عندما هبط عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني للمطار كان في استقباله نائبه محمد حمدان، المعروف بحميدتي، بابتسامة على وجهه ذي المظهر الطفولي البريء حيث صافحه بحرارة، كان هذا اللقاء بين حميدتي والبرهان مصمماً بعناية لإظهار الوحدة بين القائدين، وسط حديث عن تنافس ضارٍ بينهما.
حدث هذا المشهد لدى عودة البرهان للسودان قادماً من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام.
كانت لحظةً مصممة لاستعراض الوحدة بين أقوى رجلين في السودان وسط شائعات عن الفتنة.
فبعد مرور عام على انقلاب الرجلين على الحكومة، المدعومة من القوى السياسية التي ترأسها عبد الله حمدوك، فإن التنافس بين حميدتي والبرهان على النفوذ، وتحقيق مكاسب فردية يهدد بمزيد من زعزعة استقرار البلاد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
حميدتي والبرهان.. تحالف ضد الديمقراطية وصراع على السلطة
يبدو مستقبل الحكم في السودان غير مؤكد على نحو متزايد، ولقد ترك فراغاً في السلطة سمح للقوة شبه العسكرية بقيادة دقلو، المعروفة باسم قوات الدعم السريع، بتولي دور متزايد.
بصفتهما القادة الرسميين للجيش السوداني وأكبر قوة شبه عسكرية، كان من المفترض أن يشرف البرهان ودقلو على الانتقال الديمقراطي بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير بعد ثلاثة عقود في السلطة في انتفاضة شعبية عام 2019.
ولكن في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، قبل أسابيع من التنحي المفترض للبرهان عن رئاسة المجلس الانتقالي، قاد انقلاباً عسكرياً، وأطاح بالنصف المدني من مجلس السيادة الحاكم في السودان. دعمه دقلو، وساعدت قواته في اعتقال العشرات من المسؤولين المدنيين والسياسيين.
في أعقاب ذلك، قُمِعَت المسيرات شبه الأسبوعية المؤيدة للديمقراطية بلا رحمة. وتجددت الاشتباكات القبلية القاتلة في الأطراف المهملة من البلاد، والتي قُتِلَ فيها مئات الأشخاص في الأشهر الأخيرة. وأدى الانقلاب إلى إغراق اقتصاد السودان، الذي يعاني بالفعل من التضخم في خطر أعمق. جفت المساعدات الدولية، وأصبح نقص الخبز والوقود، الناجم جزئياً عن الحرب في أوكرانيا، أمراً روتينياً.
حميدتي يسعى لتجميل صورته
ومع تردي الأوضاع وتضاؤل التأييد الشعبي للجيش، تسعى قوات الدعم السريع، المعروفة بحملات الأرض المحروقة في نزاع دارفور، إلى تصوير نفسها على أنها قوات حفظ سلام بديلة، تستطيع أن تكون فعالة، خاصةً في مناطق البلاد الوعرة والنائية مثل دارفور.
يحاول دقلو تصحيح الصورة العامة لقواته، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتقدم المجموعة نفسها الآن كوسيط في النزاعات القبلية، ومُشارك في مشاريع التنمية، رغم أن العديد من السودانيين لا يزالون يخشون المجموعة بسبب أساليبها العنيفة، حيث تورطت في مقتل أكثر من 100 محتج، عندما فضت اعتصاماً في يونيو/حزيران 2019، في العاصمة، عرف باسم مذبحة القيادة العامة للجيش. ومنذ ذلك الحين فشل التحقيق في الوفيات في التوصل إلى أي استنتاجات.
ميليشيات الدعم السريع قد تصبح أكبر حجماً من الجيش
قال اثنان من العاملين الحقوقيين السودانيين، الذين يتبعون القوات شبه العسكرية، إن حجم قوات الدعم السريع تضاعف خلال السنوات الثلاث الماضية إلى ما لا يقل عن 100 ألف مقاتل وهو ما يجعلها قريبة في الحجم من قوات الجيش (البالغ عددها نحو 109 آلاف جندي)، وقد يعني ذلك غالباً أنها قد تفوق القوات البرية السودانية في الحجم.
في عام 2019، كانت التقديرات تشير إلى أن عدد قوات الدعم السريع تبلغ نحو 40 ألفاً.
وأضاف الحقوقيان أن قوات الدعم السريع اشترت أسلحة عالية التقنية، علماً أن المجموعة لا تنشر أرقام الموظفين الرسمية، حسبما نقلت عنهما صحيفة Washington Post الأمريكية.
ومع هذه القدرات المتزايدة، يقول الباحثون الحقوقيون إن القوات شبه العسكرية تمكنت من ترسيخ سيطرتها على الحدود الغربية والشمالية، المليئة بالثغرات في السودان، ما سمح لها بالاستفادة من تهريب الأسلحة والمخدرات والمهاجرين مع تقلص نفوذ الجيش.
تحدث الباحثان الحقوقيان شريطة عدم الكشف عن هويتهما خوفاً من الانتقام. تابع الباحثان القوات شبه العسكرية لسنوات، وحصلوا على روايات مباشرة من داخل صفوفها، تتطابق تقديراتهم لحجم القوة مع تقديرات المحللين الآخرين، حسب الصحيفة الأمريكية.
