تواجه حالياً رئيسة وزراء بريطانيا "ليز تراس" خطر الإطاحة بها، فبعد إقالتها لوزير المالية كوراسي كورتانج، عنونت صحيفة "The Times" بأن "تراس تكافح من أجل البقاء"، ويأتي هذا بعد اضطرابات ضربت السوق البريطاني أحدثتها ميزانية قد وضعت وفقاً لخطة تراس الاقتصادية.
وفي ظل تدهور شعبية حزبها "المحافظين" ضمن استطلاعات الرأي، ذكرت الصحيفة نفسها، أن نواباً محافظين يخططون بالإطاحة بتراس، وقد يحدث ذلك في خلال أيام قليلة.
وأقرّ وزير الخزانة البريطاني الجديد جيريمي هانت، بأن حكومة رئيسة الوزراء ليز تراس "ارتكبت أخطاءً" بخطة خفض الضرائب المثيرة للجدل التي تسببت في اضطرابات الأسواق المالية، وإقالة سلفه كواسي كوارتنج، منذراً بأنّه سيتعين اتخاذ "قرارات صعبة".
بعد 5 أسابيع فقط من بداية حكم تراس في 10 سبتمبر/أيلول 2022 يوشك عهدها الذي بدأ لتوه على الانتهاء، ويأتي ذلك بعد فترة ليست ببعيدة بالإطاحة بعهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون عقب سلسلة من الأزمات بعضها كان اقتصادياً، مثل نقص العمالة وارتفاع تكاليف المعيشة، وبعضها الآخر كان أخلاقياً جراء فضيحة إقامة حفلات في مقر رئاسة الحكومة البريطانية أثناء فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا.
وكانت هذه المرة الثالثة في أقل من عقد من الزمان، أدّت فيه الأزمة الاقتصادية إلى الإطاحة برئيس الوزراء من منصبه، ومع اقتراب الإطاحة بخليفة جونسون يتأكد دخول بريطانيا في نفق يتسم بعدم الاستقرار السياسي.
ما سبب هذا الاضطراب على مستوى القيادة السياسية؟ هل هي لعنة البريكست؟
انفصلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي عام 2020، بعد 3 سنوات من نتائج استفتاء شعبي صوت فيه البريطانيون بنسبة 52% لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، لتنتهي بذلك علاقة استمرت 47 عاماً بين المملكة والاتحاد.
وقد انضمت بريطانيا إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1973، بعد أن سحبت فرنسا اعتراضها إثر استقالة ديغول عام 1969.
وبتوقيع معاهدة ماسترخت عام 1992 تحولت تلك المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى ما يعرف بشكلها الحالي "الاتحاد الأوروبي"، ما أحدث تحولاً حقيقياً في عملية التكامل الأوروبي، فما كان حتى ذلك الحين المعروف باسم الجماعة الاقتصادية الأوروبية، أصبح الجماعة الأوروبية، وأول دعامة للاتحاد الأوروبي.
ورغم التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي والعسكري الذي أسهم فيه الاتحاد. إلا أنّ الوحدة آذنت بالتفكك، بعد إعلان رغبة بريطانيا المتكررة للخروج من الاتحاد.
حيث سعت بريطانيا إلى التخلص من أعباء الهجرة والمخاوف من الإرهاب، بجانب توقعها بازدهار تجارتها الحرّة، وزيادة نفوذها المالي، خاصة بعد أزمة اليونان، والتراجع الكبير في أنظمة الدول الأوروبية الاقتصاديّة، وضعف الأسواق الماليّة.
ظنت بريطانيا أنها بالانفصال عن الاتحاد ستستعيد مكانتها الغائبة كدولة عظمى، وأنها ستنجح في تأسيس علاقات خاصة جديدة بينها وبين الاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم بشأن السياسة الخارجية والاقتصادية في أعقاب خروجها من الاتحاد.
لكن ما لم تأخذه في الحسبان هو تأثير ذلك على بيتها الداخلي، فقد أصابت تبعات الانفصال الاقتصادية والسياسية على استقرارها الداخلي بشكل عنيف، والذي بدأ يتطور منذ إعلان نتيجة الاستفتاء لصالح الانفصال.
وفقاً للتعديل الدستوري البريطاني الذي تم في عام 2011، يحق للحزب الفائز في الانتخابات من الحكم لمدة 5 سنوات. إلا أنه بعد إعلان تصويت الشعب لصالح المغادرة، واستقالة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في الصباح التالي ليوم الاستفتاء، لم يستطع أي رئيس وزراء البقاء في منصبه أكثر من 3 سنوات.
ماي.. الخروج من الاتحاد الأوروبي أهم من الاقتصاد!
وبدأت تلك الفترة بحكم تيريزا ماي بداية من 13 يوليو/تموز 2016 والتي فعّلت خلالها المادة 50، الإخطار الرسمي بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، في مارس/آذار عام 2017، ليتحدد بذلك الموعد الرسمي للخروج من الاتحاد يوم 29 مارس/آذار عام 2019، سواء باتفاق أو من دونه.
