تشهد انتخابات الاتحاد الدولي للاتصالات منافسة من نوع خاص بين روسي وأمريكية، فلماذا تعتبر تلك المنافسة الشرسة مهمة بالنسبة للعالم أجمع؟ التحكم في الإنترنت يحمل الإجابة.
ويستضيف قصر البرلمان في العاصمة الرومانية بوخارست انتخابات بالغة الأهمية، إذ سيجري داخله انتخاب الأمين العام للاتحاد الدولي للاتصالات يوم 29 سبتمبر/أيلول 2022، على هامش مؤتمر مندوبي الدول الأعضاء الذي يُعقد كل أربع سنوات.
وألقى تقرير لصحيفة The Economist البريطانية الضوء على ما تعنيه تلك الانتخابات بالنسبة لمعركة السيطرة على الإنترنت، بين الحكومات من جهة وشركات التكنولوجيا من جهة أخرى، وما قد يعنيه ذلك بالنسبة لمستخدمي الشبكة العنكبوتية، التي أصبحت لا غنى عنها لحياة أكثر من ثلثي سكان الكوكب.
ولا خلاف على أن اختيار القصر، الذي افتُتِح في الثمانينيات على يد الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو أثناء الحرب الباردة، مكاناً لاستضافة الحدث مسألة رمزية في حد ذاتها، حيث ستشهد الانتخابات مواجهةً بين أمريكيةٍ وروسيّ على المنصب وسط أجواءٍ من الشكوك المتبادلة. حيث تشغل المرشحة الأمريكية دورين بوغدان مارتن منصب مديرةٍ في الاتحاد، بينما يشغل منافسها الروسي رشيد إسماعيلوف منصباً تنفيذياً في شركة اتصالات، وكان نائباً سابقاً لوزير الاتصالات والإعلام الروسي.
ما قصة الاتحاد الدولي للاتصالات؟
ستحظى هذه الانتخابات بمتابعةٍ مكثفة حتى بعيداً عن تعقيدات الحرب الجارية في أوكرانيا، لأنها تمثل مرحلةً جديدة في الصراع المتواصل حول طريقة تنظيم العالم الرقمي مستقبلاً. فهل سنتمتع في المستقبل بالإنترنت الحر اللامركزي الذي نعرفه، والذي تشارك في حوكمته جماعات "أصحاب المصالح المتعددين" عن طريق التوافق؟ أم هل سيبدو الإنترنت أشبه بنظام الاتصالات الهاتفية القديم، الذي يتمثل في كيانٍ مركزي يخضع لسيطرة الحكومات الوطنية بصورةٍ كبيرة؟
توم ويلر، من معهد Brookings Institution، أوضح القصة قائلاً: "تعتبر انتخابات الاتحاد الدولي للاتصالات بمثابة انتخابات تمهيدية". حيث ستساعد نتائجها في رسم ملامح المستقبل عن طريق أصوات الدول الـ193 الأعضاء في الاتحاد.
ربما يبدو الاتحاد الدولي للاتصالات كمسرحٍ غريب لهذه النوعية من الانتخابات شديدة التنافسية. إذ تأسس عام 1865 لتنظيم برقيات التلغراف الجديدة، وانشغل في المقام الأول بالمهام الفنية اللازمة مثل وضع معايير شبكات الهاتف، وتخصيص المدارات للأقمار الصناعية، وتقسيم الطيف الراديوي بين مختلف المستخدمين.
ولطالما تباهى الاتحاد بكونه من أكثر منظمات الأمم المتحدة براغماتية، حيث يجري اتخاذ كافة القرارات بالإجماع تقريباً. ونجح الاتحاد حتى أثناء الحرب الباردة في التفاوض على توقيع لوائح الاتصالات الدولية التي لا يزال معمولاً بها إلى اليوم بصورةٍ كبيرة.
بينما لم يضع المهندسون احتياجات الحكومات في اعتبارهم عندما طوروا الإنترنت في سبعينيات القرن الماضي، إذ كانوا يرغبون في بناء شبكةٍ مرنة. لكن "نموذج أصحاب المصالح المتعددين" كان يعني أن جميع الأطراف المعنية يمكنها أن تدلي بدلوها في طريقة تطوير الشبكة، بما في ذلك الحكومات وفرق العمل الفنية المتطوعة وكبار مقدمي الخدمات.
لهذا حاولت بعض الحكومات استرداد بعض سلطتها المفقودة عندما بدأ الإنترنت انتشاره واسع النطاق في التسعينيات، وذلك عن طريق إنشاء وإدارة شبكات "الإنترنت المجزأة" التي تمثل شبكات وطنية تخضع لقواعد مختلفة. وكان نهج الصين هو الأكثر شمولاً، حيث اعتمد على مزيجٍ من الفلترة الآلية (جدار الحماية العظيم) والرقابة البشرية الشاقة لمحاولة منع المحتوى غير المرغوب. وسارت دول أخرى على نهج الصين مؤخراً، ومنها إيران والسعودية وروسيا.
