بعد أكثر من عقدين من الصعود الصاروخي تواجه الشركات العملاقة في وادي السيليكون كسناب شات وميتا وغيرهما تراجعاً في القيمة وتسريحاً للعمال، فهل بدأت نهاية العصر الذهبي؟
تناول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية هذا السؤال: "هل يقترب العصر الذهبي لوادي السيليكون من نهايته؟"، بعد أن أعاده للأضواء تسريح العاملين بأعداد ضخمة من سناب شات، والانخفاض الكبير في قيمة شركتي ميتا (فيسبوك سابقاً) وأبل، وتجميد التوظيف في شركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى.
ويقول الخبراء إن الإجابة عن هذا السؤال ليست بسيطة، إذ شهدت صناعة التكنولوجيا نمواً كبيراً لبعض الوقت، وجاءت الجائحة لتعزز هذا النمو بعد أن أرغمت جزءاً كبيراً من العالم على استخدام الإنترنت، وارتفع الطلب على الخدمات التقنية. على أن هذا الازدهار- والرواتب المرتفعة والمزايا المكتبية التي صاحبته- آخذ في التباطؤ.
هل انتهى النمو الصاروخي للشركات العملاقة؟
مارغريت أومارا، الأستاذة في جامعة واشنطن ومؤلفة كتابThe Code : Silicon Valley and the Remaking of America، قالت للصحيفة البريطانية: "هذا النمو لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فنحن من نواحٍ كثيرة نعود إلى الحياة الطبيعية بعد فترة طويلة من الازدهار أصبح خلالها كل شيء أكبر بكثير من المعتاد".
وأضافت أن هذه الاتجاهات يفاقمها انكماش عالمي كبير صناعةُ التكنولوجيا ليست محصنة ضده. إذ رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة ثلاث مرات بالفعل عام 2022، ويُتوقع رفعها مرات أخرى.
وعززت بيئة معدلات الفائدة المنخفضة السابقة الازدهار التكنولوجي، وهذا أسهم في نشوء مجموعة من "الشركات أحادية القرن"، أي الشركات التي تتجاوز قيمتها مليار دولار. ومن الأمثلة البارزة على هذه الشركات أوبر وAirbnb اللتان وصلت قيمتهما إلى 47 مليار دولار و82 مليار دولار في الاكتتاب العام لكل منهما، لكن تغير أسعار الفائدة سيقلل من حجم "تدفق الأموال"، والمستثمرون سيستخدمون السيولة النقدية "بطريقة أكثر حكمة".
وفي هذا السياق، قالت أومارا: "بعض المستثمرين ستظل لديهم سيولة، لكن خلال فترة كساد كهذه سيتراجع تدفق الصفقات".
وهذا النمو السريع تباطأت وتيرته أيضاً بعد سلسلة من الروايات التحذيرية، من انهيار شركة WeWork، إلى سقوط شركة Theranos، شركة فحوصات الدم التي ازدادت شعبيتها في بيئة صحفية براقة، وزعمت أن قيمتها تخطت المليار دولار قبل أن يتبين كذب ادعائها.
وقصص كهذه، إلى جانب تزايد التدقيق في صناعة التكنولوجيا بشكل عام على مدار العقد الماضي- ومن أمثلة ذلك الكشف عن مخالفات في الفيسبوك والاستجوابات العلنية للمديرين التنفيذيين لشركات التكنولوجيا في الكونغرس- تهز صورة وادي السيليكون.
كان الكونغرس الأمريكي قد عقد جلسة استماعٍ تاريخية، في يوليو/تموز 2020، خضع خلالها الرؤساء التنفيذيون لشركات أبل، وأمازون، وجوجل، وفيسبوك (قبل أن تغير الشركة اسمها إلى ميتا)، لما يشبه المحاكمة أمام لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب الأمريكي، وتوقع كثيرون أن حملة غير مسبوقة لِسَنِّ تشريعات لمكافحة الاحتكار ربما تؤدي إلى تفكيك تلك الشركات في نهاية الأمر.
