اجتمع ممثلو 7 دول بالعاصمة الألمانية برلين لبحث الأوضاع في ليبيا، وكان أهم ما خرجوا به دعمهم للانتخابات وللمبعوث الأممي الجديد عبد الله باتيلي، دون الخوض "رسمياً" في مسألة تشكيل حكومة ثالثة. وتنبئ مشاركة الدول في اللقاء ومستوى التمثيل وعدم الخروج ببيان ختامي، بأن اجتماع برلين، الذي عُقد يومي 8 و9 سبتمبر/أيلول الجاري، لا يمكن وصفه بـ"مؤتمر برلين 3″، كما توقع كثيرون.
إلا أن مراقبون يرونه محاولة لإحياء مسار مؤتمري برلين 1 و2، اللذين عُقدا في 2020 و2021، وساعدا في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة ليبية. لكن فشل إجراء الانتخابات، وعودة الانقسام، ووقوع اشتباكات عنيفة بطرابلس، حتّم إعادة البحث عن توافق دولي في حدوده الدنيا؛ لمنع اشتعال القتال مجدداً، والتأكيد على أن الانتخابات ما زالت الحل الوحيد للحل للأزمة الليبية.
اجتماع برلين.. التزام دولي في حل الأزمة الليبية ضمن حدود ضيقة
اجتماع برلين الأخير، شاركت فيه دول (3+2+2) والمتمثلة في: الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا (الدائمين في مجلس الأمن) وألمانيا وإيطاليا (العضويين في الاتحاد الأوروبي) وتركيا ومصر، بالإضافة إلى الأمم المتحدة.
ولم تُدْع للاجتماع روسيا والصين (العضوين الدائمين في مجلس الأمن) ودول المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب)، والإمارات، ولا جمهورية الكونغو (رئيسة اللجنة رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الإفريقي المعنية بليبيا)، ولا حتى الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والجامعة العربية، ناهيك عن ليبيا صاحبة الشأن.
وهذه الدول والمنظمات شاركت في مؤتمر برلين الثاني، الذي عُقد على مستوى وزراء الخارجية، ومعظمها شارك في قمة مؤتمر برلين الأول (باستثناء المغرب وتونس).
بينما اجتماع برلين الأخير، عُقد على مستوى تمثيل دبلوماسي أقل، شمل المبعوثين الخاصين لهذه الدول إلى ليبيا أو سفرائها وممثليها، ما يؤكد أنه لم يرقَ إلى درجة مؤتمر على شاكلة مؤتمري برلين 1و2.
حيث شارك في الاجتماع المبعوثين الخاصين إلى ليبيا من كل من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وممثلين عن تركيا ومصر، إضافة إلى السفيرة البريطانية كارولين هورندال، ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية روزماري دي كارلو. كما حضر الاجتماع وزير خارجية الدولة المضيفة أنالينا بيربوك.
ويقول تقرير لوكالة الأناضول إن الاجتماع أشبه بلقاء تنسيقي تحضيراً لمؤتمر برلين 3، وهو ما لم يُعلن عنه بعد، أو أنه تأكيد على استمرار مسار برلين، رغم فشل إجراء الانتخابات الليبية في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، وتشكيل حكومة جديدة موازية لحكومة الوحدة.
فالفراغ الدبلوماسي الذي تركه شغور منصب مبعوث أممي، خاصة بعد رحيل المستشارة الأممية الأمريكية ستيفاني ويليامز، كان أحد الأسباب التي سرّعت في اندلاع مواجهات مسلحة بالعاصمة الليبية طرابلس، بين كتائب موالية لحكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وكتائب أخرى موالية لحكومة فتحي باشاغا.
لذلك اعتبرت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، اجتماع برلين "استمرار الالتزام الدولي بحل سياسي في ليبيا". لكن هذا الالتزام الدولي بليبيا يأتي في أضيق حدوده، مع انشغال العالم بالحرب الروسية في أوكرانيا، وتداعيات أزمتي الطاقة والغذاء.
ما أهم مخرجات اجتماع برلين؟
غير أن أهم ما خرج به الاجتماع إعلان دعم المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا السنغالي عبد الله باتيلي، ما يُعد رسالة قوية للأطراف الليبية بضرورة تسهيل مهمته.
ودون دعم دولي لباتيلي، لن يكون له أي فرصة للنجاح، خاصة في ظل تعقيد الملف الليبي، وكثرة المتدخلين الدوليين فيه، وتجلى ذلك في صعوبة الاتفاق على تسمية مبعوث أممي إلى ليبيا، وبقي المنصب شاغراً طيلة تسعة أشهر.
