بينما احتفى الكثيرون في العالم بعودة الرئيس البرازيلي اليساري لولا دي سيلفا لحكم البلاد، وهزيمة الرئيس اليميني المتطرف جايير بولسونارو، ولكن مهمة دي سيلفا تبدو صعبة للغاية بعد أن أصبحت البرازيل معقلاً لليمين، وتزايُد نفوذ الجيش، وكذلك اضطراره لتحديد إلى مَن سينحاز في الصراع الدولي القائم بين أمريكا وأوروبا مقابل الصين وروسيا.
وداخلياً سيكون على دا سيلفا الدخول في مواجهة مع لوبي إزالة غابات الأمازون، وهي المسألة التي شكّلت واحدة من أكبر أسباب الانتقادات الدولية للرئيس السابق.
فاز لولا لكن مجاله للمناورة سيكون محدوداً، بفعل قوى قوية متحالفة مع أجندته في الجنوب العالمي.
يبلغ لولا دا سيلفا من العمر 77 عاماً، ولكنه مازال لائقاً وقوياً، ويقود تحالفاً من 10 أحزاب سياسية، وقد انتُخب للتو رئيساً للبرازيل لولاية ثالثة بحكم الواقع، بعد أول فترتين له من 2003 إلى 2010.
انتخب من خلال العد الإلكتروني السريع، وفاز بفارق ضئيل عن منافسه، حيث وصل إلى 50.9% مقابل 49.1% للرئيس اليميني المتطرف جاير بولسونارو، وهو فارق بلغ مليوني صوت فقط، في بلد يسكنه 215 مليون شخص، وسيتسلم لولا منصبه في 1 يناير/كانون الثاني 2023.
وأكد لولا الدفاع عن الديمقراطية، ومحاربة الجوع، والسعي لتحقيق التنمية المستدامة مع الإدماج الاجتماعي؛ "حرب لا هوادة فيها ضد العنصرية والتحيز والتمييز".
ودعا إلى التعاون الدولي للحفاظ على غابات الأمازون المطيرة، وقال إنه سيقاتل من أجل تجارة عالمية عادلة، بدلاً من التجارة "التي تجعل البرازيل مُصدِّراً أبدياً للمواد الخام".
تمكّن لولا، وهو مفاوض استثنائي دائماً، من الفوز على جهاز الدولة الهائل الذي أطلقه بولسونارو، والذي شهد توزيع مليارات الدولارات على شراء الأصوات؛ سيل من الأخبار الكاذبة، والتخويف الصريح، ومحاولات قمع الناخبين الفقراء من قبل البولسوناريين المسعورين، وعدد لا يحصى من حلقات العنف السياسي، حسب تقرير موقع Asia Times.
يرث لولا أمة مدمرة ومستقطبة تماماً، مثلها مثل الولايات المتحدة بعد فترة ترامب.
نظرة على عهد لولا دا سيلفا السابق
تولى دا سيلفا رئاسة البرازيل خلال الفترة بين 2003 إلى 2010، وصعد إلى السلطة قبل شهرين فقط من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
نجح لولا في تحقيق الازدهار الاقتصادي والتخفيف الهائل من الفقر ومجموعة من السياسات الاجتماعية، في ثماني سنوات خلق ما لا يقل عن 15 مليون وظيفة.
وأدى الاضطهاد السياسي الشرس إلى إلغاء مشاركته في الانتخابات الرئاسية لعام 2018، ما مهّد الطريق لبولسونارو، وهو مشروع تبنّاه الجيش البرازيلي اليميني المتشدد منذ عام 2014.
التواطؤ بين النيابة العامة في البرازيل و"العدالة المراوغة أدى لاضطهاد لولا وأنصاره، وإدانته بتهم ملفقة، ليقضي 580 يوماً في السجن.
انتهى الأمر بالإعلان أن لولا غير مذنب، بعد ما لا يقل عن 26 طلباً.
مهمة لولا الصعبة تبدأ الآن، فهناك ما لا يقل عن 33 مليون برازيلي يغرقون في الجوع، و115 مليوناً آخرين يكافحون "انعدام الأمن الغذائي"، وما لا يقل عن 79% من العائلات رهائن لمستويات عالية من الديون الشخصية.
