يبدو أن قطار تعويم الجنيه المصري قد انطلق مجدداً بعد الإعلان عن قرض جديد من صندوق النقد الدولي وتسجيل الجنيه المصري لأدنى مستوى في تاريخه؛ ما أثار قلق المواطنين من حدوث موجة غلاء جديدة تضاف إلى الغلاء الحادث بالفعل.
وقبيل الإعلان عن القرض، رفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة 200 نقطة أساس، أعقب ذلك تسجيل الجنيه المصري أدنى مستوى في تاريخه حيث لامس 22.5 جنيه للدولار، قبل أن يخفف التراجع إلى 22.25 جنيه.
وبذلك ارتفع الدولار الأمريكي بنحو 43% منذ مارس الماضي مقابل الجنيه، فور اندلاع الأزمة الروسية -الأوكرانية وفرار المستثمرين الأجانب من أدوات الدين بالأسواق الناشئة، ومن ضمنها مصر، وفي ذلك الوقت كان الدولار يعادل نحو 15.5 جنيه.
ويمكن اعتبار ذلك بمثابة تعويم ثالث للجنيه المصري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك بعد التعويم الأول في 2016، والتعويم الجزئي في مارس/أذار الماضي.
وقال الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، إنه تم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، "بقيمة 3 مليارات دولار للبرنامج، ومليار آخر من صندوق الاستدامة، إضافة إلى 5 مليارات من الدول الشريكة في التنمية والمؤسسات الأخرى"، أي أن إجمالي حزمة التمويل الخارجية تبلغ نحو "9 مليارات دولار".
وأضاف: "نجحنا اليوم في التوصل إلى اتفاق الخبراء، وهي خطوة أساسية في إتمام البرنامج الجديد"، معتبراً أن "قرارات الدولة هذه تأتي استجابة للتوصيات الصادرة عن المؤتمر الاقتصادي، الذي نظمته الحكومة وطالب بضرورة وضع سياسة مالية ونقدية واضحة، وسرعة الاتفاق مع صندوق النقد، والإعلان عن حزمة حماية اجتماعية".
قرض صندوق النقد الجديد أقل بكثير من 2016 والحكومة ترفع الرواتب
ومن المؤشرات المثيرة للقلق بالنسبة للاقتصاد المصري أن القرض أقل بشكل كبير من القرض الذي تم خلال عملية التعويم الأولى في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والذي تضمن قرضاً قيمته 12 مليار دولار على ثلاث شرائح من صندوق النقد وحده إلى جانب مليارات من القروض من شركاء مصر الدوليين من دول عربية وغربية إضافة للصين.
بينما في الوقت الحالي أصبح الاقتصاد المصري أكبر حجماً، كما زادت الديون الخارجية بشكل كبير؛ مما يجعل هناك حاجة لكتلة نقدية أكبر لحل الفجوة الدولارية.
وفي محاولة للتصدي للضغوط التضخمية المتوقعة، استبقت مصر هذه القرارات أمس، بالإعلان عن حزمة حماية اجتماعية للمواطنين بقيمة "67 مليار جنيه (3.39 مليار دولار)"، تتضمن "رفع الحد الأدنى للأجور بنحو 300 جنيه (نحو 15 دولاراً بالأسعار القديمة) إلى 3 آلاف جنيه (152 دولاراً)".
كما أرجأت مصر رفع أسعار المحروقات والكهرباء، ومددت برنامجاً لدعم السلع التموينية.
القرار يعيد للأذهان تجربة 2016 المؤلمة والبعض يراه حتمياً
ويعيد القرار لأذهان المصريين قرارات التعويم الأول المؤلمة للمصرين التي تمت في نوفمبر/كانون الثاني 2016 والتي أدت إلى ارتفاع الدولار من سعره الرسمي الذي يقارب 9 جنيهات وقتها إلى نحو ثمانية عشر جنيهاً ونصف؛ مما أدى إلى موجة تضخم هائلة وتآكل مدخرات المصريين بالجنيه في ذلك الوقت.
في المقابل فإن بعض الاقتصاديين ورجال الأعمال، يرون أن التعويم أصبح ضرورة وأن تأخيره يزيد من المخاطر على الاقتصاد المصري في الوقت الذي بدأ المصريون يدفعون بالفعل بعض أثمان ارتفاع الدولار بسبب صعوده في السوق الموازية إضافة إلى نقص السلع جراء القيود الحكومية على الاستيراد للحفاظ على احتياطات البلاد من العملة الأجنبية.
