عندما يقدم إيلون ماسك مقترحات لوقف الحرب في أوكرانيا، وتفادي انفجار أزمة تايوان، من الطبيعي أن تثار التساؤلات بشأن دوافع أغنى رجل في العالم، خصوصاً أن خططه المقترحة أسعدت روسيا والصين وأغضبت بلده وحلفاءه؟
كان ماسك، المدير التنفيذي لشركتي تسلا للسيارات الكهربائية وسبيس إكس للفضاء، قد اقترح، الإثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول، خطة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وطلب من متابعيه على تويتر، الذين يزيد عددهم على 107 ملايين شخص، أن يبدوا رأيهم من خلال عرض وجهة نظره على صورة استفتاء.
ورغم تعرض الملياردير الأمريكي لانتقادات عنيفة للغاية من جانب الأوكرانيين وداعميهم الغربيين، بقيادة واشنطن، إلا أنه دخل على خط أزمة أخرى شائكة وهي قضية تايوان، مقترحاً منح الصين السيادة على الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، وهو ما أثار حفيظة الأمريكيين أيضاً.
ماسك.. رجل المال و"الأفكار"
إيلون ماسك، ملياردير أمريكي يبلغ من العمر 51 عاماً يحتل صدارة قائمة أثرياء العالم، ويتخطى صافي ثروته حالياً 217.4 مليار دولار، ويمتلك ويدير بشكل مباشر أكبر شركة لإنتاج السيارات الكهربائية وهي تسلا، كما يمتلك ويدير شركة سبيس إكس للفضاء، والتي تعتبر أكبر الشركات التي سهلت السفر للفضاء وجعله مربحاً للغاية، إضافة إلى إنتاج وتشغيل عشرات الآلاف من الأقمار الصناعية.
كما أن أغنى رجل في العالم في طريقه الآن للاستحواذ على شركة تويتر، وهي منصة التواصل الاجتماعي الضخمة والمفضلة للسياسيين والمشاهير حول العالم، بعد أن تقدم بعرض قيمته 44 مليار دولار، ثم تراجع عن الصفقة ليعود مرة أخرى إليها، في ظل معركة قانونية لإجباره على المُضي قدماً فيها.
ومن الطبيعي أن يثير دخول الملياردير الأمريكي على خط أكبر أزمتين تواجهان العالم وسعيه لوقف الحرب في أوكرانيا، ثم محاولته نزع فتيل أزمة تايوان قبل أن تنفجر وتتحول إلى حرب بين الصين والجزيرة المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها، تساؤلات بشأن دوافعه وماذا يريد؟
ففي نهاية المطاف ورغم كونه أغنى رجل في العالم، إلا أن إيلون ماسك مواطن لا يحمل أي صفة سياسية ولا منصب رسمي يخوّل له، بجانب إدارة شركاته وأعماله الضخمة والمتعددة، أن يستقطع وقتاً للبحث عن حلول لأزمات جيوسياسية معقدة لهذه الدرجة، فكيف يمكن تفسير "أفكار" ماسك الكبرى؟ وماذا قد تكون دوافعه؟
وقد تكون الإجابة البسيطة والمباشرة هنا هي أن ماسك، شأنه شأن أي مواطن آخر، من حقه أن يعبر عن رأيه، وليس بالضرورة أن يكون هناك دافع بعينه. لكن حقيقة الأمر هي أن أغنى رجل في العالم ليس مواطناً عادياً بأي حال من الأحوال، والسبب ليس فقط أمواله، بل تأثيره الهائل.
إذ إن ماسك لديه أكثر من 107 ملايين متابع على تويتر وهو واحد من أكثر الشخصيات تأثيراً في الغرب، وبالتالي فإن رأيه يصب بشكل مباشر في تشكيل الرأي العام. فعندما يعبر الملياردير الأمريكي عن رأيه بشأن قضية ما، سواء كانت سياسية أو حتى صحية، يكون لذلك الرأي تأثير مباشر وسريع على تلك القضية.
وعلى سبيل المثال، كان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد اقترح الهيدروكلوروكين كعلاج ضد فيروس كورونا، وذلك في بدايات الجائحة عام 2020، ليتضح لاحقاً أن ذلك الاقتراح الكارثي كان مصدره ماسك، والذي كان قد التقى ترامب في نفس اليوم الذي أعلن فيه ترامب اقتراحه الكارثي، علماً بأن الرجلين (ترامب وماسك) كانا من أكثر المشككين في الجائحة، التي أودت بحياة أكثر من 6 ملايين و574 ألف شخص حول العالم، منهم أكثر من مليون و91 ألف أمريكي.
