بعد مرور 100 عام على مسيرة "الزحف إلى روما"، التي كانت إيذاناً بصعود الفاشية الإيطالية، بقيادة بينيتو موسوليني، إلى سدة الحكم في البلاد عام 1922، عادت البلاد لتصبح قاب قوسين من انتخاب حزبٍ له جذوره الممتدة في "الفاشية الجديدة". إذ لم يتبقَ إلا بضعة أيام على الاقتراع، وقد انتشر الوجه المبتسم لجورجيا ميلوني، زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" اليميني، على آلاف الملصقات من أقصى جنوب إيطاليا (كعب إيطاليا) إلى جبال الألب في أقصى شمالها.
وتقول صحيفة The Guardian البريطانية، يُتوقع أن تخرج ميلوني منتصرة في الانتخابات عند إغلاق صناديق الاقتراع مساء 25 سبتمبر/أيلول 2022، وهو ما قد يجعلها أول زعيم يميني متطرف يتولى حكم إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية.
هل تعود الفاشية لإيطاليا مجدداً؟
لطالما نأت ميلوني بنفسها عن الفاشية، حتى إنها قالت منذ وقت قريب إن اليمين الإيطالي قطع روابطه بالفاشية "وباتت علاقته بها في طي التاريخ". وتعود معظم أسباب نجاح ميلوني السياسي الحالي إلى مخالفتها لقرار السياسي اليميني ماتيو سالفيني، زعيم حزب "رابطة الشمال"، وإبقاء حزبها خارج ائتلاف حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته، ماريو دراغي.
وعززت هذه الخطوة من منزلة ميلوني بين قوى المعارضة ومنحتها مكانة بارزة في الكتلة الانتخابية اليمينية، التي تضم "رابطة الشمال"، وحزب "فورزا إيطاليا" بقيادة سلفيو برلسكوني، والتي باتت تستحوذ الآن على أكثر من 45% من أصوات الناخبين في استطلاعات الرأي.
ومع ذلك، فقد ترددت ميلوني في التخلص من الشعار السياسي المُلازم لحملتها "الله، والوطن، والعائلة"، والذي شاع استخدامه في العصر الفاشي، وتمسَّك حزبها بشعارات ولافتات تُحيل بوضوح إلى التيار الفاشي، حتى إن بعض أنصار الحزب أدُّوا التحية الفاشية خلال احتفالات عامة.
والسؤال المطروح: كيف يمكن لإيطاليا، التي عاشت وطأة نظام موسوليني وفظاعاته، أن تكون الآن على وشك انتخاب رئيسة وزراء تتزعم حزباً محسوباً على الجماعات الفاشية، بل إنها قالت في مقطع فيديو يعود إلى عام 1996 وظهر إلى العلن منذ وقت قريب، إن "موسوليني كان من خيرة السياسيين، ولم يظهر في إيطاليا سياسي آخر يضاهيه في الـ50 سنة الماضية"؟
الفاشية ظلت متغلغلة في إيطاليا حتى بعد الحرب العالمية الثانية
تقول "الغارديان" إن باولو بِريزي، الصحفي الإيطالي بصحيفة La Repubblica، عمل على تناول هذه الأسئلة منذ سنوات بعيدة، وقد توسع في الكتابة عن اليمين المتطرف في إيطاليا، حتى تلقى تهديدات كثيرة من مجموعات الفاشية الجديدة والنازية الجديدة، على نحو جعله يعيش الآن تحت حماية الشرطة. ويقول بريزي إن "إيطاليا بلد لم يقبل قط بأنه صاحب ماضٍ فاشي" ليقطع معه، و"الفاشيون لم ينتهوا في البلاد [بهزيمتهم] عام 1945، بل ظلوا متغلغلين فيها دائماً".
للعثور على إجابة لسؤال حضور الفاشية في المجتمع الإيطالي، يجب العودة إلى الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فقد كانت أهم قضية يتعين على البلاد معالجتها آنذاك هي "الوحدة الوطنية"، لأن إيطاليا شهدت بعد إزاحة موسوليني في عام 1943 حرباً أهلية شرسة بين نظام مدعوم من النازيين من جانب، وأنصار المقاومة الإيطالية من جانب آخر، ثم انتهت الحرب وحلَّ السلام في أوروبا، وشرعت البلاد في حملة لتطهير المؤسسات الإيطالية من الفاشيين ومحاكمتهم عن جرائم الحرب التي ارتكبوها.
لكن الأمور تغيرت بعد ذلك بمدة قصيرة، فقد كان العالم على مشارف الحرب الباردة، وتزايدت مخاوف إيطاليا من تفشي الشيوعية، فلجأت البلاد إلى الفاشية للتصدي للمد الشيوعي، وأُعلن في يونيو/حزيران 1946 عن برنامج عفو عام، تضمن إطلاق سراح آلاف من أنصار الفاشية من السجون.
الفاشية داخل الدولة الإيطالية
شغل كثير من أنصار الفاشية السابقين وظائف في إدارات البلاد المختلفة بعد الحرب، منهم: إيتوري ميسانا، الذي كان مسؤولاً في النظام الفاشي ومتهماً ورد اسمه في قائمة الأمم المتحدة للمتهمين بجرائم حرب، ثم عُيِّن مفتشاً للأمن العام في صقلية؛ والجنرال جوزيبي بيشي، الذي استعمله موسوليني في تنفيذ عمليات مكافحة للتجسس، ثم تولى منصب المدير العام لوكالة الحماية المدنية بعد العفو العام.