وفي هذا الإطار، طالب رجل الأعمال والوزير السابق منير فخري عبد النور، عضو حزب الوفد المعارض، في ختام المؤتمر الاقتصادي، بالإسراع بتعويم الجنيه المصري معتبراً أن المصريين قد دفعوا بالفعل ثمن ارتفاع الدولار، وأنه سيكون للتعويم نواحٍ إيجابية إضافة للسلبيات التي حدث أغلبها بالفعل، حسب وجهة نظره.
ويقصد بالتعويم ترك سعر صرف الجنيه المصري حراً أمام الدولار، يتحدد وفق آليات السوق وتحديداً العرض والطلب مع تدخل البنك المركزي بالأدوات النقدية المعروفة والمعلنة (مثل أسعار الفائدة) وليس عبر التثبيت القسري للعملة أمام العملات الأجنبية.
ويفترض أن يؤدي القرار إلى إضعاف السوق الموازية الأمر الذي يسمح بتحويل المصريين في الخارج مدخراتهم عبر المصارف، إضافة عودة الاسثمار الأجنبي لمصر، في ظل عزوف المستثمرين لأنهم يرون الجنيه مقوماً بأعلى من قيمته.
وإليك أخطاء تجربة تعويم الجنيه المصري الأولى
ويرى الخبراء أن مصر تراجعت عن التعويم الذي نفذ عام 2016 خاصة بعد أن تلقت شرائح صندوق النقد الثلاث.
فلقد تم تثبيت سعر العملة ليصبح في حدود 18 أو 17 جنيهاً للدولار لنحو عامين قبل أن يتراجع الدولار أمام الجنيه المصري ليستقر لبضعة أعوام عند سعر يدور حول 15.5 جنيه.
واعتبر كثير من الاقتصاديين في ذلك الوقت أن الحكومة بخفضها لقيمة الجنيه أمام الدولار، قامت بالخطوة الصعبة والمؤلمة، ولكنها عادت لتثبيته لسنوات، وهو ما يعني أنها قد تخلت عن المفهوم العلمي لتحرير سعر الصرف وهو أن يتحدد سعر العملة وفقاً لآليات العرض والطلب، وأنه لجأت بدلاً من التعويم إلى أشكال تثبيت سعر صرف الجنيه المصري أو التعويم المدار في أفضل التقديرات.
وأدى ذلك إلى انخفاض التضخم ولكنه في الوقت ذاته أضعف تنافسية الصادرات المصرية وعزز تنافسية الوارادت القادمة من الخارج.
وأدت قوة العملة المصرية خلال تلك السنوات، وارتفاع الفائدة عليها في ذلك الوقت، إلى تحول مصر إلى واحد من المقاصد المفضلة للأموال الساخنة، التي حققت أرباحاً لا مثيل لها من حيازة الجنيه المصري في تلك الفترة؛ حيث حققت مكسباً مزدوجاً من شرائها العملة المصرية رخيصة عند سعر 18 جنيهاً للدولار، ثم باعتها بسعر 15.5 مع بدء الأزمة الأوكرانية، إضافة للمكاسب المتحققة من سعر الفائدة المرتفع خلال هذه السنوات؛ مما جعل الاستثمار في العملة المصرية بين عامي 2016 و2021 أفضل من أي عملة أخرى.
في المقابل، نتيجة لهذه السياسات النقدية التي صاحبها توسع في المشروعات القومية وتراجع دور القطاع الخاص، ارتفعت الديون بشكل كبير، وكانت مصر تلجأ لسوق الدين الخارجي لسداد الديون القديمة، ولكن مع حدوث الأزمة الأوكرانية هربت هذه الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة، وبدأت مصر تعاني من نقص كبير في احتياطياتها الدولارية وزاد من هذه الأزمة أن مصر عليها التزامات خارجية تكاثرت بعد التعويم الأول بسبب التوسع في الاقتراض والذي أنفق أغلبه في مشروعات البنية الأساسية التي لا تدر دخلاً بالدولار.
التعويم الثاني كان جزئياً
وبعد الأزمة الأوكرانية، وتحديداً في 21 مارس/آذار 2022، نفذت مصر ما يمكن وصفه بالتعويم الثاني، ولكنه كان جزئياً؛ حيث خفضت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بنحو 15% ليصل الدولار إلى 18.15 و18.29، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بدلاً من 15.74 جنيه. وتزامن ذلك مع رفع سعر الفائدة بنسبة 1%.
ومنذ ذلك الوقت، تزايد سعر الصرف الرسمي للدولار أمام الجنيه بشكل بطيء، فيما فرضت الحكومة قيوداً شديدة على الاستيراد، أفضت لوقف فعلي لتوريد بعض المنتجات وارتفاع حاد في الأسعار.
