ربما تكون البلقان هي المنطقة الوحيدة في أوروبا، التي يجد فيها فلاديمير بوتين حلفاء، لكن من هو الزعيم الأكثر ولاءً لروسيا من بين زعماء كرواتيا وصربيا وصرب البوسنة؟
عندما أعلن اتحاد كرة القدم في البوسنة والهرسك أن فريق كرة القدم الوطني للرجال سيلعب مباراة ودية مع روسيا في سان بطرسبرغ، يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني، تسبب الخبر في صدمة بين البوسنيين في البلاد وغيرهم من المواطنين من جميع مناحي الحياة.
كما انتقد أشهر لاعبي البوسنة إدين دزيكو وميرالم بيانيتش القرار بشدة، كان دزيكو مصراً على أنه لن يلعب في المباراة وكرر دعمه للشعب الأوكراني، لكن القرار لم يكن خطأً عابراً، فرئيس اتحاد كرة القدم في البوسنة هو فيكو زيليكوفيتش، ابن شقيق زعيم صرب البوسنة المتشدد ميلوراد دوديك.
وعلى مدار السنوات العديدة الماضية، برز دوديك باعتباره السياسي الأكثر تأييداً لروسيا ليس فقط في البوسنة، ولكن أيضاً في البلقان. الرئيس الكرواتي زوران ميلانوفيتش والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش لديهما مشاعر مؤيدة لروسيا، لكن دوديك يقود المجموعة، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ماذا يفعل زعيم صرب البوسنة؟
كان دوديك من قبل يقول عن نفسه اشتراكياً ديمقراطياً، وقد أظهر نفسه على أنه قومي متحمس لانفصال جمهورية صربسكا عن البوسنة (تتكون البوسنة والهرسك من كيانين: اتحاد البوسنة والهرسك، وجمهورية صربسكا التي يسيطر عليها الصرب، بالإضافة إلى وحدة إدارية تتمتع بالحكم الذاتي، مقاطعة برتشكو). كان زعيماً بلا منازع لهذا الجزء من البوسنة.
وعلى مدار السنوات الأربع الماضية، كان دوديك عضواً في الرئاسة الثلاثية للبوسنة، وعمل باستمرار لتقويض البلاد في محاولة لإضعافها ومتابعة أجندته الانفصالية. وربما يجعله هذا الزعيم السياسي الوحيد في العالم الذي يعمل بلا كلل لتدمير البلاد التي يترأسها رسمياً.
ففي أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلن دوديك عن عزمه اتخاذ خطوات ترقى إلى الانفصال في كل شيء فعلياً، عدا الاعتراف الرسمي. وتعيد أفعال دوديك إلى الأذهان ما تعرَّض له البوسنيون من جرائم حرب، أبرزها مجزرة سربرنيتشا، على يد زعيم صربي آخر هو راتكو ملاديتش، جزار البلقان الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة.
ويتبع ميلوراد دوديك استراتيجية تشمل تقويض وتفكيك مؤسسات البوسنة على مستوى الدولة وبناء جمهورية صرب البوسنة- أحد الكيانين السياسيين اللذين تتكون منهما جمهورية البوسنة والهرسك، والآخر هو اتحاد البوسنة والهرسك- لتصبح دويلة منفصلة.
ومن ضمن خطط دوديك تمرير تشريع في جمهورية صرب البوسنة لتجريد مؤسسات الدولة على مستوى البلاد من صلاحياتها هناك. ويعتزم الزعيم الانفصالي منع الشرطة وأجهزة المخابرات على مستوى البلاد، وكذلك الهيئات القضائية من العمل داخل جمهورية صرب البوسنة، وإنشاء مؤسسات موازية خاصة بها، بل أعلن دوديك عن نيته بناء جيش لجمهورية صرب البوسنة.
وباتباع سياسة إنشاء مراكز قوة موازية، يسير دوديك على خطى ما فعله قادة صرب البوسنة في زمن الحرب قبل 30 عاماً، تحديداً في خريف عام 1991. وكانت النتيجة محاولة انفصال عام 1992، ويخشى كثيرون في البوسنة أن يعيد التاريخ نفسه في الأشهر المقبلة.