معركة التحكم في الإنترنت
لكن رد الفعل الحكومي على ظهور الإنترنت دخل مرحلةً جديدة اليوم بحسب إيميلي تايلور، رئيسة شركة Oxford Information Labs للاستخبارات السيبرانية، التي أوضحت أن الطموح لم يعد مقتصراً على التحكم في الإنترنت الوطني، بل أصبحت هناك رغبة في تغيير شخصية الإنترنت العالمي. ما يعني توسيع الرقابة أو حتى نقل مهمة حوكمة الإنترنت من منظمات أصحاب المصالح المتعددين إلى منظمةٍ واحدة متعددة الأطراف لتحكم فيها الحكومات بأحكامها، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات.
وفي هذا السياق، كانت الخلافات بين أستراليا وفيسبوك، والتي أدت إلى فرض عملاق منصات التواصل الاجتماعي "البلوك" على القارة بأكملها، نموذجاً على أحد أوجه المسار التصادمي بين شركات التكنولوجيا العملاقة والحكومات، والذي يهدد بأن شبكة الإنترنت العالمية ربما تتفتت في نهاية المطاف.
فهناك دول أوروبية، كبريطانيا، تدرس تشريعات يمكن أن تؤدي لفرض حظر مؤقت على شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تخالف قوانين تلك الدول، وكانت الولايات المتحدة نفسها على وشك أن تحظر تطبيقي تيك توك وويتشات WeChat في إطار حربها التجارية مع الصين، أما الهند فقد حظرت بالفعل تطبيقي تيك توك وويتشات وعشرات التطبيقات الأخرى، وهناك نزاع قائم بين نيودلهي وتويتر أيضاً.
لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الحكومات تضغط من أجل بناء هيكلٍ جديد للإنترنت، حتى تصبح الشبكات أكثر قدرةً على مراقبة ما يحدث، وحتى تصبح للمستخدمين هويات دائمة. وفي حال تحقق هذا الطموح، فسوف تسهل مهمة الحكومات الاستبدادية في العثور على من يسخرون منهم بميم إنترنت أو يدعون لإقامة الاحتجاجات، قبل إلقاء القبض عليهم أو إخفائهم قسرياً.
وتجلّى هذا الطموح للمرة الأولى قبل 10 سنوات، عندما حاولت مجموعةٌ من الدول بقيادة روسيا أن تُوسّع نطاق اختصاص الاتحاد الدولي للاتصالات حتى يغطي شبكة الإنترنت، وذلك خلال اجتماعٍ عُقِدَ في دبي لتحديث لوائح الاتصالات الدولية. ثم بدأت شركة Huawei الصينية في طرح مقترح "بروتوكول الإنترنت الجديد" عام 2019، وهو عبارة عن مجموعة تقنيات ستنقل المعايير التي تضعها الشركات الصينية من المحلية إلى العالمية.
فشلت هذه الجهود، لكن روسيا والصين لم تتوقفا عن المحاولة. حيث واصلت روسيا محاولاتها في مفاوضات الأمم المتحدة. بينما قسّمت الصين مقترح "بروتوكول الإنترنت الجديد" إلى عدة أجزاء صغيرة، وأعادت تسميته، ثم أعادت طرحه على مختلف المنظمات المختصة بوضع المعايير الدولية. وأوضحت إيميلي أن هذه الحملة جاءت مدفوعةً بالرغبة التي لا تتوقف في البقاء على اتصال. لكنها حذرت من أن تطبيق المعايير الصينية "يعرضنا لخطر خسارة الإنترنت المرن، والخفيف، والقابل للتشغيل المتوافق الذي نتمتع به حالياً".
الروسي أم الأمريكية؟
يمكن القول إن كل ما سبق يُفسّر أهمية هوية الشخص الذي سيقود الاتحاد الدولي للاتصالات خلال السنوات المقبلة، بغض النظر عن السلطات المحدودة للأمين العام. وفي حال فوز دورين، فستكون هذه إشارة واضحة على أن غالبية الدول لا تريد التحرك في الاتجاه الذي رسمته روسيا والصين. أما انتصار إسماعيلوف فسيعني دفع أجندة البلدين أكثر على الأرجح.
وتتمتع دورين بالمؤهلات اللازمة لهذه المنصب. حيث عملت في الاتحاد الدولي للاتصالات لنحو 30 عاماً. وحظيت بإشادة واسعة على رئاستها خلال السنوات الثلاث الماضية لمكتب تنمية الاتصالات، أحد أقسام الاتحاد الثلاثة.
ولا عجب في تصريح دورين بأنها لا تهدف للخروج عن المألوف كثيراً، بعد حياتها المهنية الطويلة بعيداً عن أروقة المناصب الحكومية. حيث صرحت بأنها تريد أن تواصل ما بدأته كمديرة لمكتب تنمية الاتصالات، وهو توصيل المزيد من سكان العالم بالإنترنت.
