لم يعد المقدسي، جودت السلايمة، يستطيع مغادرة منزله من بابه الرئيسي، فهو يضطر إلى عبور قضبان من الخشب والحديد تربط سقف منزله بالمباني المجاورة، ومن هناك يخرج إلى البلدة القديمة في القدس المحتلة.
وتأتي عائلة السلايمة من بين 36 عائلة رفضت مغادرة منازلها في حوش النيرسات (حي الممرضات) داخل البلدة القديمة، بعد أن أغلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي المنطقة، وأعطت سكانها إنذارات تقضي بإخلاء بيوتهم المتصدعة، بدعوى ترميمها وإجراء الإصلاحات الأساسية لمنع انهيارها، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني الذي رصد معاناة هذه العائلات المقدسية.
الحفريات الإسرائيلية تدمّر بيوت المقدسيين
مع ذلك، يقول أهالي الحي إنهم ليسوا الملومين في تصدع المنازل، ولم يكن الأمر بسببهم. ويتهم سكان الحي الذين يشكل تعدادهم 120 شخصاً، سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإلحاق أضرار بالبنية التحتية للمنازل وإحداث تصدعات جسيمة بها، بسبب أعمال حفر تحت الأرض لتغيير أنابيب صرف لم تُستبدل منذ عام 1978.
في بداية عام 2020، بدأت شركة "جيحون" الإسرائيلية للمياه والصرف الصحي، أعمالَ الحفر في المنطقة لتغيير أنابيب المياه. ثم تسبب انفجار أحد الأنابيب الموجود أسفل حوش النيرسات التاريخي في حدوث تسرب غزير للمياه تحت الأرض، فتحركت التربة والحجارة تحت البيوت، وانهارت الأرضيات في منازل الحي، وآل الأمر إلى حدوث تصدعات في جميع منازل الحي وأزقته، وأضرار جسيمة أخرى.
أصدرت بلدية الاحتلال في حينه أوامر إخلاء لجميع المنازل في الحي، وأمهلت السكان 30 يوماً للمغادرة، وأكَّدت في تقريرها الهندسي أن المنازل مهددة بالانهيار، وأن الإقامة فيها تعرِّض السكان والبيوت المجاورة للخطر.
تضمن قرار الإخلاء أيضاً بنداً ينص على غرامة قدرها 1050 دولاراً أمريكياً على الساكن الذي لا يلتزم بتنفيذ قرار الإخلاء لمنزله بحلول الموعد النهائي الوارد في إخطار الإنذار، علاوة على 45 دولاراً أمريكياً عن كل يوم يمر من دون إخلاء المنزل بعد انتهاء المهلة البالغة 30 يوماً.
اشتد لذلك غضب سكان الحي الذين وجدوا أنفسهم فجأة واقعين بين خيارين صعبين، إما الإخلاء وإما العيش في منازل قد تنهار فوق رؤوسهم في أي لحظة. فاضطر معظمهم إلى المغادرة، وهم على أمل باستعادة منازلهم في غضون أشهر، والتمكن من العودة إليها.
لكن هذا لم يحدث رغم مرور عامين ونصف على انهيار أرضية المنازل وتصدع جدرانها. فقد تأخر إقرار الميزانيات المخصصة للمشروع، ولم يقع الاختيار على المقاولين الذين سيتولون ترميم مداخل الحي وممراته ومنازله.
خطر يومي يهدّد حياة سكان الحي المطل على المسجد الأقصى
يعيش جودت السلايمة مع زوجته وابنته المولودة حديثاً في شقة علوية لمبنى متهدم يضم ثلاثة طوابق، وتعيش بقية عائلته في المنزل ذاته أيضاً.
قال جودت لموقع Middle East Eye: "لقد ضاق بنا الحال وتعرضنا لأمور صعبة ومرعبة خلال حمل زوجتي وولادتها. والآن أحمل ابنتي البالغة من العمر شهراً، وأضطر إلى اتخاذ الطريق الخطير ذاته للخروج من الحي، فالمدخل ما زال مغلقاً وعملية الترميم لم تتم".
مع خطورة الأمر وصعوبة تسيير جودت لأمور معيشته اليومية، فإنه يرفض مغادرة المنزل الذي يحظى بموقع يقول صاحبه إنه لا يقدر بثمن. ومن مجلسه بجوار نافذة غرفة المعيشة المطلة على المسجد الأقصى وقبة الصخرة، قال جودت: "هذا المنظر لا مثيل له في العالم".
وحتى لو أراد جودت مغادرة منزله، فإنه يقول إنه لا يستطيع تحمل الإيجارات الغالية للمنازل المماثلة في أماكن أخرى من القدس، والتي تقدَّر في المتوسط بما لا يقل عن 1200 دولار أمريكي كل شهر.
بيوت تعود للعصر المملوكي وأقبيتها للصليبي
تعيش رحاب السلايمة، جدة جودت، في منزل صغير آخر، مع والديه وأطفالهما. وقالت رحاب، التي تبلغ من العمر 75 عاماً، إنها تعيش في هذا البيت منذ 52 عاماً، ولذلك فإنها ترفض المغادرة، لأن "كل من يعيش في البلدة القديمة يرتبط بها، ولا يطيق العيش في مكان آخر".