استند جورجيو ألميرانتي، وزير الثقافة في النظام العميل للنازية خلال الحرب، إلى مناخ التسامح العام، وأسَّس "الحركة الاجتماعية الإيطالية" التي ضمَّت منتمين سابقين من الحزب الفاشي الإيطالي. وبحلول عام 1948، وصل ثلاثة من الفاشيين الجدد إلى مقاعد البرلمان الإيطالي، ثم تتابعت الأحداث، حتى آل ذلك الميراث الطويل إلى تشكيل حزب "إخوة إيطاليا" عام 2012.
ظلت الحركة الاجتماعية الفاشية، الوريث الأول للفاشية الجديدة، ضعيفة الحضور وهينة الشأن في التيار السياسي العام حتى أوائل التسعينيات، غير أن تحقيقاً قضائياً أجرته البلاد آنذاك للقضاء على الفساد السياسي أدَّى، في الوقت نفسه، إلى اندثار كثيرٍ من الأحزاب السياسية التقليدية، وأفسح المجال لصعود الحركة.
الفاشية تتصدر في إيطاليا
هكذا، أسَّس المنتمون لها حزب "التحالف الوطني" في عام 1995، واحتفظوا بشعار الشعلة ثلاثية الألوان (شعار الفاشية) رمزاً لهم، وزعموا انتماءهم إلى تيار الليبرالية الجديدة المحافظ، ووجدوا في حزب "فورزا إيطاليا"، بزعامة برلسكوني، أول حليف لهم في الحكومة الوطنية.
تفاخر برلسكوني أمام تجمع سياسي عُقد عام 2019 بأنه كان أول من تعاون مع الفاشيين الجدد، وقال: "الأحزاب التي حكمت إيطاليا منذ بداية الجمهورية الأولى لم تسمح للفاشيين بدخول الحكومة، أما نحن فكنا أول من سمح لهم بالانضمام إلى الحكومة، ومنحناهم الشرعية".
قال بريزي: "بدأت في هذه السنوات ما أسميها (مراجعة تنقيحية لتحسين سمعة جرائم الفاشية)، وكان رأس حربتها برامج حوارية تلفزيونية وصحفاً عامة عمدت إلى تضليل الناس بالأخبار الكاذبة عن الفاشية، والإصرار على وصفها إلى اليوم بأنها نظام (أخطأ) لكن له مآثر عظيمة". فعلى سبيل المثال، ما زال كثير من الإيطاليين مقتنعين حتى اليوم بأن موسوليني هو من أدخل نظام الإسكان العام في إيطاليا، مع أن الواقع أن النظام بدأ منذ عام 1903، أي قبل وصول موسوليني إلى الحكم بنحو 20 عاماً.
وهكذا، بدأ آلاف الإيطاليين في الانضمام إلى جماعات تصف نفسها بالفاشية، وعمدوا إلى التحريض على المناهضين لها، واتهامهم بأنهم السبب في أزمة اللاجئين والاضطراب الاقتصادي والسياسي في إيطاليا. وفي هذا السياق، أُنشئ حزب "إخوة إيطاليا" عام 2012، وجاءت غالبية المنضمين إليه من "الحركة الاجتماعية الإيطالية" و"التحالف الوطني". ثم ترقت ميلوني، الناشطة السابقة في جبهة الشباب بالحركة الاجتماعية، بعد عامين لتصبح زعيمة للحزب.
"إذا عاد موسوليني، فإن الإيطاليين سينتخبونه مرة أخرى"
يقول أنطونيو سكوراتي، مؤلف كتاب "M"، أحد أبرز الكتب التي تتناول صعود موسوليني إلى السلطة، ومن أكثرها مبيعاً في العالم بشأن هذا الموضوع، إن "ألمانيا شهدت عملية طويلة من التغلب على ماضي النازية، وتعيَّن على الألمان جميعاً أن يتحملوا عبء مسؤوليتهم المشتركة في جرائم النازية، أما إيطاليا فلم تشهد عملية كهذه. وعندما يتحدث الإيطاليون عن قوانين الحرب والعنصرية في إيطاليا، فإنهم دائماً ما يصنفون أنفسهم بين الضحايا ومناهضي الفاشية، وهذا يمنعنا من الإقرار لأنفسنا بأننا فاشيين".
استنكرت ميلوني "استنكاراً لا لبس فيه قمع الديمقراطية والقوانين المخزية للفاشية في معاداة اليهود"، وأنكرت أي علاقة لحزبها بالفاشية، وأكدت أنه حزب ينتمي إلى الوطنية المحافظة، وليست المتطرفة.
يقول بريزي: "دعنا نقبل جدلاً بأن ميلوني ليست فاشية، وأن حزبها ليس حزباً فاشياً جديداً في جوهره. مع ذلك، فإنها لا تستطيع أن تنكر أن حزبها يضم بين صفوفه كثيراً من أنصار الفاشية… إذا فازت ميلوني في الانتخابات، فربما تعود الفاشية، أو لا تعود، لكن الأكيد أن ديمقراطيتنا ستكون في خطر".
وفي معرض الإشارة إلى صعود قوى اليمين المتطرف في العالم، قال سكوراتي: "إذا عاد موسوليني اليوم، فإن الإيطاليين سينتخبونه مرة أخرى. والحقيقة أن كثيراً من الإيطاليين والأوروبيين والأمريكيين الشماليين والبرازيليين انتخبوا بالفعل (نسخاً جديدة من موسوليني) لتتولى أمرهم وتحكم بلادهم".