بينما ينتقد الأمريكيون أداء الجيش الروسي في أوكرانيا، فإنهم يتجاهلون حقيقة أنهم على غرار روسيا، لم ينتصروا في معظم حروبهم السابقة، وأن الجيش الروسي يتعثر لأنه يسير على خطى الجيش الأمريكي.
ولكن الخبراء العسكريين الأمريكيين، بينما يتوسعون بخليط من الدهشة والابتهاج في تحليل أسباب تعثر الجيش الروسي في أوكرانيا، فإنهم يميلون للتركيز على الجوانب العسكرية واللوجستية، دون البحث أن المشكلة الكبرى في طبيعة الحروب نفسها وأنها بطبيعتها مراوغة ولا يمكن التنبؤ بها، حسبما ورد في مقال لأندرو باسيفيتش، رئيس معهد كوينسي الأمريكي، نشره في موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
هكذا يرى الأمريكيون أسباب التعثر الروسي في أوكرانيا
هنالك توافق واسع في واشنطن على أنَّ أداء الجيش الروسي في "عملية الكرملين العسكرية الخاصة" المستمرة في أوكرانيا يُصنَّف بما بين السيئ والسيئ للغاية. والسؤال هو: لماذا؟ ويبدو أنَّ الإجابة واضحة جلية في دوائر السياسة الأمريكية، المدنية والعسكرية على حدٍّ سواء. أصرَّت روسيا فلاديمير بوتين بعناد على تجاهل المبادئ والممارسات والوسائل التي استُقِرَّ على كونها ضرورية للنجاح في الحرب، وأتقنتها القوات المسلحة الأمريكية في هذا القرن. وبعبارة بسيطة، يحقق الروس فشلاً ذريعاً أمام خصم أضعف بكثير لأنَّهم يرفضون القيام بالأمور على الطريقة الأمريكية.
من المؤكد أنَّ المحللين الأمريكيين يُقِرُّون بأنَّ هناك عوامل أخرى ساهمت في مأزق روسيا المؤسف. نعم، لقد فاجأت المقاومة الأوكرانية الروس. بالإضافة إلى ذلك، أدَّت العقوبات الاقتصادية الشاملة التي فرضها الغرب رداً على الغزو إلى تعقيد المجهود الحربي الروسي. وعزَّز تدفق الأسلحة الحديثة المُقدَّمة من الولايات المتحدة وحلفائها القوة القتالية الأوكرانية بشكل ملحوظ.
مع ذلك، وفي رأي الشخصيات العسكرية الأمريكية، فإنَّ كل تلك العوامل تتضاءل أمام العجز (أو الرفض) الروسي البيِّن عن فهم المتطلَّبات الأساسية للحرب الحديثة. ويجعل الفهم المحدود لدى المراقبين الغربيين بشأن كيفية عمل القيادة العسكرية في البلاد من الأسهل بمكان إطلاق مثل هذه الأحكام النهائية.
ويؤكد التفسير الأمريكي لعدم كفاءة الجيش الروسي 4 نقاط رئيسية على الأقل:
– الأولى: أنَّ الروس لا يفهمون الاندماجية، وهي العقيدة العسكرية التي تنص على التكامل السلس للعمليات البرية والجوية والبحرية، ليس فقط على كوكب الأرض، لكن أيضاً في المجال السيبراني والفضاء الخارجي.
– الثانية: أنَّ القوات البرية الروسية لم تلتزم بمبادئ حرب الأسلحة المشتركة، التي كان الألمان أول مَن أتقنها خلال الحرب العالمية الثانية، والتي تؤكد على التعاون التكتيكي الوثيق بين الدبابات والمشاة والمدفعية.
– الثالثة: أنَّ التقليد الروسي طويل الأمد المعتمد على القيادة من أعلى إلى أسفل يعيق المرونة على الجبهة، ما يدفع الضباط الصغار وضباط الصف إلى نقل الأوامر من الأعلى دون إظهار أي قدرة على، أو رغبة، لأخذ زمام المبادرة بأنفسهم.
– الأخيرة: يبدو أنَّ الروس يفتقرون حتى إلى الفهم الأكثر بدائية للوجستيات ساحة المعركة، وهي آلية توفير إمداد ثابت وموثوق بالوقود والغذاء ولذخيرة والدعم الطبي وقطع الغيار اللازمة لاستمرار المعركة.
يحتوي هذا النقد، الذي عبَّر عنه خبراء أمريكيون من تلقاء أنفسهم، على إشارة إلى أنَّه لو كان الجيش الروسي قد أولى مزيداً من الانتباه إلى كيفية تعامل القوات الأمريكية مع هذه المسائل، لكانوا أبلوا بلاءً أفضل في أوكرانيا. وبطبيعة الحال، تؤكد عدم الكفاءة العسكرية الروسية ضمنياً التفوق العسكري للولايات المتحدة. فالولايات المتحدة تحدد معيار التفوق الذي لا يملك الآخرون إلا أن يطمحوا للوصول إليه.
