تسبَّب قرار روسيا تعليق مشاركتها في "اتفاقية الحبوب" مع أوكرانيا بوساطة تركية وأممية في تغذية المخاوف من عودة جنون أسعار الغذاء وندرته لتعصف بالكثير من دول العالم، فلماذا اتخذت موسكو تلك الخطوة؟ وما علاقتها بالحرب المشتعلة؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي وتصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قد تسبب في أزمة حادة في واردات الحبوب، كون البلدين المتحاربين يمتلكان حصة عالمية منها تصل إلى 30%، وتضاعفت الأسعار بصورة جنونية.
وبعد أن تفاقمت أزمة الغذاء العالمية، وبات مئات الملايين مهددين بخطر المجاعة، تسارعت الجهود من أجل التوصل لاتفاق يسمح لأوكرانيا بتصدير ملايين الأطنان من الحبوب في مخازنها وموانئها، وهو ما تم في يوليو/تموز الماضي بوساطة من تركيا والأمم المتحدة.
لماذا علقت روسيا مشاركتها في اتفاقية الحبوب؟
السبت 29 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت روسيا تعليق مشاركتها في الاتفاقية، المعروفة باسم "اتفاق البحر الأسود" إلى "أجل غير مسمى"، معلنة أنها لا تستطيع "ضمان سلامة السفن المدنية" التي تبحر بموجب الاتفاقية بعد تعرض الأسطول الروسي في البحر الأسود لهجوم أوكراني بطائرات مسيرة، بحسب رويترز.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية صباح الأحد أن عدداً من المسيرات التي استُخدمت لمهاجمة أسطولها في القرم كان يضم "وحدات ملاحية كندية الصنع"، قائلة إنها عثرت على حطام بعضها في البحر، وذكرت الوزارة أن خبراءها "قاموا بفحص وحدات الملاحة الكندية الصنع المثبتة على المسيرات البحرية"، بحسب تقرير لموقع فرانس 24.
كما اتهمت وزارة الدفاع الروسية أوكرانيا بمهاجمة أسطول البحر الأسود بالقرب من سيفاستوبول بست عشرة طائرة مسيَّرة وقالت إن "متخصصين" في البحرية البريطانية ساعدوا في تنسيق ما وصفته بهجوم إرهابي. ونفت بريطانيا هذا الادعاء. وقالت روسيا إنها صدت الهجوم لكن السفن المستهدفة كانت تشارك في تأمين ممر الحبوب من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود.
أوكرانيا، من جانبها، نفت الاتهامات الروسية ووصفتها بأنها "حجة كاذبة"، بينما وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن القرار الروسي بالانسحاب من الاتفاق بأنه "مشين"، فيما اعتبر وزير خارجيته أنتوني بلينكن أن روسيا تستخدم مجدداً "الغذاء سلاحاً" في الحرب.
وأعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الأحد، عن "قلقه البالغ حيال الوضع الحالي المرتبط بمبادرة الحبوب في البحر الأسود"، وفق المتحدث باسمه الذي أوضح أن غوتيريش قرر تأجيل مغادرته لحضور القمة العربية في الجزائر لمدة يوم "من أجل التركيز على هذه القضية".
وحض الاتحاد الأوروبي روسيا على "العدول عن قرارها"، بينما أكد مركز التنسيق المشترك المكلف الإشراف على تطبيق الاتفاق أن أي حركة لسفن شحن تنقل الحبوب الأوكرانية لم تسجل في البحر الأسود، الأحد.
كانت اتفاقية الحبوب قد أدت إلى تصدير أكثر من 9.5 مليون طن من الذرة والقمح ومنتجات دوار الشمس والشعير وبذور اللفت وفول الصويا منذ توقيعها في يوليو/تموز الماضي لفترة محددة، كان من المفترض أن يتم تجديداً في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وبموجب الاتفاق، يوافق مركز التنسيق المشترك الذي يضم مسؤولين من الأمم المتحدة وتركيا وروسيا وأوكرانيا على حركة السفن وتفتيشها.
