حدث مفصلي تشهده الهند في الوقت الحالي قد يغير تاريخها، فقد تؤدي انتخابات حزب المؤتمر الوطني الهندي، التي تجري حالياً، لأول خطوة لإنهاء حكم رئيس الوزراء المتطرف ناريندا مودي، وفي المقابل قد تؤدي هذه الانتخابات لبقاء مودي في الحكم بطريقة تهدد استمرار الديمقراطية الهندية.
وستعقد الهند أكثر الانتخابات أهميةً في تاريخها بعد عامين من الآن، والتي ستمثل الفرصة الأخيرة لمنع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي من تحويل أكبر ديمقراطية في العالم إلى دولة عنصرية هندوسية غير ليبرالية، حسب وصف تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن التصويت الذي يمكنه أن يحدد نتيجة تلك الانتخابات بدأ بالفعل، عبر انتخابات حزب المؤتمر الوطني الهندي، التي انطلقت في 17 أكتوبر/تشرين الأول ولم تظهر نتيجتها بعد.
وسيتم اختيار زعيم جديد لحزب المؤتمر الوطني الهندي في هذه الانتخابات الداخلية، التي تُعقد للمرة الأولى منذ عام 2000.
انتخابات حزب المؤتمر الوطني الهندي جاءت بعد كوارث سياسية
يمثل تغيير الزعامة في حزب المؤتمر الهندي الذي قاد السياسة في البلاد لأكثر من مئة عام، مقدمة ضرورية لقدرة الحزب على منافسة حزب مودي المتطرف بهاراتيا جاناتا، بعد أن أصبح ينظر لحزب المؤتمر على أنه حزب التوريث؛ نظراً لأنه خاضع لسلالة رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهروا، وابنته أنديرا غاندي (اسمها ليس له علاقة بالزعيم الهندي مهاتما غاندي، بل باسم زوجها)
يتنافس نائبان من حزب المؤتمر في الانتخابات: النائب المخضرم ماليكارجون خارغي (80 عاماً)، والدبلوماسي الذي أصبح سياسياً شاشي ثارور (66 عاماً). للمرة الأولى منذ 25 سنة، يتجه حزب المؤتمر إلى اختيار رئيس من خارج عائلة غاندي.
كان راهول رئيس حزب المؤتمر بين العامين 2017 و2019، ثم استقال من منصبه لأنه وافق على تحمّل مسؤولية أخلاقية على أداء حزبه المريع في الانتخابات العامة للعام 2019. أصبحت والدته، سونيا غاندي، رئيسة الحزب المؤقتة ولا تزال تشغل هذا المنصب حتى الآن، علماً أنها كانت صاحبة أطول عهد كرئيسة للحزب (بين العامين 1998 و2019).
ويُعتبر حزب المؤتمر الوطني الذي يعد من أعرق أحزاب العالم (نشأ عام 1885) بمثابة الكيان الوحيد الذي يمكنه مضاهاة انتشار حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم ونفوذه التنظيمي، حيث يمثل البديل العلماني لحزب مودي الذي يروج للتفوق الهندوسي وينفذ حملة اضطهاد منظمة ضد المسلمين.
لكن أكبر أحزاب الهند سابقاً أصبح منهكاً بسبب عجزه الديمقراطي الشخصي، حسب المجلة الأمريكية.
نصف قرن من سيطرة عائلة نهرو
كان المؤتمر الوطني الهندي هو الحزب الذي تفاوض على تحرير الهند من الحكم البريطاني في الماضي، وألهم أجيالاً من القادة المناهضين للاستعمار في آسيا وإفريقيا، واحتضن مؤسسات الهند الديمقراطية، لكنه تحول إلى ديكتاتورية توريث بقيادة عائلة غاندي لأكثر من خمسة عقود.
ولطالما تعرّض هذا الحزب الهندي العريق للانتقادات باعتباره معقلاً لعائلة نهرو-غاندي. قاد ستة أفراد من هذه العائلة حزب المؤتمر (موتيلال نهرو، جواهر لال نهرو، أنديرا غاندي، راجيف غاندي، سونيا غاندي، راهول غاندي). وعلى مر وجود الحزب منذ 137 سنة، ترأس أفراد من عائلة نهرو-غاندي الحزب لأكثر من 50 عاماً.
