بينما تتأهب روسيا وأوكرانيا لمعركة خيرسون، التي تبدو حاسمة لمسار الحرب، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين ليس في عجلة من أمره، على عكس كييف وداعميها الغربيين، فماذا يعني الشتاء لتلك المواجهة الممتدة؟
كانت الحرب في أوكرانيا، التي بدأت يوم 24 فبراير/شباط الماضي، وتصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة"، بينما تصفها كييف وحلفاؤها بأنها "غزو غير مبرّر"، قد دخلت منعطفاً خطيراً خلال الأسابيع الماضية، بعد أن أخذت القوات الأوكرانية زمام المبادرة في الميدان وبدأت تستعيد مساحات واسعة من الأراضي التي احتلتها القوات الروسية.
وبعد أن حققت أوكرانيا انتصارها الكبير وأجبرت روسيا على الانسحاب من إقليم خاركيف مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، ردت موسكو بإجراء "استفتاءات" في 4 مدن هي لوغانسيك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، وضمت تلك المدن رسمياً إلى أراضيها، رغم الرفض الغربي والأممي لذلك التصعيد.
خيرسون.. المعركة الأشرس
على أية حال، لم تؤدّ خطوة "الضم" الروسي للمدن الأوكرانية إلى إحداث تغيير يُذكر في ساحة المعركة، إذ واصل حلفاء أوكرانيا، وبخاصة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تزويد القوات الأوكرانية بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية، كما لم يفلح تغيير بوتين جنرالاته المسؤولين عن إدارة الحرب في وقف التقهقر الروسي على الأرض.
وعلى نفس المنوال، لم تؤدّ تهديدات بوتين الصريحة باستخدام الأسلحة النووية في "الدفاع عن جميع الأراضي الروسية" في إحداث تغيير يُذكر، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى العسكري، حيث واصلت أوكرانيا التقدم، وتركز الهجوم الأوكراني هذه المرة على منطقة خيرسون، أحد المناطق الأربعة التي أصبحت، بحسب الكرملين، تتبع أراضي الاتحاد الروسي.
وخيرسون هي المدينة الوحيدة التي كانت روسيا قد سيطرت عليها بشكل كامل منذ الأيام الأولى للحرب، وتتمتع بأهمية استراتيجية مهمة للغاية، إذ تشرف المدينة على الطريق البري الوحيد المؤدي إلى شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014، ومصب نهر دنيبرو، الذي يقسم أوكرانيا إلى شقين شرقي وغربي.
ومنذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول، بدأت القوات الأوكرانية اقتحام خطوط المواجهة في منطقة خيرسون في أكبر تقدم لها في الجنوب منذ بداية الحرب، بهدف قطع الإمدادات وطرق الهروب عبر النهر عن القوات الروسية.
وفجأة أعلنت الإدارة الروسية لخيرسون قراراً بإخلاء المدينة من سكانها، ثم تحدثت تسريبات روسية عن استعداد أوكرانيا لتفجير "قنبلة قذرة" وإلقاء اللوم على موسكو، لتقفز خيرسون إلى قمة الاهتمام، بعد أن أصبحت الهدف الرئيسي للقوات الأوكرانية، وبدا أن موسكو تستعد للانسحاب منها، رغم أن ذلك يمثل ضربة قاصمة، وربما تكون بداية النهاية للقوات الروسية في أوكرانيا بشكل عام.
لكن يبدو أن الحديث عن إخلاء السكان من خيرسون ليس الهدف منه الاستعداد للانسحاب من جانب القوات الروسية، إذ على الرغم من عمل السلطات التي عينتها روسيا على إجلاء السكان إلى الضفة الشرقية من نهر دنيبرو، فإن أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، قال إنه لا توجد علامة على أن القوات الروسية تستعد للتخلي عن المدينة.
وقال في مقطع مصوّر عبر الإنترنت "كل شيء واضح فيما يتعلق بخيرسون. الروس يعززون صفوفهم هناك"، وأضاف "هذا يعني أن لا أحد يستعد للانسحاب. على العكس من ذلك، فإن خيرسون ستشهد أشرس المعارك"، بحسب رويترز. كما اتضح مؤخراً أن القوات الأوكرانية لم تستعد على ما يبدو الكثير من الأراضي في هجومها المضاد في خيرسون منذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول.
