تعيش الأراضي الفلسطينية المحتلة بالضفة الغربية منذ عدة أشهر حالة اشتباك شبه يومية مع الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعد الأعمال الفدائية المتنوعة، وانتشار ملحوظ لخلايا المقاومة المسلحة وتشكيلاتها في أكثر من منطقة، أبرزها جنين ونابلس شمالي الضفة، وهو مشهد لم تعهده الضفة منذ عام 2006، حيث أنهت السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وبمعاونة الاحتلال مظاهر المقاومة المسلحة، وفكّكت جميع المجموعات التي كبَّدت الاحتلال خسائر كبيرة على مدار سنوات الانتفاضة الثانية.
وبعد دخول حالة الاشتباك اليومي ذروتها في نابلس وجنين، وتنامي مجموعات مسلحة مثل "عرين الأسود"، التي يحاول الاحتلال تصفيتها قبل تناميها، تطرح تساؤلات ملحة عن شكل أو نمط العمل النضالي الذي تمر به الضفة اليوم، وهل يمكن إطلاق مصطلح "الانتفاضة" عليه أم لا، وما سمات ومظاهر الانتفاضة؟
الأراضي المحتلة ما بين الانتفاضتين
في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، اندلعت أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي كانت عارمة في الأراضي المحتلة، واتسمت بالاستمرارية والشمولية على الرغم من بساطة أدوات المواجهة مع الاحتلال.
حيث بدأت "انتفاضة الحجارة" في شكل الاحتجاجات العفوية الشعبية كنتيجة طبيعية لعمليات القمع اليومي الذي كانت تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، قبل أن يتم تنظيم الانتفاضة من قبل القيادة الوطنية الموحدة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية وفصائل مقاومة جديدة على الساحة مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ولأن الأراضي الفلسطينية كانت خاضعة آنذاك لسلطات الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، أحدثت الانتفاضة الأولى نقلة نوعية في الحالة النضالية التي أثرت على الكيان الإسرائيلي بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بالإضرابات والعصيان المدني، إذ امتنع آلاف العمال الفلسطينيين عن الذهاب إلى أعمالهم مما ترك أثراً كبيراً ومباشراً على الاقتصاد الإسرائيلي. بالإضافة إلى بروز حركة قوية لمقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية.
كما رسخت انتفاضة الحجارة بشكل غير مسبوق وحدة الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي الـ48، واستمرت لنحو 6 سنوات، قبل أن يتم توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" في عام 1993، لتدخل الأراضي المحتلة مرحلة جديدة عنوانها السلطة الفلسطينية.
أما "انتفاضة الأقصى" التي اشتهرت أيضاً بالانتفاضة الثانية، فقد بدأت بالحجارة والاشتباكات اليومية على الحواجز مع الاحتلال، قبل أن تتضخم وتتحول لصراع صراع مسلح غير مسبوق، ارتقى فيه أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني وقتل نحو 1000 إسرائيلي.
وامتازت الانتفاضة الثانية بالاستمرارية والتوسع، بعد اتخاذ قيادة السلطة آنذاك قراراً بإعطاء فسحة للمواجهة مع الاحتلال ورعاية تنظيمات مسلحة مثل "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لحركة فتح، التي تتزعم منظمة التحرير.
رياح الانتفاضة تهب على الضفة الغربية مجدداً
مع تصاعُد عمليات المقاومة بالضفة الغربية، التي وصلت إلى مناطق جديدة داخل "إسرائيل" وحتى مناطق الأغوار والقدس وغيرها، بات الحديث عن وجود مؤشرات على اندلاع "انتفاضة جديدة" تعيد للأذهان مشاهد الانتفاضتين الأولى والثانية يُثار مجدداً.
حيث تلقى حالة المقاومة يوماً بعد يوم زخماً شعبياً كبيراً بالضفة الغربية رغم تنكيل الاحتلال وملاحقات السلطة الفلسطينية للشبان المقاومين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 30 عاماً.
ومن مظاهر الزخم الشعبي تلبية آلاف الفلسطينيين لدعوات التظاهر والاشتباكات والإضراب في جميع أنحاء الضفة الغربية، التي تطلقها مجموعات مثل "عرين الأسود" و"كتيبة جنين"، عبر قنواتها على تطبيق "تليغرام"، والتي تحظى بمتابعات من قبل مئات الآلاف.
ومنذ مارس/آذار الماضي، حذرت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من تصاعد قوة المقاومة المسلحة في مناطق مثل جنين ونابلس، خاصة بعد وقوع عمليات فدائية نوعية داخل الكيان الإسرائيلي، فكثّفت قوات الاحتلال مداهماتها واعتقالاتها وحتى عمليات الاغتيال للعديد من المقاومين في نابلس وجنين ومناطق أخرى.
وكان آخر تلك العمليات هو ما وقع فجر يوم الثلاثاء، 25 أكتوبر/تشرين الأول، في البلدة القديمة في نابلس، حيث اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال المنطقة، ودارت اشتباكات عنيفة استمرت لنحو 3 ساعات من مقاتلين من "عرين الأسود"، انتهت باستشهاد 5 فلسطينيين أبرزهم قائد مجموعة العرين وديع الحوح، وإصابة نحو 22 آخرين.