رغم أن الجيش الأمريكي لم ينتصر في معظم حروبه
كل ذلك يطرح سؤالاً أكبر لا تزال مؤسسة الأمن القومي الأمريكية غافلة تماماً عنه: إذا كانت الاندماجية وتكتيكات الأسلحة المشتركة والقيادة المرنة واللوجستيات سريعة الاستجابة هي مفاتيح النصر، فلماذا لم تستطع الولايات المتحدة الانتصار في حروبها المكافئة لحرب أوكرانيا؟ ففي نهاية المطاف، لم تَعلَق روسيا في أوكرانيا إلا لستة أشهر، في حين علقت الولايات المتحدة في أفغانستان 20 عاماً، وما يزال لديها قوات في العراق بعد عقدين تقريباً من غزوها الكارثي لذلك البلد.
لنُعِد صياغة السؤال: لماذا يجذب تفسير ضعف الأداء الروسي في أوكرانيا الكثير جداً من التعليقات المتعجرفة هنا، في حين يتم التغاضي عن ضعف الأداء العسكري الأمريكي؟
ربما مصطلح التغاضي أقسى من اللازم. ففي النهاية، حين يفشل الجيش الأمريكي في تحقيق التوقعات، هنالك دوماً البعض ممَّن يسارع للإشارة بأصابع الاتهام في الإخفاق إلى القادة المدنيين. وبالطبع كان ذلك هو الحال مع الانسحاب العسكري الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في أغسطس/آب 2021. إذ سارع المنتقدون إلى تحميل المسؤولية في تلك الكارثة للرئيس بايدن، في حين أفلت القادة العسكريون الذين أشرفوا على الحرب هناك لأكثر من 20 عاماً دون انتقادات إلى حدٍ كبير.
لأن المشكلة أن الحرب بطبيعتها مراوغة وغير قابلة للتنبؤ
يقول كاتب التقرير "لكن اسمحوا لي أن أقدم تفسيراً آخر لفجوة الأداء التي عانت منها المؤسسة العسكرية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. لم تكن المشكلة الحقيقية في المدنيين غير المُطَّلِعين أو الجنرالات الذين يفتقرون إلى الأمور الصحيحة أو الذين عانوا من سوء الحظ. بل في الطريقة التي بات الأمريكيون، لاسيما أولئك الذين يتمتعون بالنفوذ في دوائر الأمن القومي، بما في ذلك الصحفيين وأعضاء مراكز الأبحاث وجماعات الضغط ومسؤولي الشركات في المجمع الصناعي العسكري وأعضاء الكونغرس، ينظرون بها إلى الحرب باعتبارها وسيلة جذابة وميسورة التكلفة لحل المشكلات.
لطالما أكَّد المُنظِّرون العسكريون على أنَّ الحرب، بطبيعتها، مائعة ومراوغة ومتقلِّبة ومليئة بالصدفة وعدم اليقين. يميل الممارسون إلى الرد من خلال الإشارة إلى أنَّ هذه الأوصاف ليست مفيدة بالرغم من صحتها. وهم يُفضِّلون تصور الحرب باعتبارها شيئاً قابلاً للمعرفة تقريباً، ويمكن التنبؤ بها ومفيدة للغاية، إنَّها السكين السويسري للسياسة الدولية.
ولكن في أمريكا يحاولون اختزالها لجذب ميزانيات من الكونغرس
ومن هنا يأتي الميل بين المسؤولين المدنيين والعسكريين في واشنطن، ناهيكم عن الصحفيين ومفكري السياسة، إلى اختزال الحرب إلى عبارة أو صيغة أو مجموعة من الاختصارات، التي يمكن تلخيصها في عرض تقديمي مدته 30 دقيقة. وهذا الاندفاع نحو التبسيط، هدفه تسهِّيل تجنُّب التعقيد والغموض في عملية الترويج من أجل استدرار الأموال من الكونغرس.
وللاستشهاد بمثال صغير، لنأخذ مثلاً وثيقة عسكرية حديثة بعنوان "جهوزية وتحديث الجيش في 2022"، صادرة عن مسؤولو الدعاية بـ"جمعية الجيش الأمريكي"، والتي تستهدف الحديث عن المسار الذي يمضي فيه الجيش الأمريكي.
ما تهدف قيادة الجيش إلى القيام به بين الآن وعام 2035 هو إنشاء "جيش مُعدَّل متعدد النطاقات" من خلال نشر عدد كبير من الأنظمة الحديثة، التي وُصِفَت بطوفان من الاختصارات، مثل: ERCA وPrSM وLRHW وغيرها.
وربما لن تتفاجأوا حين تعلمون أنَّ خطة الجيش، أو بالأحرى رؤيته، لمستقبله تتجنَّب أدنى ذكر للتكاليف. كما لا تضع بعين الاعتبار التعقيدات المحتملة –الخصوم المسلحين بالأسلحة النووية على سبيل المثال- التي قد تتداخل مع تطلعاته للتفوق في كل النطاقات.