وبدأت تعود السوق السوداء أو السوق الموازية فيما كان سعر الجنيه مقابل سعر الدولار يدور حول 19.7، فإنه كان يدور حول 22 جنيهاً في السوق الموازية، ووصل إلى 23 جنيهاً للدولار.
ولكن يعتقد أن من أسباب عدم ازدياد الفجوة بين السوق الموازية والسعر الرسمي بشكل كبير هو تقييد الحكومة المصرية بطريقة غير مسبوقة للواردات الخارجية، وهو الأمر الذي حال دون انحدار الجنيه، ولكنه أدى في المقابل إلى نقص للسلع وارتفاع في أسعارها في كثير من الأحيان بشكل رأى البعض أنه يفوق حتى قيمة الدولار في السوق الموازية، بل يفوق قيمة الدولار المفترضة لو تم تحرير الجنيه.
حيث يقول بعض رجال الأعمال والتجار والاقتصاديين إن بعض الأسعار في السوق المصرية مقومة على أساس سعر الدولار 30 جنيهاً.
وهو ما دفع كثيراً من التجار ورجال الأعمال من بينهم رجال أعمال مقربون للسلطة، للمطالبة بالاسراع بالتعويم، باعتبار أن الوضع الحالي أكثر ضرراً من التعويم لأنه بالفعل هناك ارتفاع حاد في الأسعار، ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فنقص السلع يؤثر على سلسلة الإنتاج ويهدد بغلق المصانع ويضر بكثير من السلع الحيوية مثل ما ظهر في أزمة الدواجن، حيث بدأ مربو الكتاكيت في إعدامها بسبب عدم توافر العلف.
هل يكون التعويم الثالث للجنيه المصري أقل وطأة على الناس؟
والآن يراهن البعض على أن تأثير التضخم بعد التعويم الثالث للجنيه سوف يكون أقل من التعويم الأول، لأن المصريين بالفعل يشترون السلع بأسعار مقومة بسعر مرتفع للدولار، وبالتالي فالتعويم الرسمي لن يضيف الكثير من الآثار التضخمية لأنها موجودة أصلاً.
ولكن هذا ليس بالضرورة يجب أن يكون دقيقاً، لأنه ما زالت هناك سلع أساسية عديدة في السوق المصري كانت مسعّرة على أساس السعر الرسمي الذي يبلغ 19.5 جنيه مقابل الدولار.
ويعني هذا أن التعويم الثالث قد يؤدي إلى ضغوط تضخمية إضافية وهي ضغوط سوف تتعلق في الغالب بالسلع الأكثر ضرورية (والتي كانت الدولة توفر الدولار اللازم لاستيرادها بالسعر الرسمي) وكذلك السلع محلية الصنع (حيث كانت الدولة توفر جزئياً الدولار لمستلزمات الإنتاج بالسعر الرسمي).
فبينما أثر التضخم الذي حدث في الأشهر الماضية في السلع المرتبطة بالطبقة الوسطى والغنية بشكل أكبر، فإن التضخم الناتج عن التعويم الثالث للجنيه المصري سوف يمس في الأغلب السلع الضرورية للمواطن البسيط، كما أنه يتوقع أن يتوسع ليشمل الخدمات، مثل إيجارات المنازل، وغيرها.
ما هو سعر الجنيه المتوقع بعد التعويم؟
ولكن المشكلة ليست في هذا فقط، فهناك تساؤلات حول مصير الجنيه في حالة إذا نفذت الدولة تعويماً حقيقياً وهو المطلوب من صندوق النقد الدولي ومن رجال الأعمال.
وتشير توقعات المؤسسات الغربية إلى سعر يتراوح بين 23 و24 جنيهاً أمام الدولار كسعر يمكن أن يحقق لمصر قدراً من التوازن المالي الذي يقلل فجوة العملة الأجنبية لديها.
ولكن في ظل تفاقم الديون الخارجية وهروب الأموال الساخنة، فإن هذه الفجوة قد تكون أكثر وطأة على الاقتصاد المصري من فجوة عام 2016، كما أن ردات فعل السوق السلبية على التعويم واحتمال حدوث انتشار حالة خوف من الجنيه المصري قد تؤدي إلى ارتفاع مبالغ فيه للدولار (وهي سمة أساسية لأزمات العملة).
في المقابل فإن تراجع دور القطاع الخاص في الاقتصاد وتراجع معدلات الاستهلاك الخاص وتأثير الأزمات السابقة، وارتفاع الضرائب والأسعار في السنوات السابقة، قد قلل السيولة في أيدي المواطنين والقطاع الخاص بشكل قد يحد من موجة التضخم المتوقعة، خاصة أن البنك المركزي قام بإجراءات لتقليل السيولة لدى البنوك.