وفي محاولة لكسب الدعم لخطتها للخروج من الاتحاد دعت ماي إلى إجراء انتخابات مبكرة في يونيو/حزيران عام 2017. لكن هذه المقامرة أتت بنتيجة عكسية، حيث فقدت أغلبيتها البرلمانية وشكلت حكومة أقلية بدعم من الحزب الديمقراطي الوحدوي في أيرلندا الشمالية المناهض للاتحاد الأوروبي. وهنا تراجعت شعبيتها.
وقادت الأزمة المتعلقة بخطة الخروج من الاتحاد البريطاني إلى خسارة ماي الكثير من أعضاء حكومتها في فترة زمنية قصيرة. حتى إن عدد استقالات الوزراء في حكومة ماي فاق ما فقدته حكومتا توني بلير ومارغريت تاتشر في 10 سنوات، وفقاً لتقرير BBC.
وخلال موجتين من الاستقالات، تقدم وزيران باستقالتيهما خلال 24 ساعة، وهما وزير بريكست، ديفيد دايفس، ووزير الخارجية، بوريس جونسون، في الثامن والتاسع من يوليو/تموز 2018.
أدى استحواذ خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي على عمل ماي في الوزارة، بالإضافة إلى فشلها في تقليل أعداد المهاجرين إلى عشرات الآلاف كما وعدت، وتأخرت أيضاً في وضع خطة الرعاية الاجتماعية. ما أدى لانخفاض الولاء بين أعضاء حكومتها، لتتسم فترة حكمها بالانقسامات الداخلية. ما أدى للضغط عليها لتعلن استقالتها من منصبها في يوليو/تموز 2019، بعد أن فشلت في الحصول على دعم من البرلمان بشأن صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
جونسون.. "رجل الأكاذيب"!
ليأتي بعدها رئيس الوزراء جونسون ليستمر هو أيضاً لفترة لا تتجاوز ثلاث سنوات، رغم أنه جاء عقب فوز ساحق حصد فيه أغلبية الأصوات في انتخابات عام 2019.
ولم تكن فترته أفضل من سابقته ماي، حيث وصفت صحيفة الغارديان حقبه بوريس جونسون بأنها كانت مليئة بالأكاذيب والاحتقار للأشخاص العاديين الذين كان من المفترض أن يحميهم.
فقد أشارت الصحيفة إلى أن فترة حكمه شهدت موت ما يقرب من 200 ألف بريطاني بسبب جائحة كوفيد19، فلم تحسن حكومته في التعامل مع فيروس كورونا، ما أدى في الأخير إلى استقالته يوم 7 يوليو/تموز 2022، بعد عدة فضائح كان أشهرها إقامة حفل دعا إليه 100 شخص خلال فترة الإغلاق، في داونينغ ستريت، مقر الإقامة الرسمية ومكتب رئيس وزراء.
بجانب الإهمال، عانى الاقتصاد البريطاني بشدة في فترة جونسون، والتي شهدت التطبيق الفعلي للبريكست.
فبعد انتهاء عمليات الإغلاق في عام 2021، ذكر مركز الإصلاح الأوروبي (CEF) أنه بحلول نهاية عام 2021 الماضي، تقلص الاقتصاد البريطاني بنسبة 5.2%، أي 31 مليار جنيه إسترليني (حوالي 38 مليار دولار)، مقارنة بما كان سيكون عليه، لولا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وأعقب جون سبرينغفورد، مؤلف الدراسة: "رغم تداعيات وباء كوفيد19، إلا أن البريكست كان هو المسؤول إلى حد كبير عن أغلب النقص البالغ 5.2% في الناتج المحلي الإجمالي.
التضخم وارتفاع الأسعار
ويمكن هنا الاستنتاج بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد قلص بشدة من الناتج المحلي الإجمالي والاستثمار وتجارة السلع، ما رسّخ أساساً للأزمة الاقتصادية الحالية التي تواجهها تراس.
فقد وصلت معدلات التضخم لأرقام لأعلى مستوى منذ 4 عقود، وهو ما ينذر بمزيد من الصعوبات بالنسبة للعائلات البريطانية، والأعمال التجارية.
ولم تسعف خطة الميزانية الفاشلة لتراس لوقف نزيف الاقتصاد، بل سرعت الوتيرة لدرجة أوصلت قيمة العملة لأقل قيمة لها منذ 50 عاماً.
ما جعلها تصرّح بأن خططها الاقتصادية ذهبت "أبعد وأسرع مما كانت تتوقعه الأسواق". وأضافت بأن وزير الخزانة البريطاني الجديد، سيضع في نهاية الشهر خطة لتخفيض الدين العام على المدى المتوسط".
لكن لا يبدو أن تراس لن تظل في منصبها لآخر الشهر، فبجانب تداعيات البريكست، وفقاً لبنك إنجلترا يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا لزيادة التضخم، ومن المرجح أن يدفع بريطانيا إلى ركود طويل.