منذ ما قبل استقلال الهند قاد جواهر لال نهروا حزب المؤتمر لفترات متقطعة (ولكن الشخصية الأقوى فيه كانت مهاتما غاندي)، وأصبح نهرو أول رئيس للوزراء للهند بعد الاستقلال، والشخصية المهيمنة في الحزب، ثم بعد وفاته ورثت ابنته أنديرا غاندي دوره (حيث كانت الشخصية الأقوى في الحزب، ورئيسته لعدة فترات) كما أصبحت رئيسة للوزراء، وبعد اغتيالها عام 1984 على يد أحد متطرفي السيخ، ورث ابنها راجيف غاندي زعامتها السياسية وأصبح أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد إلى أن اغتيل عام 1991 على يد متطرف انفصالي من ولاية التاميل بجنوب الهند.
بعد ذلك قاد الحزب أفراد من خارج العائلة، لكن سونيا غاندي أرملة راجيف غاندي، ونجلها راهول غاندي كانا على رأس شؤون الحزب منذ عام 1998.
مودي يصف المؤتمر الهندي بحزب التوريث الذي لا أمل في إصلاحه
قررت سونيا غاندي (زوجة راجيف غاندي وهي إيطالية الأصل) وابنها، راهول غاندي، إحضار وجه جديد بعد تعرضهما لهزائم ساحقة في الانتخابات الوطنية وانتخابات الولايات منذ وصول الحزب القومي الهندوسي الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة في عام 2014.
وبينما يُفترض بالحزب أن يركز طاقته في الوقت الراهن على اختيار أفضل المرشحين لقيادة المنافسة ضد مودي في انتخابات 2024، سنجد أن السباق على قيادة الحزب قد توارى خلف مسيرة الوحدة المزعومة التي قادها السياسي راهول غاندي لمدة 150 يوماً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy.
ولا شك أن المسيرة التي نُظِّمَت كحدثٍ تاريخي تُعتبر في غالبها وسيلةً لإنقاذ سمعة راهول، سليل عائلة غاندي من الجيل الخامس، الذي قاد حملات المؤتمر الوطني في الانتخابات البرلمانية عام 2014 وظل رئيساً للحزب حتى عام 2019. وكان الحدثان بمثابة انتصارات كاسحة لحزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، إذ خسر راهول مقعد العائلة في معقلها بولاية أتر برديش عام 2019، ثم تلمّس طريقه إلى البرلمان عبر جنوب الهند على حساب اليسار.
ولم يفعل راهول شيئاً لاسترداد توازنه بعد أن ألحق كارثةً انتخابية بحزبه عام 2019، حيث انشغل راهول بالسفر في 247 رحلة خارج البلاد بين عامي 2015 و2019، بمعدل نحو خمس رحلات شهرياً، إبان تكثيف مودي لحملته من أجل إحداث تحولٍ اجتماعي في الهند، وكان راهول غائباً أثناء جميع المناسبات التي خلقت فيها تصرفات مودي فرصةً أمام المعارضين للرد بقوة.
ولا يزال راهول القائد الفعلي للمؤتمر الوطني الهندي رغم استقالته من رئاسة الحزب عام 2019، بينما تمارس والدته سونيا غاندي سلطات رئيسة تصريف الأعمال. ولم تشهد قيادة الحزب أي ترقيةٍ بارزة منذ عام 2019، باستثناء ترقية بريانكا غاندي فادرا، شقيقة راهول التي ليس لديها أي خبرة سياسية سابقة. وسمح هذا الوضع لمودي، السياسي العصامي الذي نشأ في الطبقة الدنيا، أن يُصوّر نفسه على أنه العدو الأصلح لثقافة التوريث التي تجسدها عائلة غاندي. كما وصف مودي حزب المؤتمر الوطني الهندي بأنه حزب محسوبية لا يمكن إصلاحه، وندد بحكم السلالات الذي ميز الحزب، وسعى إلى تشويه سمعة القومية العلمانية التي يتبناها الحزب.
