موازين القوى في شمال إفريقيا تتغير، فنجم الجزائر يصعد- مع صعود الطلب الأوروبي على غازها الطبيعي- ونفوذ المغرب يتراجع، وهذا ما أكده قرار تونس بدعوة قائد "جبهة البوليساريو" إلى مؤتمر استثماري، في خطوة تهدف على ما يبدو لإغضاب المغرب. فماذا يعني تقارب تونس مع الجزائر على حساب المغرب؟
ماذا يعني تقارب تونس مع الجزائر على حساب المغرب؟
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، لعقود اكتفت تونس بمراقبة الموقف من بعيد، والتزمت موقفاً محايداً من الطرفين المتصارعين على السيطرة. لكن خطوتها الانفرادية بدعوة إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو ورئيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية ذات الاعتراف المحدود، إلى مؤتمر كانت تعقده بالتعاون مع اليابان، قوضت هذه الحيادية. ويرى عدد من المراقبين أيضاً أن هذه الدعوة أكدت ما شك فيه كثيرون أن تونس تزداد قرباً من الجزائر، وربما على حساب علاقاتها الوثيقة التاريخية مع المغرب.
وأقل ما يقال عن تفاصيل هذه الدعوة أنها مبهمة، إذ انعقد المؤتمر، مؤتمر طوكيو الدولي الثامن للتنمية في إفريقيا، في تونس، التي سافر إليها غالي، مثله مثل قادة آخرين، ليستقبله الرئيس التونسي قيس سعيد.
ويبدو أن حضوره فاجأ كثيرين، وخصوصاً المغرب، الذي سارع إلى إصدار بيان رسمي عن "الأذى" الذي سببه تصرف تونس للشعب المغربي. وسحب كلا البلدين سفيريهما من بلد الآخر، في حين ندّدت الصحف المغربية بمواقف تونس وتصرفاتها السلبية تجاه المملكة المغربية.
وأعرب سعيد ووزارة خارجيته عن استغرابهما الشديد مما ورد في بيان المملكة المغربية. وأكدت وزارة الخارجية التونسية أن دعوة زعيم البوليساريو جاءت من جانب الاتحاد الإفريقي. وصدر بيان عن وزارة الخارجية أكدت فيه من جديد حياد البلاد التام بما يتوافق مع القانون الدولي، وأن: "هذا الموقف لن يتغير حتى تجد الأطراف المعنية حلاً سلمياً مقبولاً للجميع".
وتقول فورين بوليسي إن هدف سعيد الأكبر يظل محض تكهنات. ولكن بعد أن غدت الجزائر مورد رئيسي للطاقة خلال الأزمة الاقتصادية التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً في تونس، فنفوذ الجزائر المتنامي جزء من اعتبارات سعيد بكل تأكيد.
الجزائر تدخل مرحلة "نهضة دبلوماسية"
ورغم أن حساسية المغرب من موضوع الصحراء الغربية قد تبدو مفاجئة، أصبح مصيرها ركيزة أساسية لنظرة المملكة للعالم.
إذ سجل العاهل المغربي الملك محمد السادس خطاباً متلفزاً لإرسال ما قال إنه رسالة واضحة إلى العالم: "قضية الصحراء هي المنظور الذي يرى المغرب من خلاله علاقاته مع دول العالم".
ومنذ فترة ليست بالبعيدة، تحديداً في ديسمبر/كانون الأول عام 2020، بدا موقف المغرب قوياً. إذ وافقت واشنطن على الاعتراف رسمياً بسيادة الرباط على الصحراء الغربية، مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتصالحت إسبانيا وألمانيا، وكانت كلتاهما من منتقدي علاقات المملكة مع الصحراويين، مع المملكة، ودعمتا خطة الرباط لإنشاء شكل من أشكال الحكم شبه الذاتي في المنطقة، وهي خطوة رفضها الشعب الصحراوي، الذي أصر على إجراء استفتاء لتحديد مصير المنطقة.
على أنه بعد ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا، دخلت الجزائر- ثالث أكبر مورد للغاز في أوروبا (بعد روسيا والنرويج) والداعم الرئيسي لجبهة البوليساريو- مرحلة نهضة دبلوماسية كذلك. وأضحت الجزائر تحظى باهتمام ساسة أوروبا، والمنطقة، ومن بينهم الرئيس التونسي سعيد. وقد أمنت زيارته للجزائر، في يوليو/تموز، إعادة فتح الحدود البرية، التي أُغلقت قبل عامين لاحتواء انتشار كوفيد-19، ما سمح للعائلات الجزائرية بالسفر إلى تونس، ودعم صناعة السياحة المتدهورة فيها.
وتعتمد تونس على الجزائر أيضاً في الحصول على غازها، وشرائه بسعر مخفض، فضلاً عن أرباحها من نقل الغاز الجزائري عبر أراضيها، إلى صقلية ثم بقية أوروبا.
أزمة أوكرانيا وضعت الجزائر في مكانة جديدة
في السياق، يقول رؤوف فراح، كبير المحللين في مؤسسة Global Initiative لمجلة Foreign Policy، إن "الحرب في أوكرانيا وآثارها على أوروبا من حيث إمدادات الغاز، وضعت الجزائر في مكانة جديدة، وجعلتها لاعباً مهماً في الساحة. والرباط يقلقها ذلك أكثر من تمكّنها من الحصول على إمدادات الغاز بأسعار تنافسية، بعد إغلاق خط أنابيب غازودوك المغاربي الأوروبي، الذي كان يزود إسبانيا بالغاز عبر المغرب".
ورغم أن نفوذ الجزائر ربما تعزَّز في الوقت الحالي، فمقدار ما سيُحدثه من فرق في نزاع تدخلت فيه الحكومة الأمريكية بطريقة دراماتيكية إبان إدارة ترامب لا يزال مبهماً. ويرى جوناثان هيل، المؤرخ من كينغز كوليدج لندن، أن مصير الصحراء الغربية والصحراويين تحوّل بمرور الزمن من مشكلة براغماتية إلى موقف سياسي لا يتزعزع، وعلى هذا النحو قد يصبح مشكلة مستعصية على الحل.
وقال: "المشكلة الحقيقية مشكلة قيادة، فعام 1976، في وقت المسيرة الخضراء، نشأت مشكلة براغماتية أدرك الجميع أنه لا بد من حلها، لكن وجود قيادات ثابتة نسبياً في كل من الجزائر والمغرب، حيث لا يوجد تغيير يذكر في الموظفين، أدى إلى تصاعد الخلاف إلى أن أصبح مسألة عقيدة"، حسب تعبيره.
ولا يُعرف على وجه اليقين إلى متى قد يستمر توجه تونس الجديد، لكن الحقيقة أن تحركاتها الأخيرة في المنطقة برهان على أن نظاماً جديداً يتشكل الآن داخل المنطقة، سواء استفاد الصحراويون من ذلك أم لا.