هل يمكن تسمية ما يحدث بالضفة الغربية اليوم "انتفاضة ثالثة"؟
يقول ساري عرابي، وهو باحث ومحلل سياسي فلسطيني، إنه يفضل تسمية ما يحدث من هبّات في الأراضي الفلسطيني المحتلة منذ عام 2015 "حالة كفاحية مفتوحة"، لذلك يقول لـ"عربي بوست": نحن في حالة كفاحية للوضع المقاوم في الضفة الغربية، وفي رأيي الشخصي ما يحدث الآن قد يكون نمطاً معيناً جديداً في الكفاح، لكن هو جزء من سياق نضالي أوسع مستمر منذ 7 سنوات.
ويرى عرابي أن ظاهرة تنامي خلايا المقاومة في نابلس أو جنين والاشتباكات اليومية المسلحة مع جيش الاحتلال هي تتويج أو تطوير لحالة المقاومة المستمرة منذ عام 2015، أي منذ وقت "هبة القدس" التي بدأت منذ أكتوبر/تشرين الأول واستمرت لفترة لا بأس بها، وشهدت العديد من العمليات الفردية أو ما يطلق عليها "عمليات الذئاب المنفردة".
لكن لا شك أنه بعد حرب مايو/أيار 2021، التي وقعت في غزة واشتبكت فيها جميع الأراضي المحتلة مع الاحتلال سواء بالضفة أو الداخل المحتل (عام 48)، أصبح هناك تطور كبير في جنين، ومن ثم نابلس، لاستلهام الحالة الموجودة في قطاع غزة، أو لمساندة المقاومة هناك.
وبحسب عرابي فإن "الحالة الكفاحية التي تحصل في الضفة هي انعكاس لحروب غزة، فهبّة القدس التي وقعت في عام 2015 بالضفة هي من آثار حرب 2014، لذلك أثر حروب غزة كبيرٌ على الضفة الغربية".
لكن في الوقت نفسه، يرى عرابي أن الواقع الأمني والسياسي في الضفة مختلف تماماً عن الضفة، كما لا يمكن مقارنة حالة الضفة إبان الانتفاضة الثانية (2000-2006)، وليس من السهل استنساخ تلك التجربة أو تجارب تاريخية سابقة.
ما سمات الانتفاضتين الأولى والثانية؟
يقول عرابي لـ"عربي بوست" إن الانتفاضة الأولى كانت "سهلة"؛ لأن الاحتلال كان موجوداً في قلب المدن والمخيمات الفلسطينية، لذلك كانت هناك احتمالية عالية للاشتباك اليومي مع الاحتلال في جميع مدن ومحافظات الأراضي المحتلة.
كما أن أدوات الانتفاضة كانت ممكنة، مثل الإضراب والعصيان المدني ورفع الأعلام والكتابة على الجدران، لأنه كان هناك احتلال مباشر يمكن الاشتباك معه، ولا يوجد سلطة تحول بين الناس وبين الاحتلال، وهذه الأدوات فقدت قيمتها مع وجود السلطة الفلسطينية، لذلك فإن استنساخ الانتفاضة الأولى مع وجود السلطة الفلسطينية هو أمر شبه مستحيل.
أما بالنسبة للانتفاضة الثانية، فيرى عرابي أن السلطة حينها اتخذت قراراً سياسياً بالسماح للفلسطينيين بالاشتباك مع الاحتلال، وكنا نشاهد ارتقاء العديد من الشهداء على حواجز الاحتلال يومياً، لذلك تحولت المواجهات على الحواجز إلى انتفاضة مسلحة بالكامل.
وبحسب الباحث الفلسطيني الذي عاصر الانتفاضتين، فإن الانتفاضة الثانية من حيث الانخراط الجماهيري كانت أقل بكثير من الانتفاضة الأولى، بسبب تحولها لانتفاضة مسلحة، وليس لدى جميع الناس القدرة على حمل السلاح.
والعامل المشترك بين الانتفاضة الأولى والثانية هو سعة الفعل واستمراريته بلا انقطاع، وانتشاره في كل المناطق بلا استثناء، ووصوله لشرائح كبيرة من الفلسطينيين.
لكن اليوم، فإن وجود سلطة يحد من إمكانية المواجهة مع الاحتلال أو اتساع رقعة المواجهات. الأمر الآخر هو أن أنماط المواجهة أقل مما كانت عليه في الانتفاضتين، لذلك لا يجب علينا بالضرورة أن "نتورط" بمصطلح الانتفاضة أو ندخل في لعبة المقارنات بحسب عرابي، وقد يكون نمط المواجهة الحالي مناسباً للواقع الأمني والسياسي والاجتماعي الذي تعيشه الضفة، وذلك في حال عدم تجاوز حالة الاشتباك للسلطة وتوسعها العديد من المناطق واستمراريتها.
خاصة أن الانتفاضتين الأولى والثانية رسّختا معنى خاصاً لمصطلح "الانتفاضة"، إلا لو أردنا العودة لفترة الانتداب البريطاني، حيث كان معنى هذا المصطلح مختلفاً، فقد كان يطلق مصطلح "انتفاضة" أو "ثورة" حتى على المظاهرات المناهضة للاحتلال البريطاني.