فعلى عكس ما حدث في تعويم 2016، لم يلاحظ في مصر حالة تهافت على شراء العقارات والسيارات والتي تعد في نظر الكثيرين وسيلة للحفاظ على قيمة النقود.
لكن في الأزمة الحالية لم يحدث إقبال على العقار بينما حدث بعض الإقبال على شراء السيارات ولكن بمعدلات أقل، خاصة أن الحكومة استبقت الأزمة بفرض قيود على استيرادها في وقت مبكر.
كما كان لافتاً أنه على عكس أزمات سابقة لم يحدث إقبال كبير على شراء الدولارات من قبل المواطنين المصريين، وهي ظاهرة كانت واضحة في عام 2016 لدرجة أن ربات البيوت المصريات كن يحولن مدخراتهن إلى الدولار في ذلك الوقت.
في كل الأحوال، فإن المؤكد أن مصر سوف تشهد موجة تضخم جديدة، ولكنها قد تكون أقل من عام 2016، وذلك لأن جزءاً من التضخم قد حدث بالفعل خلال الأشهر الماضية (بعضه تضخم مستورد من الخارج)، كما أن عملية التعويم تتم بشكل تدريجي مقارنة بـ2016، حين أعلن محافظ البنك المركزي طارق عامر في ذلك الوقت، تخفيض الجنيه من سعره الرسمي آنذاك 8.9 للدولار إلى نحو 13 جنيهاً أي بنسبة تدور حول 50% ثم سرعان ما وصلت الدولار إلى 18 جنيهاً، أي أن الجنيه فقد 100% من قيمته أمام الدولار في ذلك الوقت.
ولكنه منذ التعويم الثاني في مارس/أذار الماضي، تسعى السلطات لإبطاء وتيرة تراجع الجنيه، حتى في السوق الموازية حتى لو كان الثمن نقص السلع.
هل تعيد الحكومة فتح الاستيراد؟
ويظل التحدي الرئيسي أمام الحكومة المصرية هو قدرتها على إعادة الاستيراد لوضعه الطبيعي، وهل يؤدي ذلك الى تهافت على العملة الأجنبية يفاقم تدهور الجنيه المصري، وأن يتم إجراء ذلك بشكل تدريجي وفعال بحيث يؤدي إلى فتح الأسواق وعودة الحركة التجارية بدون تهديد الجنيه المصري.
كما تواجه الحكومة المصرية تحدياً آخر هو استعادة ثقة المستثمرين الأجانب ومنهم حتى مستثمري الأموال الساخنة ليضخوا استثماراتهم في الأوراق المالية المصرية لمعالجة فجوة التمويل الموجودة حالياً لتمكين الحكومة من توفير الدولار للسوق المحلي وديونها الخارجية.
وفي الوقت ذاته، فإن الحكومة مطالبة بتوفير مناخ استثماري ايجابي لدخول رأس المال المباشر لتقديم قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد المصري.
بعض التحديات قد تكون أكبر مما كانت عليه في 2016
بالطبع هناك شكوك من مجتمع الأعمال المحلي والدولي والدول الداعمة في مدى التزام الحكومة المصرية بهذه الأجندة هذه المرة، في ظل تراجعها عن التعويم الذي تم في 2016 وإخفاقها في توفير ظروف استثمارية ملائمة للقطاع الخاص المحلي والخارجي، مقابل صعود دور شركات الجيش والتركيز على المشروعات القومية الكبرى.
كما يزيد من الأعباء على الاقتصاد هذه المرة مقارنة بتعويم 2016، أن حجم قرض المقدم من صندوق النقد الدولي، أقل من المرة السابقة خاصة أن مصر قد استنفدت أرصدتها لدى الصندوق واضطرت إلى اللجوء إلى برامج جانبية من الصندوق لتمويل الحزمة الجديدة.
وتتطلع القاهرة إلى دعم دول الخليج العربية التي تحسنت موازنتها العامة بفضل ارتفاع أسعار النفط والغاز، ولكن من الواضح أن هذه الدول تميل هذه المرة إلى أن يكون دعمها لمصر في شكل الاستثمارات أكثر منه مساعدات اقتصادية.
وفي كل الأحوال، يظل تحقيق تنمية مستدامة لمصر مرتبطاً بسياسات اقتصادية مشجعة للانتاج المحلي وللاستثمار الداخلي والخارجي ومحددة لدور الدولة في سياقه الطبيعي القائم على تنظيمها للمنافسة وتنفيذ مشروعات البنية الأساسية الواقعية والضرورية والمدروسة بشكل علمي بناء على احتياجات وإمكانيات البلاد.