على عكس "المد الوردي" الجديد الذي ينتشر عبر أمريكا اللاتينية (اليسار المعتدل)، لا يوجد مدّ وردي داخلي الآن في البرازيل.
على العكس من ذلك سيواجه لولا دا سيلفا الكونغرس ومجلس الشيوخ، المعاديين له بشدة، وحتى حكام الولايات الموالين لبولسوناريو، بما في ذلك في أقوى ولاية في الاتحاد، ساو باولو، والتي لديها قوة نارية صناعية أكبر من العديد من الدول المتقدمة.
اعتقال المشتبه بهم المعتادين
إن الموجّه الرئيسي بشكل مطلق للأمور في البرازيل على ما يبدو هو النظام المالي الدولي، ولاسيما الأمريكي، الذي يتحكم بالفعل في أجندة بولسونارو، وها هو قد استحوذ على إدارة لولا حتى قبل أن تبدأ، حسب موقع Asia Times.
فنائب الرئيس لولا هو جيرالدو ألكمين من يمين الوسط، والذي يمكن أن يتولى السلطة في اللحظة التي يقرر فيها الكونغرس بشدة اختلاق بعض مخططات عزل لولا.
ليس من قبيل المصادفة أن مجلة "الإيكونوميست" النيوليبرالية قد "حذرت" لولا بالفعل من أنه يجب عليه التحول إلى الوسط، وأن تُدار حكومته، من الناحية العملية، من قبل القيادات المالية المعتادة.
وسيعتمد الكثير على من يعينه لولا وزيراً للمالية. والمرشح الأول هو Henrique Meirelles، الرئيس التنفيذي السابق لشركة FleetBoston، ثاني أكبر دائن خارجي في البرازيل بعد CitiGroup. وأعرب ميريليس عن دعمه المطلق للولا، خاصة أنه كان يعمل معه سابقاً رئيساً للبنك المركزي.
ومن المرجح أن يصف ميريليس نفس السياسات الاقتصادية تماماً مثل أكبر منفذ اقتصادي لبولسونارو، المصرفي الاستثماري باولو جيديس. هذا هو بالضبط ما أنشأه ميريليس نفسه خلال إدارة الرئيس تامر، التي وصلت إلى السلطة بعد الانقلاب المؤسسي ضد الرئيسة ديلما روسيف اليسارية في عام 2016 (التي تمثل امتداداً لحكم دا سيلفا، ولكن دون نفس النجاح).
الدور الأمريكي في تطورات الأحداث بالبرازيل أكبر مما يتصور
وزارت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، البرازيل "بشكل غير رسمي"، في أبريل/نيسان الماضي. رفضت مقابلة الرئيس بولسونارو، وأشادت بالنظام الانتخابي البرازيلي، وقالت "لديكم واحد من أفضل الأنظمة في نصف الكرة الأرضية، من حيث الموثوقية والشفافية.
بعد ذلك، وعد لولا الاتحاد الأوروبي بالسيطرة على الوضع في منطقة الأمازون، التي شجع بولسونارو عملية إزالة غاباتها.
وأدان دا سيلفا علناً الغزو الروسي لأوكرانيا، كل ذلك بعد أن امتدح بايدن، في عام 2021، ووصفه بأنه "نفس للديمقراطية في العالم". وكانت مكافأته على هذا الأداء المتراكم، حسب وصف Asia Times، وضع صورته على غلاف مجلة تايم.
يعلق الموقع قائلاً، قد يؤشر كل ذلك أننا أمام حكومة يسارية زائفة، يقودها حزب العمال، ولكنها في حقيقتها حكومة نيوليبرالية بوجه إنساني، ومخترقة من قبل جميع أنواع التوجهات اليمينية، والتي تخدم بشكل أساسي مصالح وول ستريت ووزارة الخارجية الأمريكية، التي يسيطر عليها الديمقراطيون.
الخطوط الرئيسية لسياسة هذه الحكومة: الاستحواذ على الأصول البرازيلية الاقتصادية الرئيسية من قِبل الشركات العالمية الكبرى، وبالتالي لا مجال للبرازيل لممارسة السيادة الحقيقية.