وكان تقرير سابق لصحيفة The Guardian البريطانية عنوانه "هل يمكن كبح جماح شركات التكنولوجيا الكبرى؟"، قد رصد سيناريوهات التعامل مع تلك الشركات التي أصبحت تتمتع بنفوذ وسلطة تبدو أقوى بمراحل مما تتمتع به الحكومات الغربية. وعندما ينظر المؤرِّخون إلى هذه الفترة فإن أحد الأمور التي سيجدونها رائعةً أن حكومات الديمقراطيات الغربية كانت نائمةً بسلامٍ لمدة ربع قرن، بينما ظهرت خلال تلك الفترة أقوى الشركات، وأكثرها ربحيةً عبر التاريخ، وقد تنامت بسرعاتٍ مُطردة دون توقُّف أو إعاقة.
وسوف يتساءل المؤرخون كيف حَصَلَ عددٌ محدودٌ من هذه الشركات، التي أصبحت تسمَّى "عمالقة التكنولوجيا" (ألفابيت، وأمازون، وأبل، وفيسبوك، ومايكروسوفت) على سلطاتٍ غير عادية وبدأت في استخدامها. قامت بتسجيل وتتبُّع كلّ ما نفعله على الإنترنت، من بريد إلكتروني وتغريدات ومدونات وصور فوتوغرافية، وكل ما أرسلناه على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل "إعجاب" سجَّلناه، وكل مكان زرناه، والمجموعات التي ننتمي إليها، ومن هم أقرب أصدقائنا.
ويبدو الآن أنه حتى بعض أشد مناصري تلك الشركات، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، راجعوا أنفسهم. إذ استعان أوباما بالفيسبوك على نطاق واسع في حملته لعام 2008، وأشاد بالشركة في خطابه عن حالة الاتحاد عام 2011، لكنه أدان دورها في نشر المعلومات المضللة، لا سيما عن الانتخابات، في مقابلة حديثة في جامعة ستانفورد.
وادي السيليكون يغادر كاليفورنيا
وينضم مشرعون وهيئات فيدرالية أمريكية إلى المعركة، ففي ظل الإجراءات المتزايدة التي تفرضها لجنة التجارة الفيدرالية (FTC) وتشريعات الكونغرس التي تلوح في الأفق، ربما تواجه كبرى شركات التكنولوجيا عقبات كبيرة لم تواجهها من قبل.
وتغيرت أيضاً نظرة الناس العاديين للتكنولوجيا بشكل عام، إذ قال 68% من الأمريكيين إنهم يرون أن شركات التكنولوجيا تتمتع بالكثير من القوة والنفوذ في الاقتصاد، ارتفاعاً عن نسبة 51% عام 2018.
وقالت مارغريت: "الأمريكيون لا يحبون الأشياء الكبيرة، ويقلقهم تركز القوة. فلا يمكن أن تصبح شركة الفتى المدلل وهي بقيمة 2 تريليون دولار. هذا جزء من دورة الحياة".
يقول الخبراء إن جغرافيا وادي السيليكون تتغير أيضاً، وهذا الوادي، وهو مصطلح شامل للمنطقة الواقعة جنوب سان فرانسيسكو، رسخ مكانته في نفوس الأمريكيين منذ ما يقرب من قرن باعتباره مركزاً للابتكار. وبدأ صعوده مركزاً للشركات التكنولوجية حين أنشأت العمليات العسكرية الأمريكية مواقع لشركات أبحاث بدأت في الثلاثينيات تقريباً، وامتد هذا الاتجاه إلى القطاع الخاص في العقود التي تلت هذه الفترة.
لكن صناعة التكنولوجيا بدأت في الخروج من منطقة خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، وقد تسارع هذا التوجه بسبب الجائحة. فعام 2021، نقلت شركة السيارات الكهربائية تسلا مقرها الرئيسي إلى مدينة أوستن بولاية تكساس، بعد خطوات مماثلة من شركات تكنولوجية أخرى مثل Oracle وHewlett-Packard.
ويقول برنت ويليامز، الذي يعمل في وكالة التوظيف مايكل بيج، إن هذا كان له أثره على التوظيف أيضاً، وأضاف أن هذا التأثير هو ما تدعوه الصناعة "شتاء رأس المال الاستثماري".
