"أولاً وأخيراً يهمنا مصالح المملكة العربية السعودية"، بحسب وجهة نظر السعوديين، أما جو بايدن، فقد وصف قرار أوبك+ تخفيض الإنتاج بأنه "محبط"، فإلى أين تتجه المواجهة بشأن النفط؟
كانت منظمة الدول المنتجة للبترول، أوبك، وروسيا وكبار المنتجين الآخرين من خارجها، (أوبك+)، قد قررت، الأربعاء، 5 أكتوبر/تشرين الأول، خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، خلال أول اجتماع للمنظمة، وجهاً لوجه في العاصمة النمساوية فيينا منذ وباء كورونا.
وأثار القرار غضباً شديداً داخل أروقة الإدارة الأمريكية، وسط مطالبات من مشرّعين ديمقراطيين بسحب القوات الأمريكية من السعودية والإمارات فوراً، وتفعيل قانون "نوبك"، معاقبة منظمة أوبك التي تقودها السعودية، إذ اعتبر الأمريكيون أن القرار يمثل تحدياً مباشراً من الرياض لواشنطن.
هل تحدَّت السعودية أمريكا في قصة النفط؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "لماذا تحدّت السعودية الولايات المتحدة في خفض إنتاج أوبك من النفط"، رصد أسباب ما اعتبرته إدارة بايدن "تحدياً" من جانب المملكة، في أصعب توقيت ممكن بالنسبة لبايدن، وللديمقراطيين تحديداً.
فالمسؤولون السعوديون يؤكدون أن المملكة تقدّم مصالحها الاقتصادية على الاعتبارات السياسية الأمريكية الداخلية. وقال وزير الطاقة، الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود، في مقابلة مع التلفزيون السعودي، الأربعاء، 5 أكتوبر/تشرين الأول: "مصالح المملكة تأتي قبل أي شيء آخر"، وأضاف أن الحكومة السعودية تتطلع إلى أن تكون جزءاً من نمو الاقتصاد العالمي.
وقال الأمير عبد العزيز إنه تعيّن على المنظمة أن تتخذ خطوة استباقية بعد أن لجأت البنوك المركزية في الغرب لمعالجة التضخم برفع أسعار الفائدة، وهي خطوة قد ترفع احتمالات حدوث ركود عالمي، وهذا بدوره قد يخفض الطلب على النفط ويقلل سعره.
إيلين والد، الباحثة غير المقيمة في منظمة مجلس الأطلسي في واشنطن العاصمة، قالت لـ"سي إن إن": "يبدو أن هذا الخفض إجراء استباقي تحاشياً لانهيار الأسعار الذي يتطلب خفضاً مفاجئاً مع استمرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة".
كان الاقتصاد السعودي، الذي يعتمد على النفط اعتماداً كبيراً، قد وقع ضحية دورات الازدهار والركود في سوق النفط مرات عديدة من قبل، حيث تؤدي الأسعار المرتفعة إلى تدفق نقدي يتبعه فترات ركود. ويقول خبراء إن المملكة تحاول حماية نفسها من هذا الاحتمال.
وقالت إيلين للشبكة الأمريكية: "السعودية لا ترغب في تكرار ما حدث عام 2008، حين أدى انهيار السوق إلى دخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود، وانهارت أسعار النفط فجأة، ما تطلب إجراءً طارئاً من أوبك".
ويقول محللون أيضاً إن السعودية لا يمكنها احتمال انخفاض أسعار النفط إلى ما دون مستوى معين لأسباب تتعلق بالميزانية. إذ يتوقع هذا العام أن تسجل المملكة أول فائض في الميزانية بعد ثماني سنوات من العجز الناجم عن انخفاض أسعار النفط وجائحة كوفيد-19.
وكي تتعادل ميزانيتها، من الضروري أن تستقر أسعار النفط العالمية عند حوالي 79 دولاراً للبرميل، وفقاً لصندوق النقد الدولي. والشهر الماضي، انخفضت الأسعار إلى 85 دولاراً للبرميل عن 139 دولاراً قبل سبعة أشهر فقط. وكانت هذه إشارة تحذير للسعودية والدول الأخرى المصدرة للنفط، التي تعتمد على النفط في معظم عائداتها.
السعودية.. اللاعب الرئيس في سوق النفط
كان وزير الطاقة السعودي قد قال ذات مرة في تصريح شهير: "متعة السعودية أن تجعل الناس على أصابع أقدامهم". وهذا ما أصبح عليه مسؤولو البيت الأبيض والساسة الديمقراطيون حين دفعت المملكة منظمة أوبك للإعلان عن الخفض الكبير في إنتاج النفط، وهو ما تسبب في مخاوف من ارتفاع التضخم قبل 5 أسابيع فقط من انتخابات التجديد النصفي.
لكن روبرت موغيلنيكي، الباحث البارز في معهد دول الخليج العربية بواشنطن، قال لسي إن إن: "لكن السعوديين لا يريدون فقط معادلة الميزانية، بل يريدون استمرار تدفق الفائض"، وأضاف أن المملكة "ترغب في أن تقترب الأسعار من مستوى الـ90 دولاراً".
