يُجري حلف الناتو مناورات نووية فوق شمال وغرب أوروبا، تزامناً مع تدريبات نووية أيضاً تجريها روسيا، ورغم كونها دورية فإن تطورات الحرب في أوكرانيا تثير تساؤلات مقلقة بطبيعة الحال.
ويعيش العالم الآن على أطراف أصابعه حرفياً، في ظل وصول الحرب، التي اندلعت 24 فبراير/شباط الماضي، إلى مرحلة تهدد بتخطيها حدود أوكرانيا وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة، أو كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنها "حرب نهاية العالم"، رغم محاولته التخفيف من الفزع بقوله لاحقاً إن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاقل".
لكن الرئيس الأمريكي لم يوضح كيف يمكن تفادي هذا الخيار النووي المدمّر، في ظل استمرار إرسال الدعم العسكري إلى أوكرانيا، التي تحقق انتصارات ميدانية مهمة منذ مطلع سبتمبر/أيلول، بفضل ذلك الدعم الغربي، وفي الوقت نفسه إقرار بايدن وباقي الزعماء الغربيين بأن بوتين لن يقبل الهزيمة بأي صورة من الصور.
الناتو يُجري مناورات نووية في أوروبا
في ظل هذه الأجواء المشحونة، أعلن حلف شمال الأطلسي "الناتو" بدء مناورات نووية الاثنين 17 أكتوبر/تشرين الأول في شمال وغرب القارة الأوروبية، وستستمر تلك التدريبات العسكرية حتى الثلاثين من الشهر الجاري.
وبحسب الموقع الإلكتروني للحلف العسكري الغربي، فإن القوات الجوية للناتو بدأت الإثنين مناورات الردع النووي بمشاركة 14 دولة، من أعضاء الحلف وعددهم 30 بلداً، ونحو 60 طائرة من مختلف الطرازات، بما فيها مقاتلات من الجيل الرابع والخامس.
وذكر الموقع أن المناورات، التي يطبق عليها "ستدفاست نوون"، عبارة عن تدريبات تشارك فيها عشرات الطائرات فوق شمال وغرب أوروبا، وتشمل طائرات استطلاع وقاذفات أمريكية طويلة المدى من طراز B52 وطائرات تزويد بالوقود.
وستجري التدريبات فوق سماء بلجيكا التي تستضيف المناورات، وفوق بحر الشمال والمملكة المتحدة، بحسب المصدر ذاته، الذي أكد أنه لن يتم استخدام أسلحة حية خلال المناورات.
وكانت المتحدثة باسم الناتو، أوانا لونجسكيو، قالت، الجمعة، إن مناورات "ستدفاست نون، التي يستضيفها كل عام حليف من الناتو، "تساعد في ضمان سلامة وفاعلية وأمن الردع النووي للحلف"، بحسب وكالة الأناضول.
وبحسب المسؤولين في البنتاغون، يتم إجراء تلك المناورات بشكل سنوي منذ أكثر من 10 سنوات، واتخذ القرار بألا يحدث أي تغيير هذا العام. وتطير قاذفات بي-52 الأمريكية من قاعدة مينوت الجوية في نورث داكوتا، وسيكون مسرح العمليات بعيداً عن الأراضي الروسية بأكثر من 625 ميلاً.
وبحسب ما قاله مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون لشبكة CNN الأمريكية، فإن الهدف من تلك المناورات هو ضمان استمرار الردع النووي للحلف "ذا مصداقية وفعال وآمن ومؤمَّن".
مناورات "الرعد" النووي الروسية
على الجانب الآخر، أعلنت روسيا أنها ستجري تدريباتها النووية السنوية، التي عادة ما تجريها أواخر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، في موعدها. وتطلق موسكو على تلك المناورات النووية لقب "الرعد".
وفي حين تتركز المناورات النووية لحلف الناتو على القاذفات الجوية، أي الطائرات القادرة على حمل رؤوس نووية وكيفية الوصول إلى أهدافها لإسقاط تلك الرؤوس، فإن التدريبات الروسية عادة ما تكون أكثر شمولاً، إذ يشارك فيها قاذفات روسيا وغواصاتها وصواريخها ذات القدرة النووية.
جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، كان قد قال إن الولايات المتحدة "تتوقع استمرار التدريبات الروسية عدة أيام. سوف تشمل تلك المناورات تدريبات لا تختلف كثيراً عما اعتادت روسيا القيام به خلال السنوات الماضية. سوف يطلقون صواريخ تحمل ذخيرة حية وينشرون أصولهم النووية الاستراتيجية".
لم تُصدر موسكو تصريحات بشأن تفاصيل مناوراتها النووية هذا العام، سواء من حيث التوقيت بدقة أو من حيث الأسلحة المتوقع أن تشارك فيها، لكن الرئيس فلاديمير بوتين، منذ الأيام الأولى لبداية الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، كان قد أمر بوضع الأسلحة النووية لبلاده في حالة "تأهب قصوى".
كان الرئيس الروسي قد أصدر أوامره تلك يوم 27 فبراير/شباط الماضي خلال اجتماع مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، حيث وجَّه الرئيس الروسي أوامره لهما بوضع قوات الردع النووي في "حالة تأهب قتالية خاصة".
وبرَّر بوتين تلك الخطوة بأنها رد على مسؤولي الغرب الذين "لم يكتفوا باتخاذ خطوات عدائية اقتصادية وحسب، بل أدلى مسؤولهم بحلف الناتو بتصريحات عدوانية ضد روسيا". ولاحقاً قالت مصادر في الخارجية الروسية إن تصريحات ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا الحالية وكانت تشغل وقتها منصب وزير الخارجية، بشأن دعوة البريطانيين للتطوع للقتال في أوكرانيا وإشارة الوزيرة إلى أن حلف الناتو يمتلك أسلحة نووية كانت السبب المباشر لقرار بوتين.