وقال يوري سوبوليفسكي، وهو عضو في المجلس الإقليمي لمجلس خيرسون المؤيد للأوكرانيين، إن السلطات التي عينتها روسيا تمارس ضغوطاً متزايدة على سكان خيرسون للمغادرة.
بوتين.. هل يسعى لإطالة أمد الحرب؟
يسعى الرئيس الروسي حالياً إلى تحقيق هدفين آنيين، الأول هو امتصاص الغضب الداخلي بسبب عدم حسم الحرب عسكرياً، رغم مرور أكثر من 8 أشهر على بدايتها، والثاني هو استغلال عامل الوقت وتفادي خسارة المزيد في ساحة المعركة حتى يحل فصل الشتاء، على أمل أن تتسبب البرودة القاسية في تأجيج مشاعر الغضب في أوروبا بسبب أزمة الطاقة التي تعصف بها، بحسب مقال لشبكة CNN الأمريكية.
وحقيقة الأمر هي أن الطرفين، روسيا وأوكرانيا المدعومة من الغرب، يسعيان إلى حسم الأمور قبل دخول فصل الشتاء، الذي يوصف بأنه قد يكون أقسى شتاء تعيشه أوروبا، بسبب احتمالات الوقف التام لإمدادات الغاز الطبيعي من روسيا وعدم كفاية الإجراءات البديلة التي سعى من خلالها الاتحاد الأوروبي لتفادي الكارثة.
وأزمة الطاقة، من شح الغاز وارتفاع أسعاره إلى ارتفاع أسعار النفط، تتسبب بالفعل في اضطرابات ضخمة في أغلب الدول الأوروبية، وبخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وهو ما يتسبب في تصدعات واضحة في التحالف ضد روسيا، نظراً لاختلاف ظروف وإمكانات دول الاتحاد، وقدرة كل منها على توفير بدائل لمصادر الطاقة الروسية.
وما يحدث بين فرنسا وألمانيا من خلافات عميقة، وصلت حد تبادل الاتهامات علانية بين إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني، أولاف شولتس، إضافة إلى تأجيل الاجتماع السنوي بين حكومتي البلدين هذا العام، للمرة الأولى منذ انطلاقه عام 1963، كل هذا يمثل مؤشرات على مدى خطورة الموقف، والشتاء لم يبدأ بعد. أما في بريطانيا، فقد تسلم ريشي سوناك منصب رئيس الوزراء خلفاً لليز تراس، التي شغلت المنصب 6 أسابيع فقط، بعد أن كان بوريس جونسون قد أجبر على الاستقالة.
وفي إيطاليا، تسلمت جورجيا ميلوني، السياسية اليمينية، المسؤولية فيما يعتبر خبراً ساراً لروسيا، حيث من المتوقع أن تركز الحكومة الجديدة في روما على قضايا منع الهجرة، وسيتراجع الدعم لفرض مزيد من العقوبات على روسيا أو إرسال مزيد من الدعم لأوكرانيا، بحسب المحللين.
هذه المؤشرات وغيرها تعني أن الوقت الآن بات في صالح بوتين، وليس في صالح زيلينسكي، خصوصا أن الأمور على الأرجح ستزداد سوءاً مع دخول الشتاء، ومعها ستزداد حدة التشققات في الحلف الغربي، الذي تلقي موسكو عليه باللوم فيما تكبّدته من خسائر في خاركيف.
وكان هذا بالتحديد ما صرّح به ألكساندر دوغين، الذي يصفه الغرب بأنه "عقل بوتين"، حيث وصف الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف بأنه "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
صراع الغرب أيضاً مع الوقت قبل الشتاء
وهناك نقطة أخرى تتعلق بما شهدته الأيام القليلة الماضية من تطورات، سواء حديث "القنبلة القذرة" وتبادل الاتهامات بشأن احتمالات تفجيرها، أو ما حدث من فتح واشنطن ولندن لقنوات اتصال مباشر مع موسكو، وهو ما يراه البعض مؤشراً آخر على سعي أطراف الأزمة للبحث عن مخرج قبل نهاية العام الجاري.