لولا دا سيلفا ليس أداة في يد أحد، ولكنه أمام تحدٍّ كبير
لولا بالطبع ذكي للغاية، بحيث لا يمكن اختزاله في دور مجرد رهينة في يد القوى الليبرالية الغربية، لكن مساحته للمناورة- داخلياً، ضئيلة للغاية.
سوف تستمر البولسونارية السامة، الموجودة الآن في المعارضة، في الازدهار المؤسسي وهي ترتدي زياً- وهمياً- "مناهضاً للنظام"، وخاصة في مجلس الشيوخ.
بولسونارو يوصف بأنه "أسطورة" ابتكرها الجيش البرازيلي وقام بتعبئتها، وظهرت في العلن بعد حوالي شهر من فوز الرئيسة السابقة ديلما في الانتخابات.
يغازل بولسونارو نفسه وعدد لا يحصى من أنصاره المتعصبين النازية. امتدح بلا خجل الجلادين المعروفين خلال الديكتاتورية العسكرية البرازيلية؛ وقام بتغذية الميول الفاشية الجادة الكامنة في المجتمع البرازيلي.
يقول موقع Asia Times "بل إن البولسونارية أكثر خبثاً، لأنها حركة مصطنعة عسكرياً تابعة لنخب العولمة النيوليبرالية المتشددة، وتتألف من الإنجيليين وأباطرة الأعمال الزراعية، بينما تتظاهر بأنها "مناهضة للعولمة". لا عجب أن الفيروس لوث حرفياً نصف أمة في حالة ذهول ومربكة.
يزيد من قوة البولسونارية طبيعة البرازيل الجغرافية والاجتماعية، نحن أمام بلد شبه متقدم، أو دعنا نقول بلد لديه أسوأ ما في الدول المتقدمة والدولة النامية.
بلد يعد منتجاً زراعياً ومعدنياً كبيراً، ولديه رأسمالية قوية، هذا يعني أن الطبقة الرأسمالية هي طبقة خشنة، ترتبط بمهن هي بطبيعتها ضد كثير من شروط الحداثة بمعناها المعاصر، فالتوسع في الإنتاج الزراعي والمعدني هو أمر يقف على النقيض من الاعتبارات البيئية، وحقوق العمال.
فيما التوجهات اليسارية المعارضة تحاول تعزيز حقوق العمال وحماية البيئة، ولكن على عكس القوى اليسارية والليبرالية في الولايات المتحدة، ليس لها ظهير بنفس القوة، من الطبقة الوسطى أو شركات التكنولوجيا المتصالحة مع الملفات البيئية.
لدى البرازيل نظام سياسي مركب، ولكنه فاسد بشكل كبير؛ ما يسمح للاعبين الرأسماليين وحلفائهم داخل النظام باستخدامه بكفاءة أعلى من القوى النضالية.
دا سيلفا مؤسس البريكس وصديق الصين وروسيا القديم
خارجياً، سيواجه لولا دا سيلفا واحداً من أكبر التحديات.
كان لولا هو أحد مؤسسي مجموعة البريكس في عام 2006، والتي تطورت من الحوار الروسي الصيني. إنه يحظى باحترام كبير من قبل قائدي الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية، شي جين بينغ وفلاديمير بوتين.
لقد وعد بأن يتولى الرئاسة لولاية واحدة فقط، أو حتى نهاية عام 2026، ولكن هذا يتزامن مع العقد الذي وصفه بوتين في خطابه في فالداي بأنه الأخطر والأكثر أهمية منذ الحرب العالمية الثانية.
إن الدافع نحو عالم متعدد الأقطاب، ممثل مؤسسياً بمجموعة من الهيئات من مجموعة بريكس+ إلى منظمة شنغهاي للتعاون، إلى الاتحاد الاقتصادي أوراسيا، سيحقق مكاسب هائلة بالنسبة لدا سيلفا، باعتباره الزعيم الطبيعي للجنوب العالمي، ولديه سجل حافل في هذا الشأن.