وفي اليوم التالي لإصدار بوتين قراره، قالت وزارة الدفاع الروسية إن وحدات الصواريخ الاستراتيجية وأسطولها الشمالي وأسطول المحيط الهادي وُضعت في مهام قتالية متقدمة بناء على أوامر الرئيس.
ماذا يعني "السجال النووي" في هذا التوقيت؟
على الرغم من كون المناورات النووية، سواء من جانب روسيا أو الناتو، دورية ويتم إجراؤها كل عام، إلا أن إقامتها في هذا التوقيت الحساس للغاية يثير القلق بطبيعة الحال. ولا يخفف من هذا القلق ما جاء في بيان الناتو بشأن كون تلك المناورات "لا علاقة بالأحداث العالمية حالياً".
واللافت هنا هو تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنفسهم بشأن إقدام روسيا على إجراء مناوراتها النووية هذا العام؛ إذ قال مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون لشبكة CNN إن قرار روسيا إجراء مناوراتها النووية بينما تدور رحى الحرب في أوكرانيا هو قرار "غير مسؤول".
"إننا نعتقد أن التهديدات النووية الروسية وقرار موسكو إجراء تلك المناورات بينما الحرب في أوكرانيا مشتعلة هو قرار غير مسؤول"، بحسب المسؤول الذي لم تسمه الشبكة الأمريكية، مضيفاً أن "شحذ الأسلحة النووية للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها هو تصرف غير مسؤول".
وأكد عدد من المسؤولين الأمريكيين أن البنتاغون والاستخبارات العسكرية الأمريكية سيراقبون عن كثب أي تحركات غير عادية أو غير متوقعة لأسلحة موسكو النووية خلال المناورات الروسية، التي يتوقعون أن تبدأ قبل نهاية أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ويقول الأمريكيون إن التوترات المصاحبة للحرب في أوكرانيا تعني أن تلك المراقبة ستكون "أعلى وأدق" من المعتاد، حيث تراقب واشنطن باستمرار الأصول النووية لموسكو، لكن ستركز المراقبة خلال تلك المناورات تحديداً على أي مؤشرات تدل على كون أي تحرك للقوات أو الأسلحة المشاركة غير روتيني أو اعتيادي قياساً على السنوات الماضية.
وفي هذا السياق، يُبدي المسؤولون الأمريكيون ومسؤولو الناتو ثقتهم التامة في القدرة على مراقبة أي نشاط نووي روسي بدقة خلال المناورات. وقال الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبيرغ، الخميس الماضي: "سوف نراقب (تلك المناورات الروسية) كما نفعل دائماً. وبالطبع سنكون أكثر يقظة هذه المرة في ظل التهديدات النووية المبطنة والحديث الخطير الصادر عن الجانب الروسي في هذا السياق".
هذه بطبيعة الحال هي وجهة النظر الأمريكية، فماذا عن وجهة النظر الروسية؟ ترى موسكو أن الغرب، بقيادة واشنطن، هم المتسببون في الأزمة الأوكرانية من الأساس، وأنهم هم من يدفعون الأمور نحو مواجهة عالمية خطيرة.
وهذا بالتحديد ما تحدث عنه ألكساندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقَّب بأنه "عقل بوتين"، عندما حذر من أن حرباً عالمية ثالثة ربما تكون قد "بدأت": "نحن على شفا حرب عالمية ثالثة يدفعنا إليها الغرب بهوسٍ شديد، وهذا لم يعد تخوفاً أو توقعاً، هذه حقيقة. روسيا في حالة حرب مع الغرب الجماعي، مع الناتو وحلفائهم (وإن لم يكن مع الجميع – تركيا واليونان لديهما موقف خاص بهما، وعدد من الدول الأوروبية، في المقام الأول فرنسا وإيطاليا -وليس فقط فرنسا وإيطاليا- لا ترغب في المشاركة بشكل فاعلٍ في الحرب مع روسيا). ومع ذلك، فإن خطر نشوب حرب عالمية ثالثة يقترب".
ووصف دوغين الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف بأنه "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قِبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
وفي هذا السياق، ربما يكون السؤال البديهي هو: لماذا لم يسعَ الطرفان، بوتين وبايدن، إلى تأجيل المناورات النووية هذا العام على الأقل كبادرة على رغبة مشتركة في تجنيب العالم هذا الخطر المرعب؟ والسؤال الآخر: هل يستطيع الناتو مراقبة أي تحرك نووي روسي بمنتهى الدقة كما قال ستولتنبيرغ؟
إذا كان ذلك صحيحاً، فكيف اختفت أكبر غواصة نووية في العالم إذاً؟ فغواصة بيلغورود النووية الروسية هي أطول غواصة في العالم، وتحمل طوربيدات بوسايدون، وكلاهما -الغواصة والطوربيد- يوصف بأنه سلاح "يوم القيامة"، ورغم ذلك، أصدر الناتو بياناً مطلع الشهر الجاري بأنها "اختفت".
فقد جاءت أنباء "اختفاء" الغواصة الروسية في بيان تحذيري أرسله حلف الناتو للدول الأعضاء فيه، موضحاً أن بيلغورود لم تعد موجودة في القاعدة البحرية الرئيسية في القطب الشمالي، حيث كانت توجد منذ دخولها الخدمة في يوليو/تموز الماضي.