عائلة غاندي تطرد منتقديها، بينما الحزب يحكم ولايتين فقط
لكن هذه التصرفات لم تدفع بالمؤتمر الوطني إلى التخلي عن عائلة غاندي، بل بدأوا في مواجهة أية انتقادات للعائلة داخل الحزب بأساليب ضيقة الأفق، وعندما طالبت مجموعة من قادة الحزب البارزين بالإصلاح الداخلي عام 2020، تعرض أفراد المجموعة لتشويه السمعة، وطُلِبَ منهم مغادرة الحزب وجرى إبعادهم عن المناصب.
وبعد أن كان المؤتمر الوطني حزباً لا يقهر في جميع أرجاء الهند ذات يوم، أصبحوا لا يحكمون اليوم سوى ولايتين فقط من أصل 28 ولاية هندية. وغادر العديد من قادة الحزب الشباب الواعدين وأصحاب الخبرة نتيجة إحباطهم لغياب التوجيه تحت قيادة عائلة غاندي، لكن مشكلات الحزب أجبرت العائلة أن توافق على إجراء تصويت تنافسي خلال الشهر الجاري، بينما قرر راهول عدم المشاركة، ويهدف راهول بقراره هذا إلى تحقيق ثلاث غايات: التغطية على وصمة العائلة الحاكمة للحزب، وإظهار نفسه في صورة الوطني الذي يضحي بنفسه ولا تهمه المناصب، وتثبيت مكانته داخل الحزب بصفته صاحب السلطة العليا الذي لا يحتاج لمنصب رسمي من أجل ممارسة سلطاته.
اتهامات لعائلة غاندي بمحاولة إيصال مرشح تابع لها لقيادة الحزب
وقررت عائلة غاندي ترشيح بديل للمنافسة في انتخابات قيادة الحزب، وذلك لتفادي أي تحديات غير متوقعة لسلطتهم. ووقع اختيار العائلة على ماليكارجون خارجي، الشخصية البارزة من جنوب الهند، الذي استطاع التغلب على الأحكام المسبقة التي واجهها، لكونه من الداليت (المنبوذين) ونجح في الارتقاء بنفسه.
لكن المقلق هو أن خارجي، الذي يبلغ من العمر 80 عاماً، يُعتبر مساعداً مطيعاً لعائلة غاندي، حيث إن وسائل الإعلام الهندية تصفه بالمرشح الرسمي، فضلاً عن خسارته لمقعده البرلماني في الانتخابات الأخيرة.
منافسه سبق له الترشح لقيادة الأمم المتحدة ومنتقد حاد لمودي
أما منافسه الوحيد فهو شاشي ثارور، الذي ينحدر من طبقة دنيا مهيمنة في جنوب الهند، ويُمكن اعتبار ثارور بمثابة الشخصية الوحيدة التي تتمتع بما يكفي من البراعة الخطابية، والكاريزما، والشعبية الوطنية لمنافسة مودي. إذ أشرف على بيروقراطية معقدة عندما كان دبلوماسياً رفيع المستوى في الأمم المتحدة، كما خسر انتخابات الأمين العام للأمم المتحدة عام 2006 بفارقٍ بسيط عن بان كي مون. ويُعتبر ثارور من أشد المنتقدين للقومية الهندوسية، فضلاً عن فوزه بثلاث فترات انتخابية متتالية في البرلمان، رغم ترشحه في ولاية كيرلا التي تُعتبر معقلاً للشيوعيين.
ويستطيع ثارور أن يكون المرشح الرئيسي لأي حزب وسطي في العالم تقريباً، حسب تعبير Foreign Policy، لكنه يواجه الإساءات داخل المؤتمر الوطني لأنه يهدد نفوذ راهول.
ويبدو أن الحزب الذي تُعجبه طاعة خارجي ينظر إلى ثارور باعتباره مارقاً، لأنه يعترض على قيادة عائلة غاندي، ويدعو لإصلاحات تضفي الديمقراطية على الحزب. وربما يُعتبر ثارور بمثابة نقطة انفصال مثالية للحزب عن ماضيه، لكن المؤتمر الوطني يبدو عازماً على الإطاحة به. ويُذكر أن خارجي اعترف بأنه نصح ثارور بالانسحاب من الانتخابات بدلاً من إهدار وقته.
