على أثر مفاوضات شاقة امتدت لأكثر من سنة، وافق صندوق النقد الدولي مبدئياً على منح تونس قرضاً بقيمة 1.9 مليار دولار في انتظار الموافقة النهائية في شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل.
يأتي هذا القرض في ظرف اقتصادي صعب ومعقّد يغلب عليه ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية الأساسية وأحياناً فقدانها، ليقدّم بارقة أمل لبلد منهك بسبب الصراعات السياسية التي لم تتوقف منذ اندلاع الثورة التونسية في ديسمبر/كانون الأول 2010، واتخذت منحى آخر خطيراً منذ اتخاذ الرئيس قيس سعيّد إجراءات 25 يوليو/تموز التي خوّلت له الاستحواذ على كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
وعلى خلاف ما يبدو عليه الاتفاق من وضع حد للأزمة الاقتصادية أو تقويض أهم ركائزها، إلا أن المؤشرات المالية والاقتصادية السلبية ترجح إيجابيات القرض الذي من غير المتوقّع أن يسدّد كافّة التزامات الدولة التونسية في الداخل والخارج.
سياق اقتصادي اجتماعي مربك
وتقدّر قيمة عجز الميزان التجاري في تونس بـ9.92 مليار دينار (3.25 مليارات دولار) وعجز في ميزانية الدولة لسنة 2022 بقيمة 8.5 مليار دينار (2.59 مليار دولار)، ما يعني أن القرض لوحده لن يكون قادراً على تغطية هذه الاختلالات في توازنات المالية العمومية التونسية، بحسب خبراء اقتصاديين.
ومن المنتظر أن يتم صرف القرض -الذي سيدفع على أقساط على امتداد أربع سنوات- على الاستهلاك وتوفير المواد الغذائية والمحروقات التي تعرف تقطعاً في التزويد في السوق التونسية ولن ينفق على الاستثمار وتنمية البنية التحتية كما هو متوقع.
وأرجعت المختصة في الشأن الاقتصادي، جنات بن عبد الله، فقدان وغلاء المواد الأساسية إلى أن الحكومة التونسية برئاسة نجلاء بودن شرعت في رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية (المحروقات، الزيوت النباتية، الحبوب، السكر..) دون الإعلان عن ذلك، وفضلت الاختفاء وراء فقدان هذه المواد لرفع أسعارها.
وهو ما يتقاطع مع ما ذهب إليه الأمين العام لمنظمة للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، (أكبر مؤسسة نقابية في البلاد)، الذي اتهم الحكومة بالقيام بعملية "تعطيش" للسوق التونسي، حتى يقبل المواطن بشراء السلع التي يحتاجها بأي سعر، مشيراً إلى أن هذا الأمر هدفه تهيئة الشعب نفسياً لرفع الدعم.
وتقول بن عبد الله في تصريح للجزيرة نت: "استناداً إلى المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة تابعة للدولة) فقد ارتفعت أسعار الحبوب في يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضيين بنحو 11%، وذلك يعني أن الحكومة انخرطت في تنفيذ البند المتعلق برفع الدعم عن المواد الأساسية، وهو أهم بند في برنامج إصلاحات النقد الدولي دون الإعلان عن ذلك".
ومن بين البنود الأخرى التي ينص عليها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بيع جزء من الشركات العمومية والقيام بإصلاحات هيكلية للبعض منها، وهو ما شرعت فيه الحكومة التونسية عندما بدأت في سياسة التخفيض من كتلة الأجور للعاملين في القطاع العام والتقليل من الميزانية المخصصة للإنفاق عليها.
من جانبها، أكدت المنظمة الشغيلة على صعوبة تمرير هذه الأجندة، لأن أجور العاملين بالقطاع العام ضعيفة والهشاشة الاجتماعية كبيرة جداً، و80% من الشعب التونسي يحتاج إلى الدعم.
وكان الاتحاد قد أعلن منذ نحو 3 أشهر أنه عازم على بدء خوض إضراب، احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية، وتنديداً بالإجراءات التي اقترحتها الحكومة بهدف الخروج من الأزمة المالية.
مخاطر على طريق التنفيذ
العديد من التحديات تتحكّم في مدى نجاح الحكومة التونسية في الحصول على الموافقة النهائية للقرض من صندوق النقد في ديسمبر/كانون الأول المقبل من بينها استقرار الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد والتي تعتبر شرطاً أساسياً للحصول على التمويل الدولي.
فإلى جانب الاشتراطات التقنية للصندوق المتعلقة برفع الدعم العمومي على المواد الأساسية وخصخصة الشركات العامة، فإن للجانب السياسي غير المعلن أهميته كذلك بالنسبة للمانحين الدوليين. ويرجّح اختيار الصندوق أن يرحّل الاتفاق النهائي لشهر ديسمبر/كانون الأول من العام الحالي بعد الانتخابات النيابية المقبلة لعدّة أسباب أهمها غياب رؤية واضحة حول الوضع السياسي في البلاد والتطورات المستقبلية واحترام أسس الديمقراطية واحترام الحريات خاصة في ظل الأحداث الأخيرة والتضييقات التي يتعرض لها المجتمع المدني.
يُذكر في هذا السياق أن السلطات الأمنية التونسية قامت في الأيام الأخيرة بقمع العديد من المسيرات والاحتجاجات التي نظمتها المعارضة السياسية المطالبة بإلغاء ما سمته بـ"قرارات الانقلاب" التي أعقبت تحولات 25 يوليو/تموز.