مع ذلك، تستحق الوثيقة اهتمامنا باعتبارها مثالاً رائعاً على تفكير وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). فهي تقدم إجابة الجيش المُفضَّلة عن سؤال ذي أهمية وجودية تقريباً، ليس "كيف يمكن للجيش المساعدة في إبقاء الأمريكيين آمنين؟"، بل "كيف يمكن للجيش أن يحافظ على، بل وفي الوضع الأمثل أن يزيد، ميزانيته؟".
ولكن هل يحتاج تحقيق الأمن للأمريكيين كل هذه النفقات؟
يكمن في هذا السؤال افتراض ضمني مفاده أنَّ التظاهر حتى بالحفاظ على أمن الأمريكيين يتطلَّب جيشاً ذا امتداد عالمي، ويحافظ على وجود عالمي ضخم.
وفي حين يملك الجيش الأمريكي نحو 750 قاعدة عسكرية في كل قارة من قارات العالم باستثناء أنتاركتيكا، يرفض ذلك الجيش قطعياً الرأي القائل بأنَّ الدفاع عن الأمريكيين حيث يعيشون –أي داخل حدود الولايات الخمسين المُؤلِّفة للولايات المتحدة- يمكن أن يكون كافياً لتحديد هدفه الشامل.
وهنا نصل إلى لب الموضوع: أصبح لا يمكن، على نحوٍ متزايد، تحمُّل العولمة المعسكرة، وهي النهج المُفضَّل لدى البنتاغون في السياسة الأساسية. وبمرور الوقت، أصبحت أيضاً بعيدة عن نطاق الموضوع. فالأمريكيون ببساطة لا يملكون الموارد اللازمة لتلبية متطلبات الميزانية التي يأتي بها البنتاغون، خصوصاً تلك التي تغفل المخاوف الأساسية التي يواجهها الأمريكيون، بما في ذلك الأمراض والجفاف والحرائق والفيضانات وارتفاع مستوى سطح البحر، ناهيكم عن تجنُّب الانهيار المحتمل لنظام البلاد الدستوري.
يقول الكاتب "فلكي نوفر الأمن والرفاه لجمهوريتنا، لا نحتاج مزيداً من تعزيزات الاندماجية وتكتيكات الأسلحة المشتركة والقيادة المرنة واللوجستيات سريعة الاستجابة. بل نحتاج إلى مقاربة مختلفة تماماً للأمن القومي".
هل تايوان أهم من الدستور الأمريكي؟
بالنظر إلى الحالة المتزعزعة للديمقراطية الأمريكية، والتي وصَّفها الرئيس بايدن بشكل ملائم في خطابه الأخير في فيلادلفيا، فإنَّ الأولويتة الأكثر إلحاحاً هي إصلاح الضرر في نسيج الولايات المتحدة السياسي الداخلي، وليس الانخراط في جولة أخرى من "تنافس القوى العظمى" التي تحلم بها العقول الجامحة في واشنطن. وبصياغة مُبسَّطة، الدستور أهم من مصير تايوان.
وفي ظل تحذير أشخاص رصناء علناً من الاقتراب المحتمل للحرب الأهلية وترحيب الكثير من المواطنين الأمريكيين المسلحين تسليحاً كبيراً بهذا الاحتمال، لربما حانت لحظة إعادة النظر في الوعود المُسلَّم بها التي أبقت على سياسة الأمن القومي الأمريكي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً.
أمريكا تذهب للقتال بطريقة مرتجلة وتورّطت في حروب لا طائل منها
بل ما أرضى به هو قدر ضئيل من التواضع والحصافة، إلى جانب احترام قوي للحرب (بدلاً من الافتتان بها).
وهنا يكمن المأزق غير المُعتَرَف به الذي وضع البنتاغون نفسه، وبقيتنا، فيه: بالاستعداد للقتال في أي مكان ضد أي خصم في أي نوع من الصراع، يجد البنتاغون نفسه غير مستعد للقتال في أي مكان بعينه.
من هنا يأتي الاندفاع نحو الارتجال السريع، مثلما كان الحال في كل صراع خاضته أمريكا منذ حرب فيتنام. تسير الأمور على ما يرام في بعض الأحيان، مثلما كان الحال في الغزو المنسيّ منذ أمد بعيد وعديم المعنى أساساً لجزيرة غرينادا الكاريبية عام 1983. لكن في أغلب الأحيان لا يسير الحال على ما يرام، بغض النظر عن مدى قوة جنرالات وقوات أمريكا في تطبيق مبادئ الاندماجية والأسلحة المشتركة والقيادة واللوجستيات.
يمضي الأمريكيون وقتاً طويلاً هذه الأيام في محاولة اكتشاف ما الذي يدفع فلاديمير بوتين إلى التصرف على هذا النحو. لكنَّني سأقول إنَّ انغماس بوتين في أوكرانيا يؤكد أنَّه لم يتعلَّم شيئاً من حماقة السياسة العسكرية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
يختتم الكاتب مقاله قائلاً "هل سيتعلم الأمريكيون بدورهم أي شيء من حماقة بوتين؟ لا تعوِّلوا على ذلك.