ولم يرد متحدث باسم قوات الدعم السريع على طلب للتعليق على دور المجموعة في الفترة الانتقالية والخطط المستقبلية.
من أين تأتي مصادر تمويلها؟
وهناك تساؤلات حول مصادر تمويل الجماعات شبه العسكرية، بالإضافة إلى أموال الدولة التي تتلقاها. وقال مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة، وهو مركز أبحاث، في تقرير صدر في يونيو/حزيران، إن المجموعة جمعت ثروة من خلال الاستحواذ التدريجي على المؤسسات المالية السودانية واحتياطيات الذهب، بعضها تحت أسماء أقارب دقلو. نُشِرَت قوات الدعم السريع في اليمن للقتال نيابة عن التحالف الذي تقوده السعودية في الحرب مع المتمردين الحوثيين.
ويقول أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس في الولايات المتحدة، في مقال كتبه لـ"بي بي سي"، إن حميدتي "من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسمياً، أصبح يتحكم بأكبر "ميزانية سياسية" للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مساءلة".
على الجانب الآخر، فإن الجيش السوداني الذي يعتمد على الميزانية الرسمية يواجه في الأغلب ضائقة مالية، في ظل تدهور أوضاع اقتصاد البلاد.
وعود غامضة بتسليم السلطة للمدنيين
برهان ودقلو كلاهما يخرج إلى الساحة الدولية، لقد أجروا بشكل منفصل سلسلة من الاجتماعات الدبلوماسية المستقلة، في القاهرة والكرملين وأبوظبي، لكنهم يؤكدون أنه ليس لديهم مصلحة في الترشح في الانتخابات المستقبلية.
تحت ضغط دولي هائل، أحرزت المحادثات الأخيرة بين الجيش والقوى المؤيدة للديمقراطية بعض التقدم، لكن هذا يمكن قلبه في أي لحظة، حيث يحتفظ برهان ودقلو بأدوار غامضة لكنها مسيطرة.
كانت تعهداتهما المنفصلة لتسهيل الديمقراطية تفتقر إلى التفاصيل، وغالباً ما تتعارض حول القضايا الرئيسية. من بين أوجه عدم اليقين، ما هي الصلاحيات التي سيحتفظ بها هؤلاء القادة العسكريون في ظل الحكم المدني، وما إذا كانت قوات الدعم السريع ستندمج مع الجيش السوداني الذي يقوده البرهان، وهو شرط أساسي لاتفاق سلام عام 2020، يهدف إلى إنهاء عقود من القتال في دارفور.
جذور العلاقة بين حميدتي والبرهان
تكمن بداية الصراع على السلطة في إرث البشير، وكان الجنرالان متورطين بشدة في حملاته العسكرية في دارفور، التي تفيد تقارير غربية بأنها قتلت حوالي 300 ألف شخص خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حسب تقديرات جماعات حقوق الإنسان.
تدرب البرهان، وهو من قدامى المحاربين العسكريين في القوات المسلحة السودانية، كضابط في مصر. قاد دقلو، وهو تاجر جمال سابق في دارفور، ميليشيات الجنجويد سيئة السمعة، وقاد هجمات مدمرة ضد الجماعات المتمردة الإفريقية في دارفور في عام 2003. ويُتَّهَم الجنجويد بالاغتصاب الجماعي وقتل المدنيين من قبل الأمم المتحدة والجماعات الحقوقية. في محاولة لاحتواء القوة المقاتلة واستخدامها بشكل أفضل، جند البشير في النهاية الجنجويد في قوات الدعم السريع في عام 2013، وشرعهم ونصّب دقلو كقائد مستقل.
على عكس البشير، لم تدن المحكمة الجنائية الدولية البرهان أو دقلو بارتكاب جرائم حرب في ذلك الصراع.
العلاقة بين حميدتي والبرهان مركبة، حيث تعود إلى فترة قبل عزل البشير، إذ يقول المنتصر أحمد، وهو ناشط سوداني، لموقع DW العربي، إنها علاقة ترجع إلى فترة تأسيس "الجنجويد" عام 2003، ونمت بعدها علاقة "تحكمها المصالح المشتركة والتاريخ الدموي".
واستطاع الرجلان القادمان من ذوي الخلفيات المختلفة تماماً الإطاحة بطابور طويل من الجنرالات الأعلى رتبة ومقاماً، في مقدمتهم وزير الدفاع السوداني في عهد الرئيس السابق عمر البشير عوض بن عوف، الذي أشرف على عزل البشير، ومن الواضح أن حميدتي والبرهان استغلا علاقتهما الإقليمية وقلق القوى الثورية السودانية، من الضباط الإسلاميين للوصول للسلطة.
وبعد ذلك بدت تصريحات حميدتي دوماً مكملة ومؤيدة لتصريحات البرهان، ولكن هناك حديث عن خلافات مستترة بين الرجلين وصلت إلى قيام الجيش وقوات الدعم السريع، بعمليات تحصين متبادلة لمواقعهما خوفاً من أي مواجهة محتملة.
