شنت روسيا ضربات صاروخية مكثفة استهدفت أغلب مدن أوكرانيا، واشتعلت أماكن عديدة في كييف العاصمة، ليستنجد زيلينسكي بالغرب، فهل بدأ بوتين "انتقاماً شاملاً" بعد تفجير جسر القرم؟
كانت عدة انفجارات قد هزت العاصمة الأوكرانية كييف ومدن لفيف وترنوبل ودنيبرو وغيرها، صباح الإثنين 10 أكتوبر/تشرين الأول، بعد ساعات من اتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا بتدبير "الانفجار الإرهابي"، الذي ألحق أضراراً بجسر رئيسي يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم.
شبكة سوسبلين العامة الأوكرانية نقلت عن خدمات الطوارئ قولها إن هناك قتلى وجرحى في كييف، لكنها لم تذكر مزيداً من التفاصيل عن الضحايا. وكتب رئيس بلدية كييف فيتالي كليتشكو كليتشكو على تطبيق المراسلة تيليغرام: "وقعت عدة انفجارات في منطقة شيفتشينسكيفسكي بوسط العاصمة.. ستأتي التفاصيل لاحقاً".
ورأى شاهد من رويترز حفرة ضخمة في أحد تقاطعات وسط المدينة وسيارات على مقربة محطمة بالكامل. كما وردت أنباء عن وقوع انفجارات في لفيف وترنوبل وزيتومير في غرب أوكرانيا، وفي دنيبرو بوسطها.
هل بدأت حرب روسيا على "الإرهاب"؟
هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها كييف إلى هجمات صاروخية روسية منذ أكثر من 3 أشهر، وربما تكون المرة الأولى منذ اندلاع الهجوم الروسي، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، التي تتعرض فيها مدينة لفيف، التي تقع في أقصى الغرب الأوكراني، لهذه الضربات الصاروخية.
ومن الواضح أن الصواريخ الروسية التي انهمرت على أغلب المدن الأوكرانية يأتي في إطار رد الكرملين على استهداف جسر كيريتش، الذي يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم، من خلال انفجار قوي السبت الماضي، خصوصاً أن بوتين اتهم أوكرانيا بتدبير الانفجار واصفاً إياه بأنه "عمل إرهابي".
ففي تسجيل فيديو نُشر الأحد على قناة الكرملين على تيليغرام، قال الزعيم الروسي: "لا شكَّ في أن هذا عمل إرهابي بهدف تدمير بنية تحتية مدنية مهمة. هذا العمل دبرته ونفذته وأمرت به قوات أوكرانية".
رسالة بوتين جاءت بعد لقائه مع ألكسندر باستريكين، رئيس لجنة التحقيق الروسية الذي قدم له ما خلص إليه تحقيق في الانفجار، الذي قوبل برسائل مبتهجة من المسؤولين الأوكرانيين، وتقارير أمريكية تثني على "جرأة" المخابرات العسكرية الأوكرانية التي يقولون إنها خططت للتفجير.
وبالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لتفجير الجسر، الذي يمثل خط الإمداد الرئيسي للقوات الروسية في الجنوب الأوكراني، ورغم تمكن روسيا من إعادة حركة المرور على الجسر الحيوي خلال ساعات، إلا أن هذا الاستهداف يمثل "إهانة شخصية لبوتين"، بحسب تحليل لشبكة CNN الأمريكية، على أساس أن الرئيس الروسي كان قد أمر بإنشاء الجسر، الأطول في أوروبا، وافتتحه في احتفال ضخم ويعتبره أحد أهم إنجازاته.
وفي هذا السياق يبدو أن هناك إجماعاً على أن "الانتقام الروسي الشامل" يأتي كرد مباشر على استهداف الجسر، لكن هذه الجزئية تمثل فقط جانباً من القصة، وربما يكون هذا الاستهداف لجميع الأراضي الأوكرانية بداية لفصل جديد من الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وكان سيرجي أكسيونوف، الحاكم الروسي لشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، قد قال للصحفيين: "الوضع يمكن السيطرة عليه… إنه مزعج ولكنه ليس كارثيا… وقد أثار بالطبع المشاعر وهناك رغبة كبيرة في الانتقام".
"حرب بلا قواعد"
تواجه روسيا موقفاً صعباً للغاية في ساحة المعركة منذ مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، وتعرضت لأول وأبرز انتكاساتها الميدانية عندما نجح هجوم أوكراني مضاد خاطف في إجبار القوات الروسية على الانسحاب على عجل من خاركيف، ومنذ ذلك الوقت يتواصل التقدم الأوكراني في مناطق كانت تسيطر عليها موسكو.
