شكلت دعوات تشارلز إلى التقارب بين الأديان عندما كان أميراً، مسألة إشكالية كبيرة، خاصة في الأوساط البريطانية المسيحية، حيث تعرض للنقد من قبل كثير من المحافظين البريطانيين، وبعد أن أصبح ملكاً لبريطانيا، فإن تشارلز مضطر لأن يصبح أكثر حذراً في هذا الملف، خاصة العلاقة مع الإسلام.
وبالفعل لم يتأخر ملك بريطانيا الجديد تشارلز الثالث عن اغتنام أول فرصة أُتيحت له لإعلان الولاء للكنيسة الأنجليكانية، وقد بادر في أول خطاب له إلى الأمة بالحديث عن "إيمانه عميق الجذور".
وأصبح الملك الجديد "الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا الأنجليكانية"، وحامل لقبها البارز "المُدافع عن الإيمان"، وكان من بين أول أعماله الأسبوع الماضي أن دعا زعماء الأديان الكبرى في المملكة المتحدة إلى اجتماع في قصر باكنغهام.
وصف تشارلز بريطانيا في تصريح له إلى المجتمعين بأنها "مجتمع لمختلف الطوائف"، وأمةٌ متنوعة تضم بين جنبيها شتى الأديان والمعتقدات. وقال إنه يتعهد بحماية هذا التنوع "الذي يشمل حماية مساحة حرية العقيدة نفسها"، و"أعاهد على احترام من يتبعون مسارات روحية أخرى، ومن يسعون إلى عيش حياتهم بحسب مبادئ العلمانية".
لا شك في أن ما تحدث عنه تشارلز يمكن وصفه بأنه نموذج منطقي وعملي متوافق ثقافياً وسياسياً لملكٍ على رأس مجتمع متعدد الثقافات في مطلع القرن الحادي والعشرين.
لكن بروز التنافس بين الديانات المختلفة ينطوي على ضربٍ من الصراع المتوقع، والذي يتعين على النظام الملكي أن يتجنبه إذا كان يريد الازدهار، والنجاة من عوادي الزمان، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
قد يُثني بعض الناس على رؤية الملك للإيمان بالأديان، وقد يستنكره أتباع دين ما وينفرون منه. وربما نرى كثيراً من أتباع المسيحية والأديان الأخرى، وحتى الملحدين، يعارضون هذه الرؤية الواسعة، ويقولون إنها "لا توافقهم".
وليس من الضرورة أن يكون ذلك مبعثه التعصب الأعمى، وإنما قد يقتضيه ما قد يراه أتباع الأديان من أن هذا قد يخالف عقائدهم.
ويرى تقرير الصحيفة البريطانية أن المسيحية وغيرها من الأديان، مثل الإسلام، فضلاً عن الإلحاد، لا يتوافق بعضها مع بعض، وجميعها منهمك في تنافس لا هوادة فيه على قلوب الناس وعقولهم في جميع أنحاء العالم.
تشارلز يريد أن يكون مدافعاً عن الإيمان بصفة عامة
تستدعي تصريحات الملك قضية فلسفية وروحية بالغة الأهمية لطالما عُني بإيجاد سبيل للتعامل معها. وقد أشار من قبل إلى طريقة تفكيره بشأن الأمر في لقاء مع المذيع البريطاني جوناثان دِمبلبي عام 1994، فقال إنه يريد أن يكون "مدافعاً عن الإيمان" عموماً، وليس مدافعاً عن إيمان معين، وهي رؤية تتوافق مع ما قاله عن دوره حيال كنيسة إنجلترا.
ظلت هذه التصريحات تطارد تشارلز منذ قالها بالذم والاستنكار من كثيرين. فقد وصفها معارضون بأنها تلفيق فضفاض للأيديولوجيات والمعتقدات الأخرى، تهوِّن من شأن ادعاءات التفرد التي تقوم عليها المسيحية، التي يؤمن بها الكثير من المسيحيين.
ثم اضطر للقول إن المسيحية الأنجليكانية مظلة حماية لجميع الأديان والمعتقدات الأخرى
حاول تشارلز في عام 2015 أن يتدارك ما أحدثته تصريحاته من أثر تداركاً دقيقاً ومعقولاً، فقال في لقاء مع إذاعة BBC Radio 2 إنه كان يقصد أن يقول إنه يريد أن تكون المسيحية الأنجليكانية مظلة حماية لجميع الأديان والمعتقدات الأخرى.