السعودية صاحبة أدنى تكلفة لاستخراج النفط في العالم، بحوالي 3 دولارات للبرميل، وهذا يعني أن الغالبية العظمى من الإيرادات المكتسبة من كل برميل تذهب إلى خزائن المملكة. وهذه الأموال ضرورية لتمويل المدن المستقبلية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار في الصحراء وفاتورة الأجور الحكومية الضخمة، رغم فرضها ضرائب جديدة في السنوات الأخيرة ومحاولاتها تنويع الاقتصاد.
يقول عمر العبيدلي، مدير الأبحاث في مركز "دراسات" ومقره البحرين: "السعر المرتفع المطلوب لتحقيق تعادل الميزانية سببه الإنفاق الهائل على الخدمات الحكومية، والاستثمار في البنية التحتية، والقطاع العام، وما إلى ذلك"، وأضاف أن "أدوات الضرائب التقليدية غائبة إلى حدٍّ كبير، وخاصة ضريبة الدخل الشخصي".
وأضاف العبيدلي أن المملكة "تحاول امتلاك مصدر دخل متنوع ومستقر للحكومة؛ لأن عدم استقرار الماليات الحكومية تؤدي إلى اضطراب كبير في الاقتصاد".
لكن على أية حال، أكد قرار الخفض الذي اتخذته منظمة أوبك+ على مدى أهمية السعودية، أكبر مصدري النفط في العالم، لكنه في الوقت نفسه يلقي بظلال من الشكوك على العلاقة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن، والتي تعود إلى عام 1945.
إذ إن رد الديمقراطيين كان شرساً، ووصف ساستهم خطوة السعودية بأنها عمل عدائي ضد الولايات المتحدة يصب في مصلحة روسيا، ويملأ خزائنها بدولارات النفط في خضم حربها على أوكرانيا.
وكتب زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الديمقراطي تشاك شومر الجمعة 7 أكتوبر/تشرين الأول على تويتر: "ما فعلته السعودية لمساعدة بوتين على الاستمرار في شن حربه الدنيئة الشرسة على أوكرانيا سيذكره الأمريكيون لفترة طويلة".
كما لم يتأخر رد بايدن، إذ أصدرت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض كارين جان بيير بياناً الأربعاء قالت فيه إنه "من الواضح أن أوبك بلس تتحالف مع روسيا". ويوم الخميس، 6 أكتوبر/تشرين الأول، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن إن الولايات المتحدة "تُراجع عدداً من الردود" على خطوة السعودية، مضيفاً أن البيت الأبيض "يتشاور عن كثب مع الكونغرس".
ماذا عن العلاقة مع بايدن؟
لكن رد الفعل الأمريكي وصفه بعض السعوديين بأنه "هستيري"، رغم أن إدارة بايدن قد تقدم دعمها لمشروع قانون NOPEC المدعوم من الحزبين، والذي قد يجعل أعضاء أوبك بلس عرضة لدعاوى قضائية لمكافحة الاحتكار برفع الحصانة عن شركات النفط الوطنية التابعة للمنظمة، بحسب تحليل الشبكة الأمريكية.
يقول محمد اليحيى، الباحث البارز في معهد هدسون بواشنطن العاصمة: "ردود الفعل من الدوائر السياسية في واشنطن مبالغ فيها. والسعودية يهمها ألا تتأثر أوبك بلس بالسياسة، وأن تكتفي بالتركيز على المسائل الفنية".
وذكر تقرير لصحيفة فايننشال تايمز، الأحد، 9 أكتوبر/تشرين الأول، أن وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، وصفت قرار مجموعة أوبك+ بأنه "غير مفيد وغير حكيم" بالنسبة للاقتصاد العالمي، وخاصة الأسواق الناشئة، وقالت يلين في تصريحات للصحيفة "نحن قلقون للغاية بشأن الدول النامية والمشاكل التي تواجهها".
وقال مسؤولون حكوميون وخبراء في واشنطن والخليج إن قرار مجموعة أوبك+ خفض إنتاج النفط، رغم المعارضة الأمريكية الشديدة، زاد من الضغوط على العلاقات المتوترة بالفعل بين البيت الأبيض في عهد بايدن والعائلة المالكة في السعودية، التي كانت يوما أحد أقوى حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط.
وقالت المصادر، التي يزيد عددها على 10، في مقابلات مع رويترز إن البيت الأبيض ضغط بشدة لمنع أوبك من خفض الإنتاج. والسبب هو أن بايدن كان يأمل في الحيلولة دون ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة مرة أخرى قبل انتخابات التجديد النصفي التي يكافح فيها حزبه الديمقراطي للحفاظ على أغلبيته في الكونغرس، كما تريد واشنطن الحد من عوائد الطاقة الروسية في أثناء الحرب في أوكرانيا.