ويقول مسؤولون أمريكيون إن حميدتي والبرهان كان لهما تحالف ضعيف وخصومة محتدمة في المجلس العسكري.
ويتمتع البرهان بعلاقات وثيقة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حين أن حميدتي يتمتع بعلاقات أوثق مع المسؤولين في الإمارات والسعودية، وجميع الدول ذات المصالح الخاصة في السودان.
على عكس جنرالات الجيش، بمن فيهم البرهان، الذين تكون علاقتهم بجنودهم مهنية بالأساس، فإن حميدتي يحتفظ بولاء قوات الدعم السريع ما دام قادراً على دفع رواتبهم، ومن المعروف أنه يعتقد أنه من أغنى الرجال في السودان بفضل سيطرته على تهريب وتجارة الذهب في السودان، ولاسيما في دارفور.
كما أن الرجل وطَّد علاقته بفصائل وشخصيات من متمردي دارفور، الذين كان يحاربهم يوماً ما، وأصبح يقدم نفسه كممثل للغرب السوداني المهمش.
في مرات عدة، نفت بيانات للجيش والدعم السريع وجود توتر بينهما، ويقول مصدر عسكري في تقرير سابق لـ"الجزيرة.نت" إن المنافسة بين الجيش والدعم السريع ترتبط بصراع نفوذ شخصي بين حميدتي والبرهان، وكل من الرجلين لديه حلفاؤه.
ويقول المصدر إنه من غير المتوقع حدوث نزاع مسلح بين قوات الجيش والدعم السريع، لكن إذا وقع فإن نتائجه ستكون كارثية.
وأوضح أن الجيش لن يستطيع حسم المواجهة مع قوات حميدتي سريعاً في حال نشوب قتال بينهما، لأن حميدتي نسج تحالفات مع الحركات المسلحة، وبدأ يرسل إشارات لإعادة إنتاج الصراع التاريخي بين أولاد البحر "النيل" والغرب، موضحاً أن مسألة القضاء عسكرياً على جهة ما أصبحت من الماضي، لأن الحرب يمكن أن تحدد بدايتها لكن لن تقدر أن تحدد متى تنتهي.
كان تخوف هذا المصدر العسكري من هزيمة الجيش أمام الدعم السريع قد نشر قبل أكثر من عام، ويعتقد أنه خلال تلك الفترة تزايدت قوة الدعم السريع.
وبصفة عامة، يعتقد أن الجيش السوداني أصبح منهكاً بعد سنوات من الحروب الأهلية، كما أنه يعاني من نقص في المعدات العسكرية الحديثة، في ظل ضعف القدرات الاقتصادية للبلاد، وشبه الحصار الذي كانت تعاني منه.
عندما وقعت الثورة السودانية، أصبحت قوات الدعم السريع تمثل رقماً صعباً في المعادلة السياسية والأمنية في السودان، فهي القوة المنتشرة في العاصمة من خلال مئات الشاحنات الصغيرة والجنود المقاتلين ذوي الخبرة بأسلوب معارك العصابات وحروب الشوارع، وبخاصة أنها مازالت مرتبطة في المخيلة الشعبية بالرعب الذي مارسته قوات الجنجويد في إقليم دارفور خلال الحرب.
البرهان يحاول الاستعانة بالإسلاميين الذين شغلوا مناصب في عهد البشير
قد يكون البرهان متخوفاً من أن يكرر معه حميدتي ما فعله مع البشير، الذي رفع حميدتي من تاجر إبل مسلح يقود ميليشيات قبلية شبه خارجة عن القانون إلى جنرال مرموق، حتى يقال إن البشير كان يدلله بـ"حمايتي"، على وزن حميدتي، بمعنى "الذي يحميني"، خاصة بعد دوره في إفشال هجوم متمردي دارفور المفاجئ على أم درمان، وبعد أن تمرد حميدتي على عمه زعيم الجنجويد موسى هلال.
وجعل البشير قوات الدعم السريع مستقلة عن الجيش، أو بالأحرى أصبحت مفضلة عن الجيش، ولكن حميدتي كان من أوائل من انقلبوا على البشير، ثم فعل الأمر ذاته مع وزير دفاعه عوض بن عوف.
في الوقت الحالي قد يكون الصدام المباشر غير وارد، لأنه لا يمكن لأي جنرال حشد الموارد الكافية للحكم بمفرده.
في الأشهر الأخيرة، في محاولة لكبح نفوذ قوات الدعم السريع، عمل البرهان على إعادة أنصاره، الذين كانوا في الغالب من الإسلاميين الذين شغلوا مناصب في عهد البشير، إلى الحكومة.
ولكن في الأغلب فإن هذا قد يُغضب رعاة البرهان الخارجيين في الدول العربية، إضافة إلى أنه قد يؤدي إلى رد فعل معاكس من القوى اليسارية التي تقود التظاهرات، خاصة أن أحد أهدافها الرئيسية إقصاء الإسلاميين من المشهد.
وقد يدفع ذلك القوى اليسارية للتحالف مع حميدتي، والذي قد يسعى بدوره لتقديم نفسه كمخلص جديد للسودان.