ماذا اقترح ماسك بشأن أوكرانيا وتايوان؟
مقترح ماسك الخاص بحل أزمة أوكرانيا تكون من عدة نقاط؛ منها الاعتراف رسمياً بشبه جزيرة القرم، التي استولت عليها موسكو في عام 2014، على أنها روسية، وضمان إمدادات المياه للقرم، وأن تظل أوكرانيا محايدة. كما اقترح ماسك إجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة في لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا، المدن الأربع التي أجرت فيها موسكو الاستفتاءات وأعلن بوتين ضمها رسمياً، الجمعة 30 سبتمبر/أيلول الماضي.
وكتب ماسك في تغريداته قائلاً: "سترحل روسيا إذا كانت هذه هي إرادة الشعب"، طالباً من مستخدمي تويتر التصويت بنعم أو لا على الخطة. وخلال أقل من 24 ساعة، هي المدى الزمني لاستفتاء ماسك، شارك أكثر من مليونين و157 ألف شخص برأيهم، وافق أكثر من 58% منهم على خطة ماسك، بينما رفضها نحو 41%.
وأضاف ماسك نقطة أخرى لمقترحه في تغريدة بقوله: "لنجرب هذا بعد ذلك: يجب أن يقرر الأشخاص الذين يعيشون في دونباس وشبه جزيرة القرم بإرادتهم ما إذا كانتا جزءاً من روسيا أم أوكرانيا"، قائلاً إنه لا يهتم إذا كان اقتراحه لا يحظى بشعبية، وأنه يهتم "بموت ملايين الأشخاص دون داعٍ من أجل نتيجة مماثلة بشكل أساسي".
وختم ماسك تغريداته بالقول إن "روسيا لديها أكثر من 3 أضعاف سكان أوكرانيا، لذا فإن النصر لأوكرانيا غير مرجح في حرب شاملة. إذا كنت تهتم بشعب أوكرانيا، فاطلب السلام".
وبعد أيام قليلة من تلك الفكرة بشأن كيفية إنهاء الحرب في أوكرانيا، عرض الملياردير الأمريكي فكرة أخرى بشأن إمكانية نزع فتيل الأزمة بين الصين وتايوان مقترحاً "تسليم بكين بعض السيطرة على تايوان".
لم يغرد ماسك هذه المرة، وإنما جاء اقتراحه بشأن تايوان خلال مقابلة له مع صحيفة Financial Times البريطانية، قال فيها: "اقتراحي يتعلق بتحديد منطقة إدارية خاصة لتايوان، وهذا أمر مستساغ بشكل معقول، وربما لن ينال رضا الجميع".
ونقلت الصحيفة عن أغنى رجل في العالم قوله: "من الممكن، وأعتقد أنه من المحتمل في واقع الأمر، أن يكون لديهم ترتيب أكثر تساهلاً من (المطبق في) هونغ كونغ"، مضيفاً أنه يعتقد أن اندلاع صراع بشأن تايوان أمر حتمي، محذراً من تأثيره المحتمل ليس فقط على "تسلا"، لكن أيضاً على شركة "أبل" وعلى الاقتصاد على نحو أوسع نطاقا؛ً إذ تمتلك تسلا واحداً من أكبر مصانعها في مدينة شنغهاي الصينية، كما يتم تجميع أغلب إنتاج شركة أبل في الصين أيضاً.
هل يتبنى ماسك أجندة بوتين وشي فعلاً؟
بطبيعة الحال، تعرض ماسك لانتقادات عنيفة من الغرب، واتهمه كثيرون بأنه "صديق للديكتاتوريين"، في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ.
إيان بريمر، رئيس شركة "أوراسيا غروب" لاستشارات المخاطر السياسية، زعم أن ماسك أخبره شخصياً بإجراء اتصال هاتفي مع بوتين، قبل أن ينشر أغنى رجل في العالم مقترحه بشأن السلام في أوكرانيا.
وفي رسالة إخبارية، كتب بريمر أن ماسك أخبره أن الرئيس الروسي "مستعد للتفاوض"، ولكن فقط إذا بقيت شبه جزيرة القرم تحت السيطرة الروسية، وإذا قبلت أوكرانيا شكلاً من أشكال الحياد الدائم، وإذا اعترفت كييف بانضمام لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا إلى روسيا.
وقال بريمر إن رئيس شركة "سبيس إكس" أخبره أن بوتين قال إن هذه الأهداف ستتحقق "بغض النظر عن أي شيء" وأن هناك إمكانية لضربة نووية إذا غزت أوكرانيا شبه جزيرة القرم.
لكن ماسك نفى ذلك في تغريدة قال فيها: "لقد تحدثت إلى بوتين مرة واحدة فقط وكان ذلك قبل حوالي 18 شهراً. وكان موضوع المحادثة هو الفضاء".