وتدعو هيئات المعارضة (جبهة الخلاص الوطني، مواطنون ضد الانقلاب، التحالف الوطني…) الرئيس قيس سعيّد إلى حوار وطني شامل حول عدة محاور تشمل الأزمة السياسية والاقتصادية التي تخنق البلاد وتقود الدولة نحو الانهيار، وتطالب بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة باستقلالية عن السلطة التنفيذية وإلغاء القانون الانتخابي الجديد الذي يعتبرونه تسلطياً وإقصائياً ولا يخدم سوى أنصار الرئيس وأصحاب المال والنفوذ.
وبالموازاة مع تحركات المعارضة السياسية، اندلعت في الآونة الأخيرة احتجاجات اجتماعية في عدد من الأحياء الشعبية المكتظة حول العاصمة تونس (حي التضامن، حي الانطلاقة..) بسبب غلاء المعيشة والارتفاع الجنوني للأسعار (11 % في أسعار الحبوب لوحده) وفقدان المواد الغذائية الأساسية على المائدة التونسية (الزيت النباتي، السكر، الأرز، دقيق القمح…) واحتجاجات جهوية بمحافظة جرجيس (الجنوب الشرقي) بسبب تجاهل الدولة لمأساة غرق مركب مهاجرين سريين من أبناء الجهة، الأمر الذي سيشكل تحدياً صعباً بالنسبة لحكومة رئيسة الوزراء نجلاء بودن ومن خلفها رئيس الجمهورية قيس سعيّد في علاقة بالسيطرة على الاحتجاجات التي تتوسع مناطقياً يوماً بعد يوم.
إلى ذلك، يرى متابعون للشأن العام أن هناك دلالات سياسية لتأجيل توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق الدولي إلى شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الحالي، إذ يسعى الصندوق للتعرف على نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة والتثبت من نجاح المسار الانتخابي الذي خطّط له الرئيس قيس سعيّد وإنجاز الإصلاحات الاقتصادية التي اشترطها الصندوق لتوقيع الاتفاق.
إلا أن "تقدم الحكومة بشكل متسارع في رفع الدعم عن المحروقات سيرفع أسعار السلع والخدمات نحو مستويات قياسية، ما يزيد من فرضية خروج المواطنين للشارع من أجل الاحتجاج، ويشكل خطراً على الاستقرار الاجتماعي الذي يعد شرطاً مهماً لمواصلة الحصول على تمويلات خارجية"، بحسب ما جاء في تصريحات إعلامية لأستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، رضا الشكندالي.
من جانبه، أكد المستشار السياسي لراشد الغنوشي، رياض الشعيبي، في تصريحات إعلامية، أن لدى السلطة التونسية "فرصة أخيرة" لتحقيق توافق سياسي لتجاوز الأزمة الشاملة في البلاد واحتواء "الحراك الاجتماعي"، مشيراً إلى أن "الحكومة ورئيس الدولة لا يذهبان في ذلك الاتجاه ما قد يساهم في انفجار الأوضاع في البلاد"، على حد تعبيره.
وهذا ما يعني تهديد مسار الانتخابات النيابية المقبلة، وبالتالي تهديد حظوظ تونس في الموافقة النهائية على الحصول على قرض صندوق النقد الدولي المقدّر بـ1.9 مليار دولار نهاية هذه السنة.
السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول:
المضي قدماً في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية الأساسية والتفويت في الشركات الاقتصادية العمومية للخواص دون الأخذ بعين الاعتبار تداعياتها الاجتماعية الخطيرة على الفئات الشعبية الضعيفة والمتوسطة في ظل غلاء الأسعار وتدهور مستوى المعيشة.
أيضاً اعتماد السلطة السياسية مقاربة أمنية للسيطرة على الاحتجاجات الشعبية وتحركات المعارضة السياسية المتنامية عبر وسائل القمع والإكراه لضمان مناخ من الاستقرار السياسي ونوع من الهدنة الاجتماعية.
إنجاز الانتخابات البرلمانية في موعدها المحدد نهاية السنة الحالية بالاعتماد على القانون الانتخابي الجديد الذي وضعه الرئيس قيس سعيّد ولقي معارضة من أغلبية مكونات المشهد السياسي التونسي.
النتيجة: التوصّل لعقد الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي والحصول على أول دفعة من القرض في بداية السنة القادمة والمقدرة بـ475 مليون دولار.
وعلى الرغم من تواضع قيمة هذا القسط مقابل ما هو منتظر من القرض فإنه سيكون بمثابة شحنة قوية للاقتصاد التونسي. كما أن الموافقة في حد ذاتها ستمكّن الدولة التونسية من الحصول على قروض وتمويلات أخرى من مانحين دوليين (اليابان، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا..)، وبالتالي تأجيل الأزمة والمخاطر التي كانت ستترتب عليها.
السيناريو الثاني:
تطور الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية للمعارضة وللفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات السلطة السياسية وتشابكها مع بعضها لتتطور إلى ما يشبه الانتفاضة الشعبية ودخول البلاد في مرحلة اضطرابات وفوضى عارمة.
فشل الرئيس قيس سعيّد في إنجاز الانتخابات النيابية في مناخ من الفوضى وعدم الاستقرار وتأجيلها لتاريخ غير معلوم.
رفض المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي التوقيع على الاتفاق النهائي للقرض مع تونس، وبالتالي غياب مصدر مهم لتمويل ميزانية الدولة وعدم التوصل لاتفاقات قروض أخرى من بقية المانحين الدوليين.
النتيجة: انهيار المالية العمومية وعجز الدولة عن الإنفاق الداخلي وسداد ديونها والتزاماتها المالية الخارجية، وهو ما سيؤدي لتدشين مرحلة جديدة من الفوضى السياسية لم تعرفها البلاد سابقاً في تاريخها، وربما تؤدي لتدخلات دبلوماسية خارجية مباشرة تغير المشهد السياسي والحكومي بدرجة كبيرة.