ومارست الإدارة الأمريكية ضغوطاً على أوبك+ لأسابيع. وفي الأيام الأخيرة، حث مسؤولون أمريكيون كبار في قطاعات الطاقة والسياسة الخارجية والاقتصاد نظراءهم في الخارج على التصويت ضد خفض الإنتاج، وفقاً لمصدّرين مطلعين على المناقشات.
وسافر آموس هوكشتاين، كبير مبعوثي بايدن لشؤون الطاقة، برفقة مسؤول الأمن القومي بريت ماكجورك، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيم ليندركينج، إلى السعودية الشهر الماضي لمناقشة قضايا الطاقة، ومن بينها قرار أوبك+. لكنهم أخفقوا في منع خفض الإنتاج، تماماً مثلما حدث مع بايدن بعد زيارته للمملكة في يوليو/تموز.
وقال مصدر مطلع على المناقشات إن المسؤولين الأمريكيين "حاولوا تصوير الأمر على أنه "نحن مقابل روسيا"، وأخبروا نظراءهم السعوديين بأن الرياض عليها أن تختار، مضيفاً أن هذه الطريقة باءت بالفشل، ومشيراً إلى أن السعوديين ردوا بأنه إذا أرادت الولايات المتحدة مزيداً من النفط في الأسواق، فعليها أن تبدأ في زيادة إنتاجها، فالولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، لكنها أيضاً أكبر مستهلك للخام.
الأمير عبد العزيز بن سلمان قال: "أولاً وأخيراً يهمنا مصالح المملكة العربية السعودية، ثم مصالح الدول التي وثقت بنا وكانت ولا تزال أعضاء في أوبك وتجمع أوبك+".، وأضاف للتليفزيون السعودي أن أوبك ترعى مصالحها "ومصالح العالم؛ لأن لدينا مصلحة في دعم تنمية الاقتصاد العالمي وتوفير الطاقة بطريقة مثلى".
إلى أين تتجه أسعار النفط إذاً؟
بعيداً عن التأثير السلبي لقرار السعودية الأخير على العلاقة مع الإدارة الأمريكية الحالية، فإن الواضح أن هناك إصراراً سعودياً على عدم السماح بتكرار الانخفاض الحاد في أسعار النفط، كما كان يحدث من قبل، وفي ظل التحالف بين الرياض وموسكو في هذا السياق، ربما تكون هناك أدوات قليلة أو معدومة لدى واشنطن لتحدي هكذا تحالف في مجال النفط.
وأثار تعامل واشنطن مع قضية الاتفاق النووي الإيراني وتوقفها عن دعم العمليات العسكرية الهجومية للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن غضب المسؤولين السعوديين، بجانب الإجراءات الأمريكية ضد روسيا بعد غزوها أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
الأمير عبد العزيز قال لشبكة بلومبرغ بعد قرار أوبك إن الضغط الأمريكي من أجل فرض سقف لأسعار النفط الروسي يثير حالة من الضبابية بسبب "نقص التفاصيل وعدم الوضوح" حول كيفية تنفيذه. وقال مصدر، أطلعه مسؤولون سعوديون على الأمر، إن المملكة تعتبر ذلك "آلية تسعير لا تحكمها السوق، يمكن أن يستخدمها تحالف المستهلكين ضد المنتجين".
وكان بيع 180 مليون برميل من النفط من الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي، بتوجيه من بايدن في مارس/آذار، قد أدى إلى الضغط على أسعار النفط. وردت السعودية في مارس/ آذار أيضا، إذ قالت أوبك+ إنها ستتوقف عن استخدام بيانات وكالة الطاقة الدولية، وهي هيئة مراقبة نفطية غربية، بسبب مخاوف أطراف على رأسها السعودية من أن يكون للولايات المتحدة نفوذ أكبر من اللازم عليها.
وقال وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، عادل الجبير، في تصريحات لقناة فوكس نيوز الإخبارية الجمعة، عند سؤاله عن الانتقادات الأمريكية، "السعودية لا تسيس النفط أو القرارات المرتبطة بالنفط". وأضاف "مع كامل الاحترام، سبب ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة هو نقص التكرير المستمر منذ أكثر من 20 عاماً".
وقال بِن كاهيل، وهو زميل كبير في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، لـ"رويترز" إن السعوديين يأملون في أن تمكن التخفيضات مجموعة أوبك+ من السيطرة على أسعار النفط وتضمن عائدات نفطية كافية لحماية بلادهم من الركود، وأضاف "مخاطر الاقتصاد الكلي تزداد سوءا باستمرار، لذا يتعين عليهم الرد. إنهم يدركون أن التخفيضات ستُغضب واشنطن، لكنهم يديرون السوق".
الخلاصة هنا هي أن المواجهة بين واشنطن من جهة، والرياض وموسكو من جهة أخرى لخفض أسعار النفط، قد حسمت في هذه الجولة لصالح الطرف الثاني، ومن غير المرجح أن يستسلم الطرف الأول، رغم أنه لا يملك من أمر النفط الشيء الكثير، مما يعني أن "المواجهة" ستظل مستمرة على المدى القصير والمتوسط على الأقل.