تكافح المصانع والشركات والعائلات في جميع أنحاء أوروبا للبقاء على قد الحياة؛ حيث يؤدي خنق روسيا لإمدادات الغاز الطبيعي في القارة الأوروبية إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات فلكية؛ مما أطلق العنان لعاصفة اقتصادية قاسية اختبرت التضامن الأوروبي بشأن حرب روسيا في أوكرانيا، وأثارت مخاوف من ركود قاسٍ وشيك، بحسب تقرير لوكالة رويترز.
وارتفعت أسعار الطاقة إلى عشرة أضعاف متوسطها خلال العقد الماضي؛ مما أدى إلى اختناق الصناعات الأوروبية، وتركت الأسر تعاني وحدها لدفع فواتيرها. ودفعت الكارثة تلك القادةَ الأوروبيين إلى البحث عن إجراءات طارئة في محاولة لخفض الأسعار وتقنين الغاز مع دخول الشتاء القارس.
وكل هذا يحدث من قِبل موسكو، لجعل أوروبا "تبكي" بسبب دعمها أوكرانيا في الحرب التي تشن عليها، كما تصف ذلك مجلة foreign policy الأمريكية.. فهل يمكن لأزمة الطاقة تقويض الدعم الغربي لأوكرانيا؟
حرب الطاقة الروسية تسحق أوروبا
تقول وكالة Bloomberg الأمريكية إن جميع الشركات في أنحاء أوروبا، من تلك التي تعمل في صناعة الألمنيوم كثيفة الاستهلاك للطاقة، إلى التي تعمل في صناعة الأسمدة، اضطرت إلى خفض الإنتاج أو حتى قررت الإفلاس في مواجهة الأسعار الجنونية؛ حيث تدرس المصانع الأوروبية ما إذا كانت ستغلق أو تقلل الإنتاج قبل حلول فصل الشتاء، لذلك يمكن أن يزداد الأمر سوءاً.
الناس لديهم فواتير كهرباء عالية بشكل صادم، وتكافح الشركات الصغيرة لدفع الفواتير؛ لذلك تحاول الحكومات الأوروبية حماية الأسر والشركات من ألم أكبر، عبر توجيه مئات المليارات من الدولارات إلى الإعانات، حيث تعكس المبالغ الضخمة من الأموال الحالة الاقتصادية الخطيرة للقارة والطبيعة غير المسبوقة للأزمة.
يقول أليكس مونتون، الخبير في أسواق الغاز العالمية في Rapidan Energy Group وهي شركة استشارية، إن ما تمر به أوروبا اليوم ليس عادياً، وإن ظروف السوق قاسية جداً، واصفاً ما يحصل لمجلة فورين بوليسي بأنه "حرب طاقة تشن على أوروبا".
على مدى عقود، قدمت روسيا جزءاً كبيراً من الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بأسعار معقولة، لكن هذه الإمدادات أصبحت ضحية لمحاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إخضاع كييف وكل من يدعمها. وحتى الآن، على الرغم من اشتداد الغليان داخل أوروبا بسبب أزمة الطاقة، ما زالت الحكومات الأوروبية متمسكة بموقف دعم أوكرانيا.
يقول مونتون: "في زمن الحرب هذا ما تفعله الحكومات، سوف يوسعون مواردهم المالية إلى أقصى حد لتجاوز الأزمة الصعبة التي هم فيها". خذ على سبيل المثال المفوضية الأوروبية، التي اقترحت تدخلات طارئة واسعة النطاق من شأنها إعادة توزيع ما يقرب من 140 مليار دولار من الضرائب غير المتوقعة على الشركات والأسر، التي تعاني من ضائقة مالية.
فيما كشفت المملكة المتحدة أيضاً عن خطة إنقاذ بقيمة 46 مليار دولار، بينما أعلنت السويد عن ضمانات سيولة تزيد عن 20 مليار دولار لشركات الطاقة المتعثرة. ومع اقتراب شركات الطاقة الألمانية من الإفلاس، يقال إن ألمانيا تتحرك الآن لتأميم ثلاث شركات غاز عملاقة، بما في ذلك Uniper، في تدخل تاريخي من شأنه أن يساعد في إنقاذ هذه الشركات من الهاوية.
شركات ومصانع أوروبا "تركع على ركبتيها" والتضامن الأوروبي يتلاشى
يرى خبير الطاقة مونتون أن الخسائر الاقتصادية المتزايدة "جعلت الشركات والمصانع الأوروبية تركع مالياً على ركبتيها". وأضاف أنه "في مرحلة ما، ستصل الأمور إلى نقطة الانهيار".
وبدأ الإحباط العام يتفاقم بالفعل في المملكة المتحدة ومولدوفا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، حيث اندلعت الاحتجاجات على تكاليف الطاقة المرتفعة للغاية وأثارت المخاوف من اضطرابات أوسع. في براغ، خرج ما يصل إلى 70 ألف شخص إلى الشوارع في أوائل سبتمبر/أيلول في مظاهرة حملت اسم "جمهورية التشيك أولاً " ضد ارتفاع أسعار الطاقة وكذلك للمطالبة بمزيد من إجراءات الحماية الحكومية.
وتخشى شرائح واسعة من الأوروبيين مما سيحدث في الشتاء القادم، وهم خائفون ليس فقط بسبب أسعار الطاقة، ولكن أيضاً بسبب ارتفاع التضخم الذي شهدته القارة خلال العام الماضي.