أما المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، فقد رحب باقتراحات ماسك، قائلاً: "من الإيجابي جداً أن شخصاً مثل إيلون ماسك يبحث عن طريقة سلمية للخروج من هذا الوضع".
كما رحبت الصين أيضا باقتراح ماسك الخاص بتايوان؛ إذ أثنى سفير الصين لدى الولايات المتحدة على ماسك، بينما انتقد السفير التايواني أغنى رجل في العالم، قائلاً إن الحرية "ليست للبيع".
ونشرت شبكة CNN الأمريكية مقالاً بعنوان "هل يتحكم أستاذ في عقل ماسك؟"، يتهم الملياردير بالمراهقة السياسية وبتبني وجهات نظر بوتين وشي في أزمتي أوكرانيا وتايوان، مشككاً في الدوافع أو المبادئ الأخلاقية والمالية خلف تدخله في الشؤون الدولية الكبرى.
لكن من المهم هنا رصد ملامح شخصية ماسك، والتي تكشف ملابسات صفقة شراء تويتر جانباً منها، فبعد أن ضغط لأكثر من أسبوعين على إدارة الشركة كي توافق على البيع وقدم عرضاً تزيد قيمته المالية عن أكثر من ضعف القيمة السوقية لتويتر وقتها فوافقت إدارة الشركة، عاد أغنى رجل في العالم بعد وقت قصير وتراجع عن الصفقة، متذرعاً بالحسابات الوهمية.
ماذا يريد ماسك؟
وعلى مدى أشهر تمسّك ماسك بالتراجع عن الصفقة، فيما وصف بأنه حيلة إما لتخفيض قيمتها أو التراجع دون دفع الشرط الجزائي (قيمته مليار دولار)، فلجأت الشركة إلى القضاء لإجباره على إتمام الصفقة بشروطها الأصلية. وبعد أن قام مدير سابق في تويتر بتسريبات تتهم الشركة بعدم الاهتمام بأمن المستخدمين، بدا أن ماسك قد وجد ضالته وأن موقفه أصبح قوياً بما يكفي لكي يخرج من الصفقة بأقل الأضرار، كما يريد. لكن فجأة أعلن ماسك استعداده لإكمال الصفقة مقابل 44 مليار دولار وطلب من شركة تويتر وقف الدعوى القضائية لإكمال عملية نقل الملكية.
وفي سبتمبر/أيلول، طلب ماسك من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تمويل برنامج ستارلينك، الذي يوفر الإنترنت لكييف، بدلاً منه، وفقاً لوسائل إعلام أمريكية. ثم كتب على تويتر، بعد أيام من الضجة التي أثارتها فكرته بشأن إنهاء الحرب: "لا تطلب سبيس إكس استرداد النفقات السابقة، لكنها لا تستطيع أيضاً تمويل النظام الحالي إلى أجل غير مسمى". وقوبلت هذه الخطوة بانتقادات شديدة.
لكن بعد يوم واحد فقط من تلك التغريدة، قال ماسك إن شركته ستواصل تمويل خدمة الإنترنت "ستارلينك" في أوكرانيا: "على الرغم من أن ستارلينك لا تزال تخسر أموالاً، وأن الشركات الأخرى تحصل على مليارات الدولارات من دافعي الضرائب، إلا أننا سنواصل تمويل الحكومة الأوكرانية مجاناً".
ويكلف برنامج ستارلينك 20 مليون دولار شهرياً، وفقاً لماسك، وقال مؤخراً إن شركة سبيس إكس أنفقت 80 مليون دولار حتى الآن لإبقاء أوكرانيا متصلة بالإنترنت.
وكتب على تويتر: "يتعين علينا إنشاء وإطلاق وصيانة وتجديد الأقمار الصناعية والمحطات الأرضية. كان علينا أيضاً التصدي للهجمات الإلكترونية والتشويش، وهو ما يزداد صعوبة".
نائب رئيس الوزراء الأوكراني، ميخايلو فيدوروف، قلّل من التوترات مع ماسك، وكتب على تويتر أن الملياردير "من بين أكبر المانحين الخاصين في العالم الذين يدعمون أوكرانيا"، في مؤشر واضح على أن الاتهامات الموجهة لأغنى رجل في العالم بأنه داعم لروسيا أو صديق لبوتين لا يوجد ما يؤكدها.
الخلاصة هنا هي أن ماسك، كرجل أعمال له مصالح في إنهاء الحرب في أوكرانيا وعدم انفجار برميل البارود التايواني، ربما لا يكون "دُمية" يتلاعب بها بوتين وشي، كما يصور البعض في الدوائر الغربية، والقصة لا تتعدى كونه يستغل تأثيره عبر تويتر للتعبير عن أفكار تصبّ في صالحه بطبيعة الحال، إضافة إلى سمات شخصيته المتقلبة والعاشقة للشهرة.