وقال: "كوفيد غير قواعد اللعبة بأكملها. فقد ارتفعت التنافسية بين الشركات على جذب المواهب لأنها لا تستهدف الأشخاص في خليج سان فرانسيسكو فحسب، بل تستهدف الجميع في الولايات المتحدة".
وهذا التوجه، إلى جانب اللجوء إلى العمل من المنزل كان ليكون تأثيره صادماً في أوقات ما قبل الجائحة، لأن الشركات كانت تستثمر المليارات في مقراتها مترامية الأطراف، وتوفر لموظفيها بعض الامتيازات مثل النقل من وإلى العمل وتقديم وجبات في الموقع.
هل كتب "نعي الصناعة قبل الأوان"؟
أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد نيكولاس بلوم، قال للصحيفة البريطانية إنه رغم هذه العقبات: "يظل وادي السيليكون قوياً بدرجة يصعب وصفها". وأضاف أنه تحمّل عقبات كثيرة، مثل الانكماش الاقتصادي عامي 2001 و2008، وتعافى في كل مرة.
وأضاف: "رغم أن بعض الشركات تتجه خارج وادي السيليكون بسبب العمل من المنزل والعولمة، فهو لا يزال نقطة الانطلاق، ولا يوجد ما يضاهيه في صناعة التكنولوجيا".
وفعلاً، تقول مارغريت أومارا إنه من المستبعد أن نرى تحولاً كبيراً عن إرث الوادي أو موقعه في قلب الخليج: "منطقة الخليج وسان فرانسيسكو تتمتع بجاذبية قوية وخصائص مميزة يصعب توفرها في أي مكان آخر. الناس يذهبون للعيش هناك لسبب، هم يريدون أن يكونوا هناك. وهذا يظل ملحوظاً، حتى في الوقت الذي تواجه فيه كاليفورنيا أزمة إسكان، ويتجه الموظفون إلى الولايات الأرخص".
وأضافت: "نعْي شركات التكنولوجيا في وادي السيليكون كتب قبل الأوان عدة مرات. وربما تكون نهاية حقبة من حقب وادي السيليكون، ولكنها ليست نهايته".
ويمكن أيضاً إضافة تويتر إلى قائمة شركات وادي السيليكون التي تعاني، في ظل استمرار المعركة الصاخبة بين الشركة وأغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، الذي يسعى بكل الطرق إلى التراجع عن صفقة شراء منصة التواصل الاجتماعي بقيمة 44 مليار دولار، والأمور الآن في ساحة القضاء.
إذ على الرغم من أن أغنى رجل في العالم هو من سعى للاستحواذ على منصة تويتر للتواصل الاجتماعي، وظل يضغط على مجلس الإدارة لمدة أسبوعين حتى وافقوا على عرضه بالفعل، يوم 25 أبريل/نيسان الماضي، فإن الفترة التالية لذلك الخبر الضخم شهدت مماطلات من جانب إيلون ماسك، حتى لجأ مجلس إدارة تويتر إلى القضاء لإجباره على إتمام الصفقة بالمبلغ المتفَق عليه.
ماسك عرض 44 مليار دولار لشراء تويتر، وهو مبلغ ضخم كان يزيد بأكثر من النصف عن القيمة السوقية للشركة وقتها، وشمل عقد الصفقة شرطاً جزائياً قيمته مليار دولار في حالة تراجع أي من الطرفين عن إتمامها.
وبعد أقل من أسبوعين على الإعلان عن الصفقة، بدأ ماسك الحديث علناً عن "الحسابات الوهمية" على تويتر، فيما وصفتها الشركة بأنها محاولات للتراجع عن الصفقة، واستمر الشد والجذب بين الطرفين، حتى قرر قاضٍ أمريكي، في يوليو/تموز الماضي، رفض طلب فريق ماسك القانوني تأجيل بدء المحاكمة، وهو ما يعتبر ضربة لرجل الأعمال.
لكن في خضم المعركة القانونية المشتعلة بين ماسك وتويتر، نشرت وسائل إعلام أمريكية تصريحات لرئيس قطاع الأمن السابق في الشركة، قال فيها إن تويتر ضللت المستخدمين والمنظمين الأمريكيين بشأن الثغرات في نظام أمن بيانات المستخدمين لديها، وهو ما يمثل ضربة قوية للمنصة بطبيعة الحال.