ولم تنجح الخطوات التي اتخذها بوتين حتى الآن في وقف النزيف في ساحة المعركة، سواء قرار التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط، وهي العملية التي شابتها العشوائية ومثلت إحراجاً ضخماً للكرملين وأثارت الفزع داخلياً، أو إجراء "الاستفتاءات" ومن ثم إعلان ضم أربع مدن أوكرانية رسميا. كما لم تردع تهديدات بوتين استخدام "الأسلحة النووية" الغرب وأمريكا عن وقف الدعم العسكري الهائل لأوكرانيا.
فروسيا ترى الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا"، وهذا ما قاله ألكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقب بأنه "عقل بوتين": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
وبالتالي فإن بوتين وجد نفسه في مأزق حقيقي، ربما للمرة الأولى منذ أطلق "العملية العسكرية الخاصة"، فالانتقادات الداخلية الموجهة لجنرالات جيشه تتعالى، والتحدي الغربي مستمر ولم يتوقف أو حتى يتراجع بعد التلويح بالرد "النووي"، فكيف يرد الدب الروسي إذا؟
أوليغ موروزوف، نائب رئيس مجلس الدوما (البرلمان)، ربما يكون قد حمل الإجابة بشكل ضمني عندما قال: "إن حرباً خفية تشن على روسيا، والهجوم الإرهابي المعلن منذ مدة طويلة على جسر القرم لم يعد مجرد تحدٍ بل إعلان حرب بلا قواعد".
فالحديث عن "حرب خفية" فيه إشارة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالوقوف وراء هذه الهجمات القوية والمهينة دون أن تتبناها. أما "حرب بلا قواعد" فالمقصود بها استهداف المنشآت المدنية والبنية التحتية "في الداخل الروسي"، دون اعتبار للخطوط الحمراء التي وضعتها موسكو، رغم تلويحها بالسلاح النووي، بحسب تحليل لوكالة الأناضول.
صحيح أن استهداف جسر القرم لم يكن المرة الأولى التي "تتجاوز" فيها أوكرانيا "الخطوط الحمراء"، إذ سبقه أيضاً عمليات أخرى داخل روسيا، لكن هذه المرة أصاب التفجير شيئاً أكثر أهمية بكثير، وهو بوتين نفسه، بحسب تحليلات غربية.
"الحرب بلا قواعد" التي تحدث عنها موروزوف تعني توسيع الحرب بما يشمل استهداف البنية التحتية والمنشآت المدنية الأوكرانية، ومن الممكن أن يشمل الرد حرباً خفية روسية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، سواء بتكثيف الحرب السيبرانية، أو استهداف المنشآت المدنية في الدول الأوروبية دون تبني ذلك.
وربما يكون هذا هو أحد الدوافع الرئيسية وراء "التسريبات الاستخباراتية الأمريكية" بأن أوكرانيا هي من اغتالت ابنة دوغين في موسكو في أغسطس/آب الماضي، حتى تتجنب مسار التصعيد المباشر مع روسيا.
هل بدأ صبر "بوتين" ينفد؟
الجحيم الصاروخي الذي أسقطته روسيا على أغلب المدن الأوكرانية سبق اجتماعاً لمجلس الأمن القومي الروسي يترأسه بوتين، ورغم أن أجندة "الاجتماع الاعتيادي" غير معلنة بطبيعة الحال، فإن جميع المعطيات تشير إلى أن "العملية الخاصة" في أوكرانيا ستكون البند الوحيد.
إذ يرى بعض المحللين أنه ليس من المستبعد أن تعلن روسيا "الحرب" على أوكرانيا، وتحويل "عمليتها العسكرية" إلى تعبئة شاملة بدل التعبئة الجزئية التي تواجه عقبات حاليا، وهو ما يعني تخصيص مزيد من الموارد للجيش بغرض تحقيق نصر حاسم في أرض المعركة دون أي اعتبارات أخرى.
المقصود هنا هو أن روسيا تسعى من البداية لتجنب استخدام أكثر أسلحتها التقليدية تدميراً، وتتعالى الأصوات الداخلية المطالبة بالكف عن ذلك وحسم الحرب في الميدان بأي وسيلة متاحة، حتى لو كانت الأسلحة النووية.
إذ بات من الصعب على روسيا ابتلاع الإهانة التي تلقتها في البحر الأسود سواء تفجير الجسر أو تدمير أهم سفينة حربية لها في البحر الأسود (الطراد موسكوفا) في أبريل/نيسان الماضي. وحتى إن كان بإمكان روسيا إعادة فتح الجسر خلال ساعات واستكمال الإصلاحات خلال أشهر، فإن وقوع اختراق لكل الاحتياطات الأمنية التي وضعتها يهز سمعتها العسكرية.
وسبق لروسيا أن فاخرت بإسقاط طائرة مسيرة قرب جسر القرم في أغسطس/آب، وتعزيز دفاعاتها الجوية والبحرية وحتى في عمق البحر لصد أي هجوم بطائرات مسيرة أو صواريخ أمريكية متوسطة المدى، أو حتى بغواصات وضفادع بشرية وقوات خاصة.
