دائم مع موسكو؛ وهي تتعاون مع الاتحاد الأوروبي للحفاظ على أمن الطاقة، لكنها تُبقي على علاقاتها الودية مع روسيا".
قلبها مع موسكو وعقلها مع واشنطن.. مصر تبتعد عن روسيا حين يضغط الغرب
يظهر تراجع مصر المحتمل عن صفقة سوخوي 35، ثم التردد في اعتماد نظام الدفع الروسي "مير" أن القاهرة تحاول أن تحافظ على علاقتها بموسكو بقدر المستطاع، ولكنها تتراجع عن أية خطوات في هذا الاتجاه، إذا كانت سوف تؤدي لإغضاب الغرب.
خاصة أنه رغم المصالح المصرية الكبيرة مع روسيا في مجال السلاح والسياحة والقمح والملف الليبي، فإن مصالحها مع الغرب أكبر.
وخلص سليمان إلى أن مصر ليست الدولة الوحيدة التي ترى الأمر على هذا النحو، والمقصود أن دول الغرب يجب أن تفهم أن العالم ليس ثنائي القطب، وإنما هو متعدد الأقطاب ومتعدد الحضارات، ويجب ألا يرتكب الغرب خطأ النظر إلى رد فعل العالم على الغزو الروسي لأوكرانيا على أساس ثنائي [إما معنا وإما علينا]، ويجب ألا يجبر الدول على اختيار طرف والتخلي عن الآخر.