ولم تعبر أي سفن يوم الأحد الممر الإنساني البحري الذي تمت إقامته. ولكن الأمم المتحدة قالت في بيان إنها اتفقت مع أوكرانيا وتركيا على خطة لإبحار 16 سفينة الاثنين 31 أكتوبر/تشرين الأول، 12 منها للخارج وأربع سفن للداخل.
وقالت الأمم المتحدة إنه تم إبلاغ المسؤولين الروس في مركز التنسيق المشترك بالخطة، إلى جانب نية تفتيش 40 سفينة خارجة يوم الإثنين وأشارت إلى أن "جميع المشاركين ينسقون مع الجيش والسلطات الأخرى ذات الصلة لضمان المرور الآمن للسفن التجارية" بموجب الاتفاق.
وقالت وزارة الدفاع التركية إن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار على اتصال بنظيريه الروسي والأوكراني لمحاولة إنقاذ الاتفاق وطلب من الأطراف تجنب أي استفزاز.
كيف يمكن أن يؤثر القرار الروسي على أسعار الحبوب؟
توقع محللون وخبراء أنه من المرجح أن يؤدي انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود إلى التأثير سلباً على الشحنات التي تصل لدول تعتمد على الاستيراد بما قد يدفع أزمة غذاء عالمية لمزيد من الاحتدام والأسعار لمزيد من الارتفاع.
وزير البنية التحتية الأوكراني أولكسندر كوبراكوف، كتب على تويتر الأحد: "كان من المفترض أن تغادر ناقلة محملة بحوالي ـ 40 طناً من الحبوب ميناء أوكرانيا اليوم"، وأضاف: "هذه المواد الغذائية مخصصة للإثيوبيين، وهم على وشك المجاعة. ولكن بسبب إغلاق" ممر الحبوب "من جانب روسيا، فإن التصدير مستحيل"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وقال اثنان من التجار في سنغافورة لرويترز إن مئات من الآلاف من الأطنان من القمح المحجوزة للشحن لإفريقيا والشرق الأوسط في خطر بعد أن انسحبت روسيا بينما ستقل صادرات الذرة الأوكرانية لأوروبا.
وقال أحد المصدرين، وهو تاجر حبوب في سنغافورة يمد مشترين في آسيا والشرق الأوسط بالقمح: "إذا اضطررت لاستبدال شحنة سفينة كان من المفترض أن تأتي من أوكرانيا، فما هي الخيارات؟ ليست كثيرة في الواقع".
وقفزت عقود شيكاجو الآجلة للقمح، الاثنين، بأكثر من خمسة بالمئة وارتفع سعر الذرة بما يفوق اثنين بالمئة بسبب مخاوف الإمدادات. ويقول تجار ومتعاملون إن أستراليا، وهي مزود أساسي لآسيا بالقمح، لن تتمكن على الأرجح من سد أي فجوة في الإمدادات مع حجز كل شحناتها حتى فبراير/شباط المقبل.
وقال التاجر الذي يعمل مع سنغافورة: "يجب علينا أن نرى كيف سيتكشف الموقف. ليس من الواضح إن كانت أوكرانيا ستواصل شحن الحبوب وماذا سيحدث للصادرات الروسية".
وقال تاجر آخر يعمل من سنغافورة في شركة دولية: "لسنا متأكدين ما إذا كانت روسيا ستواصل تصدير القمح وما إذا كان من الآمن للسفن التي تحمل القمح الروسي الشحن والتحرك من البحر الأسود حتى مع بقاء الصادرات الأوكرانية محجوبة".
ومن المرجح أن تتأثر أيضاً صادرات الذرة الأوكرانية لأوروبا للشهر المقبل سلباً، إذ أضاف التاجر الثاني: "بالنسبة لأوروبا الذرة هي المشكلة الأكبر من القمح مع دخولنا موسم ذروة الذرة الأوكرانية في نوفمبر".
وزير الزراعة الفرنسي، مارك فيسنو، قال إن بلاده تسعى إلى إتاحة طرق برية عبر بولندا أو رومانيا لمرور الصادرات الغذائية من أوكرانيا كبديل لطريق البحر الأسود، وأضاف لإذاعة آر.إم.سي: "نتطلع إلى معرفة ما إذا كان بالإمكان، في حالة عدم التمكن من المرور من خلال البحر الأسود، المرور بدلاً من ذلك من طرق برية… خاصة من خلال دراسة الطرق البرية عبر رومانيا وبولندا".