ويبدو أن الرسالة الروسية المرعبة قد وصلت مبكراً إلى كييف، إذ اتهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي روسيا بمحاولة محو بلاده "من على وجه الأرض".
وأضاف عبر تطبيق المراسلة تيليغرام: "إنهم يحاولون تدميرنا ومحونا من على وجه الأرض… تدمير مواطنينا الذين ينامون في منازلهم في (مدينة) زابوريجيا. قتل الأشخاص الذين يذهبون للعمل في دنيبرو وكييف. صفارات الإنذار لا تهدأ في جميع أنحاء أوكرانيا. هناك صواريخ تسقط. للأسف هناك قتلى وجرحى".
الخلاصة هنا هي أن قواعد الاشتباك بين روسيا وأوكرانيا تغيرت إلى غير رجعة على ما يبدو، ومن المتوقع أن تنتقل الحرب إلى مرحلة أكثر عنفاً، بعد استهداف جسر القرم الاستراتيجي الذي سبق أن هددت كييف بتدميره واعتبرت أنه "الهدف الأول" لهزيمة موسكو.
ما البديل غير النووي إذاً؟
فتفجير الجسر زاد من الضغوط الداخلية على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للضغط على الزر النووي، لتجنب هزيمة مهينة لثاني قوة عسكرية في العالم، بل الأولى من حيث عدد الرؤوس النووية.
وفي 21 سبتمبر/أيلول حذر بوتين الغرب من أن موسكو "ستستخدم كل الوسائل" المتاحة لها للدفاع عن نفسها بما في ذلك السلاح النووي، مؤكداً أن "الأمر ليس خدعة".
وتحريك روسيا لقطارها النووي نحو الحدود الأوكرانية رسالة أخرى بأنها جادة في تهديداتها باستخدام السلاح النووي، خاصة أنها تعتقد أن الغرب لن يرد بالمثل والمجازفة بخوض حرب نووية تكون نهاية العالم، من أجل بضع مقاطعات أوكرانية. بينما حذرت واشنطن القيادة الروسية من "العواقب الوخيمة التي ستتبع استخدام السلاح النووي".
لكن على الرغم من تعرض بوتين لضغوط من صقور الجيش الروسي لاستخدام السلاح النووي لحسم المعارك في أوكرانيا، خاصة بعدما تعرضت ما يعتبرونه حدوداً جديدة لبلادهم لاعتداء، إلا أن خياراً كهذا سيكون له انعكاسات سلبية على روسيا حتى وإن لم تواجه رداً نووياً من الغرب.
فبوتين، لن يغامر بسهولة بنهاية روسيا والعالم إن لم يكن هناك تهديد فعلي على وجود بلاده، إذ تقضي العقيدة الروسية بأنه لا يمكن استخدام السلاح النووي إلا عند استخدام أي عدو أسلحةً نووية، أو أسلحة دمار شامل ضدها أو ضد حلفائها، أو عدوان على روسيا بأسلحة تقليدية يجعل وجود الدولة ذاته مهدداً.
وإذا كان الاحتمال الأول غير مطروح، فإن الاحتمال الثاني قابل للتأويل خاصة بعد ضم أراضي شبه جزيرة القرم والمقاطعات الأربع للاتحاد الروسي رسمياً، وبالتالي أصبحت تشكل حدودها الجديدة.
ومحاولة الجيش الأوكراني استعادة هذه الأراضي يمكن أن تعتبره موسكو "تهديداً لوجود الدولة"، لأنها ترى أن معركتها الحقيقية مع الغرب الذي يسعى لتدميرها وتقسيمها.
لكن هذا الخيار سيكون له تكلفته، أولها أنه من المحتمل أن يؤدي إلى نهاية روسيا والعالم إذا ردت الولايات المتحدة بهجوم نووي مضاد، أو أنها ستزيد من عزلة روسيا وتحاصر اقتصادها، أو تحيل قادتها إلى محكمة الجنايات الدولية، أو يتم سحب عضويتها الدائمة من مجلس الأمن الدولي، عبر تشكيل تحالف دولي واسع رافض لاستخدام السلاح النووي.
لكن بوتين ليس في عجلة من أمره، بدليل فتح تحقيق في تفجير الجسر، وفي نفس الوقت دراسة خيارات الرد، إذ سبق أن تعرضت روسيا لضربات قوية في خاركيف وليمان والبحر الأسود وحتى في مدينة بلغورود الروسية، لكن الرد لم يكن نووياً، ما يجعل خيار الرد التقليدي أقل ضرراً لجميع الأطراف.
وبالتالي فإن إطلاق عاصفة من الصواريخ يشير إلى أن الدب قرر أن يكشر عن أنيابه ويبدأ حملة الانتقام بالأسلحة التقليدية، فهل تؤدي تلك الاستراتيجية إلى تغيير جذري في المعطيات الميدانية؟ وماذا قد تكون خطوة بوتين المقبلة إذا كانت الإجابة بالنفي؟