تبدو هذه الرؤية جديرة بالثناء أول وهلة، من قبل المسيحيين الأنجليكانيين، وقد قالت والدته إليزابيث الثانية شيئاً مشابهاً لذلك، وإن أبانت عنه بمزيدٍ من الدقة والوضوح.
ومع ذلك، فإن هذه الرؤية المضيافة لا يستقيم منطقها إلا بموافقة المعتقدات الأخرى، لا سيما الإسلام والإلحاد الشعبوي، حيث إن كلاً منهما يزداد ثقة وعدد في الأتباع في السنوات الماضية، وباتا أكثر قوة وأبعد طموحاً فيما يريده لنفسه من نفوذ في المستقبل، حسب الصحيفة البريطانية التي تقول إنه لم يعد نموذج مظلة الحماية (حتى وإن بدا مضيافاً للجميع) يصلح للحقائق القائمة على أرض الواقع.
المقصود من ذلك أن ما تلاه تشارلز في بيانه الأسبوع الماضي لا تقتصر صعوبة تحقيقه على ما أثاره من معارضة دينية وثقافية فحسب، وإنما معضلته الأساسية أن هذا الكرم الظاهر يتجاهل ما تعتقده معظم الديانات الكبرى عن نفسها ويتناقض معها.
الإسلام والمسيحية بالأخص لديهما معتقدات راسخة منذ زمن طويل بشأن طبيعية الإله ومفهوم الإنسان. وعلى الرغم مما قد يجمعهما من ملامح تشابه وبقايا تداخل، فإن كلاً منهما يختلف عن الآخر في نقاط أساسية وعصية على التفاوض.
إليك جذور روحانية تشارلز.. ولماذا تقلق الدوائر المتشددة بالكنيسة؟
علاوة على ذلك، فإن بعض الدوائر المتشددة داخل الكنيسة الأنجليكانية وخارجها لطالما أبدت مخاوف من أن تشارلز مهتم بالروحانية عموماً أكثر من كونه مهتماً بتمثيل المسيحية خصوصاً.
عندما كان تشارلز أميراً لويلز، كان يرى أن منهج إعداده لنفسِه واستعداده لمهامه يجب أن يتضمن رحلات اكتشاف فلسفية، واعتناء بالدفاع عن قضايا مختلفة. وقد تعرض تشارلز في شبابه لتأثير الكاتب الجنوب إفريقي لورنس فان دير بوست، والأخير تلميذ مخلص لأفكار عالم النفس الشهير كارل يونغ، وناشر لها بين الناس.
يرى يونغ أن الدين قدَّم لغة عالمية لاكتشاف الذات وإدراك غاياتها. ولم تكن المحتويات المحددة للأديان هي شاغل يونغ، وإنما كان اشتغاله متعلقاً بكون هذه الأديان وسيلة لرحلة الإنسان داخل ذاته.
وقد شهد العالم الغربي حرباً أهلية داخل الكنائس، بين من يؤمنون بشمولية الأديان وتساويها، وبين من يدافعون عن انفراد الأديان وحصرية الحق فيها. وكانت الكنيسة الأنجليكانية من بين أبرز الكنائس التي كادت تنقسم على نفسها بسبب هذا الخلاف.
البعض قلل من مسيحيته
وهكذا، فإن إعلان تشارلز عن اهتمامه بالإيمان عموماً، وليس المسيحية الأنجليكانية خصوصاً، جعل كثيراً من المسيحيين المحافظين يصنفونه تابعاً لأفكار يونغ أكثر من كونه مسيحياً.
الحقيقة أن النظام الملكي الذي ورثه تشارلز هو في حد ذاته أحد تجليات التحزب الديني وتنافس المعتقدات في الهيمنة على التاريخ واللغة، وهي أمور مضمرة في قسم ولائه للكنيسة، ورؤيتها هي ذاتها لنفسها.
والخلاصة أن الأيام وحدها هي الكفيلة بأن تكشف لنا موقع الملك الجديد بين الولاء للكنيسة وتمثيلها من جانب، وحرصه على الاعتدال بين المعتقدات المتنافسة من جانب آخر، وهي من ستكشف لنا أيضاً إن كانت أفكار تشارلز مجرد أماني، أم غير ذلك. لكن مهما كان من أمر، فإن منصب تشارلز الملكي يمنحه الفرصة لإنشاء جسور من التفاهم بين خطوط الصدع الدينية والفلسفية التي ثبت أنها مستعصية على التجاوز على مر التاريخ.