والأمريكيون أسهموا في إقصائه
بالطبع، سينصبّ تركيز سياسة دا سيلفا الخارجية المباشرة على أمريكا الجنوبية، فقد أعلن بالفعل أن وجهة زيارته الرئاسية الأولى، على الأرجح الأرجنتين، التي قال إنها لا بد أن تنضم إلى مجموعة بريكس بلس، ثم سيزور واشنطن.
يعلق تقرير موقع Asia Times على هذه الزيارة المحتملة لواشنطن قائلاً "أبق أصدقاءك قريبين وأعداءك أقرب"، حيث يزعم التقرير أنه في عهد أوباما وبايدن تم تنسيق العملية المعقدة الكاملة لإسقاط رئيسة البرازيل اليسارية ديلما، وطرد لولا من السياسة.
ستكون البرازيل بطة عرجاء في قمة مجموعة العشرين القادمة في بالي، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، (لأن دا سيلفا لن يكون قد تسلم منصب الرئاسة)، ولكن في عام 2023 سيعود لولا إلى العمل جنباً إلى جنب مع بوتين وشي. وهذا ينطبق أيضاً على قمة بريكس المقبلة في جنوب إفريقيا، والتي ستدمج مجموعة بريكس+، حيث تتوق مجموعة من الدول للانضمام، من الأرجنتين والمملكة العربية السعودية إلى إيران وتركيا.
والآن عليه المناورة بحذر بين علاقته القديمة مع الصين والمستجدة مع واشنطن
كيف سيدير دا سيلفا العلاقة مع الولايات المتحدة والصين، ستكون مسألة صعبة، لم تعد واشنطن تتسامح مع فكرة تعزيز العلاقات مع الصين كما كان الأمر سابقاً.
كما أن القوى الليبرالية واليسارية التي تقود الدفة الغربية تنظر للصين على أنها العدو الرئيسي للغرب، بل تزيد على ذلك بنعتها بأنها النظام الاستبدادي الذي يهدد العولمة، وحقوق الإنسان.
ثم هناك الصلة بين البرازيل والصين، كانت برازيليا الشريك التجاري الرئيسي لبكين في أمريكا اللاتينية منذ عام 2009، حيث استوعبت ما يقرب من نصف استثمارات الصين في المنطقة (والأكثر من أي وجهة استثمارية في أمريكا اللاتينية في عام 2021)، وتحتل مكانة راسخة باعتبارها خامس أكبر مصدر للنفط الخام للسوق الصينية، والثاني للحديد والأول لفول الصويا.
السوابق تحكي القصة. منذ البداية، في عام 2003، راهن لولا على شراكة استراتيجية مع الصين. واعتبر زيارته الأولى لبكين عام 2004 على رأس أولويات سياسته الخارجية، النوايا الحسنة في بكين لا تتزعزع، حيث تعتبِر الصين لولا صديقاً قديماً، وأن رأس المال السياسي سيفتح فعلياً كل باب أحمر.
من الناحية العملية سيعني هذا أن لولا يستثمر نفوذه العالمي الكبير في تعزيز بريكس+ (لقد صرح بالفعل أن بريكس ستكون في قلب سياسته الخارجية)، والأعمال الداخلية للتعاون الجيوسياسي والجيواقتصادي بين الجنوب والجنوب.
قد يشمل ذلك حتى توقيع لولا رسمياً على البرازيل كشريك في مبادرة الحزام والطريق الصينية، بطريقة لن تثير استعداء الولايات المتحدة، الميزة أن لولا دا سيلفا، بعد كل شيء، هو سيد هذه الحرفة، حسب وصف تقرير Asia Times.
لقد أُقصي لولا مراتٍ لا تحصى من المشهد البرازيلي، لذا فإن التقليل من شأنه هو رهان سيئ. حتى قبل أن يبدأ ولايته الثالثة قام بالفعل بعمل كبير، ومنه تحرير غالبية البرازيليين من العبودية العقلية.
ستتجه كل الأنظار إلى ما يريده الجيش البرازيلي وحلفاؤه الأجانب.
لقد شرع قادة الجيش البرازيلي في مشروع طويل الأمد، وسيطروا على معظم هيكل السلطة، وببساطة لن يستسلموا.