لماذا تبدو فرصه مستحيلة؟
ولم يرتدع ثارور رغم ذلك، بل نشر خطةً تفصيلية لإعادة إحياء المؤتمر الوطني الهندي، لكن فرصه أمام خارجي تبدو شبه مستحيلة، حيث غضت قيادات الحزب الطرف عن استغلال مسؤولي الحزب لسلطاتهم من أجل تعبئة الدعم لخارجي، في انتهاكٍ واضح لقواعد الانتخابات. كما مُنِعَ ثارور من الوصول إلى قائمة كاملة ببيانات تسعة آلاف ناخب ومعلومات الاتصال بهم، بينما من المتوقع صدور النتيجة، في 19 أكتوبر/تشرين الأول.
واشتكى ثارور إلى السلطة الانتخابية للحزب من أنه حُرم من المساواة، حيث أصدر بعض كبار قادة الحزب مناشدات لمندوبي الحزب، لحثهم على التصويت لصالح خارجي، حسب موقع Voa News الأمريكي.
كما اشتكى وكلاء لثارور في الانتخابات بعد انطلاقها من مزاعم حدوث مخالفات خطيرة.
هل يستطيع المؤتمر هزيمة مودي؟
وتُعتبر "الهند الجديدة" التي يدعو إليها مودي بمثابة موقع لزوال الديمقراطية، لكن المفارقة تكمن في أنها قد تخلق الأوضاع المواتية لاسترداد الديمقراطية مدنياً أيضاً.
فرغم نجاحات مودي الاقتصادية وجهوده للتحريض ضد المسلمين وهيمنته على المشهد السياسي في البلاد، فإن السنوات الثلاث الماضية تميزت بانتفاضات المواطنين ضد سياسات مودي الطائفية، بدايةً بالاحتجاجات الهائلة على مستوى البلاد ضد تشريع عام 2019 الذي سعى لإجراء اختبارات دينية من أجل الجنسية (ولم يُطبق بعد)، ووصولاً إلى الاحتجاجات المستمرة ضد القوانين الزراعية المثيرة للجدل (التي أُلغيت العام الماضي).
وكتب المؤرخ موكول كيسافان في صحيفة The Telegraph الهندية مؤخراً: "يستطيع ثارور التفوق على خارجي بسهولة في أي تجمع انتخابي بلا تزوير في عموم الهند". ولا شك أن انتصار ثارور يمكن أن يُحسن فرص الحزب المتراجعة عن طريق التبشير بنهاية فترة انحسار المؤتمر الوطني مؤخراً. وربما ينجح ثارور في توحيد المعارضة المتفرقة التي سئمت نفوذ عائلة غاندي. وحتى إذا عجز ذلك الائتلاف عن هزيمة حزب بهاراتيا جاناتا، لكنه يستطيع حرمان الحزب من الفوز بأغلبيةٍ كاملة في البرلمان، ما سيجبره على تشكيل حكومة ائتلافية. وليس مودي معتاداً على تقاسم السلطة، وربما يثير مثل هذا التريب أسوأ مخاوفه، أو يُجهِز عليه بالكامل، لكن هذا المستقبل يتوقف على إصلاح حزب المؤتمر الوطني الهندي، وهو الإصلاح الذي يهدد عائلة غاندي، ولهذا جرى بذل جهود منسقة لإحباط مشروع ثارور.
استمرار سيطرة مودي على المشهد السياسي بالهند اليوم ليس لأنه زعيم قوي، بل بسبب غياب المعارضة الفعالة القادرة على تحويل غضب المواطنين العاديين إلى مكاسب انتخابية. بينما تمثل انتخابات حزب المؤتمر الوطني الهندي أول فرصة حقيقية منذ ثماني سنوات لإنهاء هجمات مودي على الديمقراطية الهندية، لكن أقدم حزب سياسي في البلاد يبدو عازماً على إهدار هذه الفرصة، حسب Foreign Policy، وربما يكون تخليص المؤتمر الوطني الهندي من عائلة غاندي أصعب من مهمة إنقاذ الهند من براثن مودي.