إذ أجرى وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، اتصالاً بنظيره الروسي، شويغو، وتكرَّر الأمر من جانب مسؤولين آخرين في البنتاغون، تزامناً مع تسريبات روسية بأن أوكرانيا تستعد لتفجير "قنبلة قذرة"، وإلقاء اللوم على روسيا.
وكانت وسائل إعلام روسية قد ذكرت، الأحد، 23 أكتوبر/تشرين الأول، أن كييف جهّزت، بدعم غربي، "قنبلة قذرة"، استعداداً لتفجيرها في أحد مسارح العمليات العسكرية، على الأرجح منطقة خيرسون، وأطلقت هذه التقارير سلسلة من تبادل الاتهامات بين موسكو من جهة وكييف وحلفائها الغربيين من جهة أخرى.
ويُقصد بمصطلح "القنبلة القذرة" مجموعة متنوعة من السلاح غير التقليدي، فقد تكون سلاحاً نووياً تكتيكياً أو سلاحاً بيولوجياً أو كيميائياً، أو جهازاً للتشتت الإشعاعي، وهو نوع من الأسلحة الإشعاعية التي تجمع بين المواد المشعة والمتفجرات التقليدية.
وعلى الفور ردَّت دول غربية متهمة روسيا بالتخطيط لاستخدام التهديد بقنبلة محمّلة بمواد نووية كذريعة للتصعيد في أوكرانيا، ورداً على سؤال عما إذا كانت واشنطن ستتعامل مع استخدام "قنبلة قذرة" بنفس تعاملها مع استخدام أي قنبلة نووية أخرى، قال نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، إنه "ستكون هناك عواقب" على روسيا في الحالتين. وأضاف برايس للصحفيين "سواء استخدمت "قنبلة قذرة" أو قنبلة نووية. كنا واضحين للغاية بشأن ذلك".
وقال وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في بيان مشترك، إنهم جميعاً رفضوا هذه الادعاءات، وأكدوا دعمهم لأوكرانيا في مواجهة روسيا، وذكروا "أوضحت بلداننا أننا جميعاً نرفض ادعاءات روسيا الكاذبة بشكل واضح، بأن أوكرانيا تستعد لاستخدام قنبلة قذرة على أراضيها… العالم سيرى أن أي محاولة لاستخدام هذه الادعاءات ذريعة للتصعيد".
الخلاصة هنا هي أن الغرب يكثف من دعمه لأوكرانيا حتى تتمكن من تحقيق انتصار آخر في خيرسون ليقوي موقف كييف في أي مفاوضات قادمة مع موسكو، بينما يسعى الكرملين إلى الصمود وعدم تكرار ما حدث في خاركيف، عندما أجبرت القوات الروسية على الانسحاب خشية حصارها، وكلمة السر هنا يبدو أنها أصبحت فجأة "عامل الوقت"، أو قبل أن يحل الشتاء وتحل معه رياح قارسة البرودة يتوقع أن تكون في صالح بوتين.
وفي كل الأحوال، سيظل العالم على أطراف أصابعه حرفياً، في ظل وصول الحرب إلى مرحلة تهدد بتخطيها حدود أوكرانيا، وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة، أو كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه بأنها حرب نهاية العالم، رغم محاولته التخفيف من الفزع، بقوله لاحقاً إن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاقل".
فالرئيس الأمريكي لم يوضح كيف يمكن تفادي هذا الخيار النووي المدمّر، في ظل استمرار إرسال الدعم العسكري إلى أوكرانيا، التي تُحقق انتصارات ميدانية مهمة، منذ مطلع سبتمبر/أيلول، بفضل ذلك الدعم الغربي، وفي الوقت نفسه إقرار بايدن وباقي الزعماء الغربيين بأن بوتين لن يقبل الهزيمة بأي صورة من الصور.