وليس إسماعيلوف بغريبٍ على الاتحاد الدولي للاتصالات أيضاً. إذ قاد الوفد الروسي للمنظمة بصفته نائب وزير الاتصالات الروسي، وترأس مجلس الاتحاد الدولي للاتصالات عام 2018. وقضى غالبية حياته المهنية كمسؤولٍ تنفيذي في الشركات العملاقة التي تصنع معدات الاتصالات مثل Ericsson، وNokia، وHuawei قبل انضمامه للحكومة عام 2014.
لكن منصة إسماعيلوف الانتخابية تعتبر سياسيةً أكثر من منافسته. إذ يؤمن هو الآخر بأن هذه الانتخابات ستكون حاسمة. حيث قال إن التكنولوجيا أصبحت أكثر انتشاراً من أي وقت مضى، وإن الاتحاد الدولي للاتصالات هو المنصة الوحيدة التي تُتيح للدول "رفع أصواتها والدفاع عن سيادتها". أما البديل من وجهة نظره فسيكون عالماً رقمياً تواصل أمريكا وشركاتها الهيمنة عليه. وسيعمل بصفته أميناً عاماً من أجل تحويل الاتحاد الدولي للاتصالات إلى الوجهة الرئيسية لنقاش المسائل الحاسمة في عالم الاتصالات واتخاذ القرارات بشأنها. أما على صعيد بروتوكول الإنترنت الجديد، فقد أوضح إسماعيلوف أن الوقت لا يزال مبكراً على مناقشة الأمر لأن تفاصيله لم تتضح بعد بشكلٍ كامل، لكن "انعدام الحوار البناء" بين الأطراف المشاركة قد يؤدي لاندلاع "حرب معايير".
وتستمر الحملة المكثفة لكلا المعسكرين حتى اللحظات الأخيرة. إذ تستطلع دورين آراء حكومات العالم منذ 18 شهراً. كما أنشأت وزارة الخارجية الأمريكية مكتباً لمساعدتها في حملتها الانتخابية بمشاركة العديد من الوكالات الأخرى، في جهودٍ وصفها المطلعون بأنها تأتي على "مستوى الحكومة بالكامل".
وربما كانت حملة إسماعيلوف أقل تنظيماً. إذ لم يبدأها بشكلٍ ملائم سوى في مايو/أيار بعد تعافيه من كوفيد-19. وحضر منذ ذلك الحين مؤتمراً للاتحاد الإفريقي للاتصالات في الجزائر، وعدة تجمعات صناعية محلية مشابهة في قيرغيزستان والسعودية. كما حظي بمساعدةٍ كبيرة من الوزارة الروسية التي كان يعمل بها.
لكن نتيجة الانتخابات تظل غير مؤكدة حتى في هذه المرحلة المتأخرة من الحملات الانتخابية. ويتفق المراقبون على أن النتيجة ستكون متقاربة. ولم يتضح بعد ما إذا كان الهجوم الروسي على أوكرانيا سيضر بفرص إسماعيلوف. حيث صوت غالبية أعضاء الاتحاد في مارس/آذار لصالح استبعاد بعض الممثلين الروس من المناصب القيادية في الاتحاد. لكن جاستن شيرمان من مؤسسة Atlantic Council البحثية أوضح أن العديد من "الدول المتأرجحة" امتنعت عن المشاركة في ذلك التصويت، ومنها البرازيل والهند. لهذا يعتقد شيرمان أن الحرب في أوكرانيا لن تؤثر كثيراً على فرص إسماعيلوف.
ويبدو بغض النظر عن النتيجة أن الدعم الرسمي الأمريكي لدورين ودعم الاتحاد الأوروبي لتوماس لاماناوسكاس، مرشح نائب الأمين العام، هما خير دليل على تعامل الطرفين بجدية مع الاتحاد الدولي للاتصالات والدبلوماسية التكنولوجية عموماً، وفقاً للسفيرة الأمريكية السابقة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كارين كورنبلو. وأوضحت كارن أن إقناع الدول الأخرى بمزايا الإنترنت المفتوح على الطراز الأمريكي يستوجب التعامل بجدية أكبر مع شكاوى تلك الدول من تعدي شركات التقنية الأمريكية على سيادتها الرقمية مثلاً.
وظل تركيز سياسة الإنترنت الدولية داخل الولايات المتحدة منحصراً لسنوات طويلة داخل مُثل التسعينيات، التي تنص على أن "زيادة التواصل بين الناس هي كل ما نحتاجه لنشر الديمقراطية". لكن كارين أوضحت أن الولايات المتحدة بدأت تدرك الآن متأخرةً أن الإنترنت المجاني والمفتوح للجميع ليس حتميةً تقنية، بل شيئاً يجب عليها القتال من أجله.