من جهته، أشار روبين أبو شمسية، الباحث في تاريخ القدس، إلى أن القاعدة الأساسية للمباني في حوش النيرسات تعود إلى زمن العصر المملوكي، ثم بني الطابق الثاني من المباني في أواخر العهد العثماني، وتوجد تحت الأرض أقبية من العصر الصليبي.
أمَّا اسم الحي، فيقول أبو شمسية إنه كان يُطلق على الحي في الماضي اسم "حي النشاشيبي"، إلى أن جاء الانتداب البريطاني، وكثرت الانتفاضات في ذلك الوقت، فكان يقع الكثير من الضحايا والجرحى، فاجتمعت مجموعة من ممرضات المنطقة، وأنشأن مركزاً لمعالجة الجرحى والمرضى، فاكتسب الحي اسمه منهن. وقيل أيضاً إن أول قابلة حصلت على تصريح قانوني بمزاولة المهنة في القدس جاءت من ذلك الحي.
والتقى موقع MEE رشيد زاهدة، أحد سكان الحي ويسمي نفسه "حارس حوش النيرسات"، وقد كان زاهدة ممن رفضوا المغادرة خوفاً من الاستيلاء على أملاكه وأملاك جيرانه، أو أن تصبح بيوتهم فريسة سهلة للمستوطنين الإسرائيليين.
انقطاع خدمات المياه والصرف الصحي
قال زاهدة إن انفجار أنبوب المياه أسفل الحي مطلع عام 2020 كان حادثاً خطيراً، لكنه لم يكن الأول، فقد سبقته حوادث وتصدعات أخرى في المنازل، وقعت بسبب الحفريات الإسرائيلية تحت أرض البلدة القديمة.
أشار زاهدة إلى أن الأهالي طلبوا المساعدة من الجهات الرسمية الفلسطينية والمقاولين العرب في القدس، لدفع بلدية الاحتلال بعيداً عن التدخل في ترميم الحي، ولكي لا يحاول هؤلاء الاقتطاع منه والاستيلاء عليه.
وقال زاهدة إن المعيشة في منزله تزداد صعوبة كل يوم، فقد انقطعت خدمات المياه والصرف الصحي في الحي بعد بدء أعمال الحفر منذ مدة وجيزة، وانتشرت الفئران في الحي، ومع ذلك فهو يرفض مغادرة منزله، "فزوجتي حامل بطفلنا الثالث، وتعيش الآن مع طفلينا في منزل أختها، أما أنا فحارسٌ على منزلي ومنازل أهل الحي".
وأضاف زاهدة: "أنا مصرّ على البقاء في بيتي، لأنني وُلدت هنا، ولن أغادر هذا المكان إلا إلى القبر. لقد تلقينا غرامة قدرها 300 دولار قبل أسبوعين، لأننا لم نُصلح المنزل، والقيود تحيط بنا من كل ناحية".
التهرب من المسؤولية
في غضون ذلك، قال سامح أبو عصب، المتحدث بالنيابة عن سكان حي النيرسات، لموقع MEE، إن منازل المنطقة كانت متداعية بالفعل بسبب قدم بنائها، فالأسمنت ودعائم الحديد لم تكن تُستخدم بعدُ عندما بُنيت هذه المنازل.
وقال المحامي مهند جبارة، الذي استعان به سكان الحي موكلاً عنهم، إنه اشتكى في أوائل عام 2020 للبلدية وشركة جيحون، وحمَّلهم المسؤولية عن الأضرار الجسيمة التي تسبب فيها أعمال الحفر في البنية التحتية، لكنهم أنكروا مسؤوليتهم وأصدروا أمراً بإغلاق الحي.
بناء على رغبة السكان، قرر المحامي مطالبة المؤسسات الفلسطينية بأن تأخذ على عاتقها عمليات ترميم الحي، ورفعَ دعوى قضائية على بلدية الاحتلال والشركة التابعة له لدفع نفقات الترميم الضخمة، والتي تشمل تكاليف ترميم المدخل والممرات الداخلية والمنازل.
وقال جبارة إنه على الرغم من التأخير في وضع الميزانية وإقرارها، فإن عملية الترميم بدأت أخيراً في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/أيلول، وكانت البداية بمدخل الحي، على أن تتوسع بعد ذلك لتشمل جميع منازله.
مع ذلك، أشار جبارة إلى أن بلدية الاحتلال وجَّهت تهماً جنائية ضد الأهالي بحجة أنهم لم يجددوا منازلهم في السابق، وهي محاولة للتهرب من المسؤولية في حال وقوع حوادث جديدة.
أما فيما يتعلق بخطورة بقاء الحي شبه خالٍ من السكان، في ظل الحاجة إلى الترميم الفوري، قال جبارة لموقع MEE: "إن أمراً كهذا لن يكون فيه خطورة على أي حي وسكانه بأي مدينة في العالم إلا في مدينة القدس، وذلك بسبب الطموحات الاستيطانية في البلدة القديمة والموقع الاستراتيجي لحوش النيرسات، وحساسية قربه من حائط البراق والمسجد الأقصى".