ففي تلك السنوات، من 1991 وحتى 1995، ارتكبت القوات الصربية مجازر عديدة بحق البوسنيين. ففي العاصمة البوسنية سراييفو كان هناك قنّاصة يحوِّطون بعض الأماكن ليقتلوا المدنيين، كما تم قصف العاصمة بالقنابل والصواريخ، ما أسفر عن مقتل حوالي 10 آلاف شخص مدني منهم 1601 طفل، لكنّ أبرز تلك المجازر وأبشعها كانت مذبحة سربرنيتسا.
لكن ما عطّل خطة دوديك الهادفة إلى انفصال جمهورية صربسكا، باعترافه الصريح، كانت حرب روسيا في أوكرانيا، رغم أنه لاحظ أن الحرب أدت فقط إلى تأجيل خططه.
ماذا يقدم دوديك لروسيا في البلقان؟
تقترب فترة رئاسة دوديك من نهايتها في أعقاب انتخابات 2 أكتوبر/تشرين الأول في البلاد. هذه المرة لم يرشح نفسه للمنصب الأعلى، ولكنه ركز طاقاته بدلاً من ذلك على الحفاظ على سلطته في جمهورية صربسكا وإدارتها كإقطاعية له. وهذا يعني أن هذا الكيان البوسني سيظل موالياً لروسيا، وسيواصل منح روسيا موطئ قدم قوياً في البلقان.
أصبحت سياسات دوديك مصدراً لعدم الاستقرار في البوسنة والمنطقة، في أوائل عام 2017 فرضت الولايات المتحدة عقوبات على دوديك، رداً على الاستفتاء الذي أجراه في جمهورية صربسكا، بمناسبة يوم 9 يناير/كانون الثاني، يوم جمهورية صربسكا. في ذلك التاريخ من عام 1992، شرع متمردو صرب البوسنة في إنشاء مؤسساتهم الموازية غير القانونية، التي أدت إلى الحرب والعنف والإبادة الجماعية.
في يناير/كانون الثاني الماضي، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على دوديك لعرقلة تنفيذ اتفاقات دايتون لعام 1995. وعلى وجه التحديد، اتخذت خطوات لانتزاع اختصاصات الدولة ونقلها إلى جمهورية صربسكا، وهي خطوة عارضها مكتب الممثل السامي، الذي يشرف على التنفيذ المدني لاتفاقات دايتون، وتسببت في حالة من الجمود السياسي. حذت المملكة المتحدة حذوها بإضافة عقوباتها الخاصة على دوديك في أبريل/نيسان.
بينما ينتظر وقته للانفصال، يسعى دوديك إلى تحويل البوسنة إلى صراع مجمَّد. يقوم الزعيم الانفصالي ببناء شبه دويلة خاصة به، مستلهماً من صراعات مماثلة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.
جنباً إلى جنب مع السياسة المتطرفة، كان دوديك ينمي علاقات أوثق مع روسيا. افتتح دوديك مكتباً تمثيلياً لجمهورية صربسكا في موسكو في محاولة لاتباع سياسة خارجية بديلة للسياسة الرسمية في سراييفو. وقد زار روسيا في عدد من المناسبات خلال العقد الماضي، وتفيد التقارير بأنه التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبع مرات منذ عام 2014.
عندما شنَّت روسيا هجومها على أوكرانيا، في فبراير/شباط، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما تصفه كييف والغرب بأنه "غزو"، وقف دوديك إلى جانب بوتين. على عكس أعضاء الرئاسة الآخرين في البوسنة، شفيق دزافيروفيتش وزيليكو كومسيتش، الذين أدانوا الهجوم، رفض دوديك بشدة القيام بذلك.
في الواقع، لقد دعم علناً الهجوم الروسي، واصفاً إياه بأنه "مبرر"، وعندما تجنب العديد من السياسيين الأوروبيين الرئيس الروسي بعد "الغزو"، التقى دوديك مع بوتين في يونيو/حزيران، ثم مرة أخرى في سبتمبر/أيلول. وأيد إجراء استفتاءات في الأجزاء التي تحتلها روسيا من أوكرانيا.