"سنواصل العمل من أجل نظام لا يضعنا رهن رغبة وحسن نية، أو في هذه الحالة سوء نية، (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين"، بحسب فيسنو.
وفي هذا السياق، كانت روسيا وأمريكا تتبادلان الاتهامات بشأن المسؤولية عن أزمة الغذاء التي يعاني منها العالم وتهدد الملايين بالجوع، ولا يزال ذلك التنصل من المسؤولية وإلقاء اللوم على الطرف الآخر مستمراً.
هل للقصة علاقة مباشرة بمسار الحرب في أوكرانيا؟
تتزامن قصة الحبوب، والانسحاب الروسي من الاتفاقية والاتهامات الغربية لموسكو باستخدام "الغذاء كسلاح في الحرب"، مع استمرار المواجهات الطاحنة في ساحة المعركة، سواء على خطوط التماس بين القوات الروسية والأوكرانية في إقليم دونباس أو خيرسون وزابورجيا أو على امتداد الأراضي الأوكرانية بشكل عام.
فروسيا تواصل شن هجماتها الجوية، بالصواريخ والمسيرات، التي تستهدف البنية التحتية لأوكرانيا في جميع المدن، وخصوصاً العاصمة كييف، بينما تستمر محاولات الأوكرانيين، المدعومين بقوة وسخاء من الغرب وحلف الناتو بزعامة واشنطن، لتحقيق مزيد من التقدم واستعادة الأراضي من الروس، خصوصاً في منطقة خيرسون الجنوبية.
فقد سُمع دوي سلسلة من الانفجارات في كييف صباح الإثنين، بحسب شهود من رويترز في المدينة، فيما أفادت السلطات الإقليمية في شمال وشرق ووسط أوكرانيا أيضاً بوقوع ضربات صاروخية.
وقال الشهود إنه يمكن رؤية الدخان يتصاعد فوق كييف بعد أكثر من عشرة انفجارات، كما انهارت شبكات الطاقة الكهربائية والهاتف المحمول في أجزاء من المدينة.
وقال إيهور تيريكوف، رئيس بلدية خاركيف، إن المدينة تعرضت لقصف بصاروخين استهدفا "منشأة بنية تحتية حيوية". كما تم الإبلاغ عن انفجارات في مدينتي زابوريجيا وتشيركاسي. وكتب أندريه يرماك، رئيس مكتب الرئيس فولوديمير زيلينسكي عبر تطبيق المراسلة تيليغرام: "يواصل الروس المنهزمون شن الحرب على المنشآت المدنية".
وإجمالا يمكن القول إن العمليات العسكرية الرئيسية تتركز حالياً في جبهتين، الأولى في الشرق حيث توجد منطقتا لوغانسيك ودونيتسك، اللتان أعلنت روسيا ضمهما مع زابوروجيا وخيرسون، والثانية هي جبهة خيرسون في الجنوب.
ففي الشرق، تواصل القوات الروسية شن هجمات متكررة على ما تبقى من مناطق غير خاضعة لسيطرتها في إقليم دونباس، والأحد أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن قوات بلاده صدت "هجوماً عنيفاً" شنته القوات الروسية في منطقة دونيتسك، موضحاً أن وحدة عسكرية من مدينة تشوب في غرب أوكرانيا نفذت العملية، دون أن يحدد موقع الاشتباك.
أما في جبهة خيرسون، فالموقف معكوس، حيث القوات الأوكرانية هي التي تهاجم بينما تدافع القوات الروسية عن عاصمة الإقليم، وهي المدينة الوحيدة الكبرى التي سيطرت عليها روسيا بشكل كامل في الأيام الأولى للحرب. وهناك يدور الحديث المقلق حول احتمالات "تفجير قنبلة قذرة" في ظل تبادل طرفي الحرب الاتهامات بشأن من سوف يقدم على ارتكاب تلك الكارثة.