هل تقوّض حرب الطاقة الروسية وحدة أوروبا ودعمها الموجه لأوكرانيا؟
مع تزايد الغضب من ارتفاع فواتير الطاقة، تقول مجلة فورين بوليسي إن التضامن الأوروبي بدأ يتلاشى، وهذا أمر سيئ لبروكسل وللدعم الأوروبي المستمر للدفاع الأوكراني ضد الروس.
وحتى مع تعهد القادة الأوروبيين علناً بدعم كييف، فإن دعوات المحتجين لمزيد من الحياد في بلدان مثل جمهورية التشيك يمكن أن تضع الأساس لصدوع مستقبلية في الوحدة. كما أن المجر، العضو في الاتحاد الأوروبي، موجودة في جيب موسكو منذ اليوم الأول للحرب. وكان الموقف الألماني فاتراً بأكمله منذ البداية خشية وقوع أزمة الطاقة، وهو ما حدث بالفعل.
مؤخراً، نظم رجال الأعمال الإيطاليون احتجاجاً على فواتير الطاقة العالية، وألقوا باللوم في محنتهم على الاتحاد الأوروبي وقراراته، وليس بوتين الذي يغزو أوكرانيا.
لذلك، يرى محللون أن الدول الأوروبية قد تواجه اختباراً كبيراً للوحدة السياسية إذا استمر عدم الاستقرار في النمو واستمرت أزمة الطاقة في طحن أوروبا ومصانعها وأسرها.
يقول بين كاهيل الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، إنه "إذا ظلت الأسعار مرتفعة جداً وبدا السوق ضيقاً هذا الشتاء، فإن الضغط السياسي على الحكومات الأوروبية سيزداد، ومن المحتمل أن يكون لديك موقف يصبح فيه المواطنون غير سعداء حقاً ويبدأون في إلقاء اللوم على الحكومات بسبب ذلك، وربما تبدأ الحكومات في السير في طريقها والبحث عن مصالحها الخاصة بعيداً عن كييف، لذلك فإن الحفاظ على هذا التضامن والوحدة الأوروبية سيكون أمراً صعباً".
"الجنرال شتاء"
ومع اقتراب فصل الشتاء، حققت الدول الأوروبية حتى الآن الأهداف المحددة لمنشآت التخزين الخاصة بها، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان ذلك سيكون كافياً للحفاظ على حاجات القارة خلال فصل الشتاء مع التوقف شبه الكامل لتدفقات الغاز الروسي.
وسيتوقف جزء كبير من توقعات الطاقة في فصل الشتاء في أوروبا الآن على الطلب على الطاقة، وقدرة البلدان على تأمين إمدادات الغاز الطبيعي المسال من دول مثل الولايات المتحدة، خاصة أن المشترين الآخرين يتجهون إلى نفس الكميات في الأشهر الباردة.
وبشكل ما، لطالما كان الشتاء أحد أعظم حلفاء روسيا في حروبها التاريخية التي خاضتها مع الأوروبيين الذين حاولوا غزو أراضيها، واليوم تنتظر روسيا بكل هدوء دخول الشتاء في معركتها، وإذا كان "جنرال الشتاء" معتدلاً هذا العام، فسوف يسهل العيش بدون الغاز الروسي، لكن إذا كان الشتاء قاسياً وساخطاً، فلن تكون أوروبا في حال جيدة على الإطلاق.
ما الذي تعوّل عليها أوروبا؟
يبدو أن الاقتصاد الروسي قد نجا من أسوأ حرب للطاقة حتى الآن، بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز وعائدات تصدير النفط الخاصة به. على المدى الطويل، عندما تجد أوروبا في النهاية موردين بديلين وتفقد روسيا سوق تصديرها الرئيسي، فإن ميزان القوى سوف يتغير، وهذا ما تعول عليه أوروبا.
لأنه ببساطة، لا توجد بنية تحتية مادية كافية لروسيا لتوجيه جميع مبيعاتها إلى الصين، حتى لو كان الطلب موجوداً؛ في غضون ذلك، تحرق روسيا غازها الطبيعي بدلاً من بيعه.
وبالنسبة لدولة تحصل على أكثر من 40% من عائداتها الحكومية من مبيعات الطاقة، فإن قطع سوق التصدير الرئيسي لروسيا يعد خطوة جذرية، وربما لا رجعة فيها في هذه المرحلة، وبمرور الوقت، سيؤدي ذلك إلى إضعاف قدرة روسيا على إحداث الفوضى التي تريد، كما تقول المجلة الأمريكية.
لكن المدى الطويل يختلف عن الشتاء الذي يلوح في الأفق بدون وقود؛ لذا عندما يتعلق الأمر بأسواق الطاقة، فإن الأشهر القليلة المقبلة لا يمكن التنبؤ بها تماماً، هذه منطقة مجهولة إلى حد كبير.
ويبدو أن روسيا لا تتراجع في حربها الطاقوية على أوروبا، فهي اليوم لا تكتفي بتجفيفها لأبعد حد عن أوروبا، بل تدرس أيضاً زيادة الضرائب على النفط والغاز، وذلك من أجل سد الفجوة في ميزانية عام 2023، وهو ما من شأنه أن يرفع أسعار النفط والغاز أكثر وأكثر، لتزيد معاناة أوروبا.