يعتبر تحول دوديك إلى روسيا خروجاً عن سياسته في أواخر التسعينيات. في ذلك الوقت كان يُنظر إليه على أنه مصلح، وقد أشاد به الأمريكيون في ذلك الوقت. لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين.
في عام 1998، قدم دوديك نفسه على أنه معتدل، وكان مدعوماً في ذلك الوقت من قبل المسؤولين الدوليين في البوسنة الذين كانوا يتمتعون بسلطة كبيرة في بلد ما بعد الحرب. ومع ذلك، فإن عودته إلى منصب رئيس وزراء جمهورية صربسكا في عام 2006 كانت بمثابة حقبة جديدة من القومية الانفصالية المتشددة. وعلى مدار السنوات الـ16 الماضية، كان دوديك هو صاحب السيادة في جمهورية صربسكا.
ماذا يعني الولاء لبوتين بالنسبة للناتو؟
أظهر زعيم صرب البوسنة، الذي أظهر وجهه الحقيقي، أنه مستبد معلن في الداخل وسياسي رئيسي مؤيد لروسيا في هذه الزاوية من أوروبا. دوديك هو الآن سياسي مناهض بشدة للغرب، ويعارض سعي البوسنة للانضمام إلى الناتو، وهو ما يعكس وجهة نظر موسكو.
كل هذا مصدر قلق لغالبية مواطني البوسنة، الذين يفضلون المسار الموالي للغرب. وجد استطلاع أجراه المعهد الجمهوري الدولي مؤخراً أن 58% من البوسنيين و52% من الكرواتيين يفضلون سياسة موالية للاتحاد الأوروبي وموالية للغرب. ويحظى انضمام البلاد إلى الناتو بدعم 69% من البوشناق و77% من الكروات، و8% فقط من صرب البوسنة.
وأشار عدد من المحللين إلى أنه بالإضافة إلى معارضة تكامل البوسنة مع المؤسسات الغربية، يهدف كل من دوديك وموسكو إلى إحباط الجهود الرامية إلى تعزيز الدولة البوسنية وجعلها أكثر فاعلية.
وعلى مدار السنوات العديدة الماضية، عارض المسؤولون الروس قرارات مكتب الممثل السامي، وفشلوا في قبول أحكام الإبادة الجماعية التي أصدرتها محاكم جرائم الحرب الدولية، وتحدثوا بشكل متزايد ضد تطلعات البلاد إلى الناتو.
لقد دعمت روسيا كلاً من دوديك، ومؤخراً الزعيم الكرواتي البوسني المتشدد دراغان كوفيتش. الزعيمان لديهما تحالف قوي للغاية وسجل حافل بعرقلة عمل البوسنة. من خلال إبقاء البوسنة في حالة خلل وظيفي، يسعى هؤلاء المفسدون إلى منع البلاد من الوفاء بمعايير عضوية الناتو.
ويضمن تقارب المصالح الروسية مع الزعيمين الانفصاليين في البوسنة تأجيل توسع الناتو ليشمل البلقان. بالنسبة لروسيا، يعد هذا مشروعاً منخفض التكلفة، ما يجعل الناتو بعيداً عن هذه المنطقة، التي استثمر فيها الغرب بكثافة منذ اتفاقيات دايتون. بعبارة أخرى، ما كانت ذات يوم منطقة مؤيدة بشدة للغرب أصبحت الآن موضع نزاع متزايد، بدون وجود مرساة ثابتة في حلف الأطلسي تظل البلقان برميل البارود لأوروبا.
توجهت البوسنة إلى صناديق الاقتراع، في 2 أكتوبر/تشرين الأول، لانتخاب رئاسة البلاد المكونة من ثلاثة أعضاء، والممثلين وأعضاء الجمعية على مستوى الاتحاد والكانتون، والرئيس وأعضاء الجمعية في جمهورية صربسكا. اختار دوديك الترشح لمنصب رئيس جمهورية صربسكا، ولن يكون بعد ذلك عضواً في الرئاسة الثلاثية للبلاد.