ويمثل عدم دعوة روسيا والصين إلى اجتماع برلين، بالرغم من أنهما عضوان دائمان في مجلس الأمن، وموسكو لديها حضور عسكري قوي في ليبيا، من خلال شركة فاغنر الأمنية، رسالة أخرى على تعمق الانقسام الدولي بين فريقين رئيسيين في مجلس الأمن، بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا.
وهذا الانقسام بين المعسكر الغربي والمعسكر الروسي ـ الصيني، من شأنه تأزيم الوضع في ليبيا وتعقيد مهمة باتيلي، رغم أن موسكو وبكين لم تعترضا عليه، باعتباره ممثلاً عن إفريقيا، كما أن مشاركتهما في مؤتمر برلين 2، كان منخفضاً، ما يعكس تحفظهما بشأن هذا المسار.
أما تغييب كلٍّ من الجزائر وتونس والمغرب عن اجتماع برلين، فلم يُثر نفس الجدل الذي خلقه مؤتمر برلين الأول، وهذا ما يفسر تحضير ألمانيا للاجتماع في صمت، وبأقل قدر من الضجيج الإعلامي، لعدم إثارة استياء الدول المغاربية.
لكن ذلك قد يدفع الجزائر وتونس على تكثيف تنسيقهما ضمن دول الجوار الليبي، رفقة كل من السودان وتشاد والنيجر، بالإضافة إلى مصر، كما تقول الأناضول.
كما قد يتسبب الأمر في خلق أزمة صامتة بين المغرب وألمانيا، كما حدث في 2020، خاصة أن الرباط تتبنى الوساطة بين مجلسي النواب والدولة الليبيين، وإن تراجع دورها مؤخراً لصالح تركيا ومصر.
فلولا حديث وزير خارجية حكومة الوحدة الليبية عن اجتماع برلين، على هامش لقائها مع السفير الإيطالي لدى ليبيا، في 4 سبتمبر/أيلول الجاري، لما علمت وسائل الإعلام بوجود اجتماع حتى يوم انعقاده.
وأعلن عن مخرجات الاجتماع المبعوث الإيطالي الخاص إلى ليبيا نيكولا أورلاندو، في تغريدات نشرها عبر حسابه على تويتر، وكان لافتاً حديث المبعوث الإيطالي، عن رفض المشاركين "عدم الاستقرار والإجراءات أحادية الجانب"، دون توضيح.
ولكن عدم الاستقرار فيه إشارة واضحة إلى الاشتباكات التي وقعت في طرابلس، عندما حاولت كتائب تابعة لحكومة باشاغا، السيطرة على العاصمة، وتصدت لها كتائب موالية لحكومة الدبيبة، ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا، أغلبهم مدنيون.
أما "الإجراءات الأحادية" فحمالة لأكثر من وجه، خاصة أن الأطراف الليبية اتخذت عدة قرارات لا تتوافق مع الجهود الدولية. ويبقى التساؤل مطروحاً حول ما هي الآليات التي تم التوافق بشأنها للذهاب نحو الانتخابات، أو على الأقل تلك التي تم التباحث بشأنها، حتى وإن لم يتم الإعلان عنها بعد.
خاصة أن وسائل إعلام ليبية نقلت عن دبلوماسيين، أن المشاركين في اجتماع برلين، بحثوا "حل مشكلة السلطة التنفيذية بحكومة موحدة قادرة على إجراء الانتخابات". وهو ما سبق أن تبناه مجلس الأمن الدولي، وترفضه حكومة الوحدة، لأن فيه إشارة إلى إمكانية تشكيل حكومة ثالثة، بينما يرى الدبيبة، أن في ليبيا حكومة واحدة فقط، وهي حكومته، التي باستطاعتها إجراء الانتخابات، ويشترط في ذلك استكمال مجلسي النواب والدولة على قاعدة دستورية أولاً.
الموقف من أزمة الدبيبة وباشاغا
من جانبه، وضح المبعوث الأمريكي إلى ليبيا، السفير ريتشارد نورلاند، في تغريدة أن "الولايات المتحدة تنضم إلى الأمم المتحدة والشركاء الدوليين في دعوة جميع الأطراف في ليبيا للانخراط في الحوار، والعمل بحسن نية على خريطة طريق، ذات مصداقية، لإجراء انتخابات مبكرة".
فاجتماع برلين، يحمّل الأطراف الليبية مسؤولية وضع خارطة الطريق لإجراء الانتخابات، دون تدخل دولي مباشر. غير أن موقف القاهرة التي لا تعترف بحكومة الدبيبة، مختلف، إذ تضغط من أجل الاعتراف بحكومة باشاغا.
بينما تواصل بقية الدول المشاركة في اجتماع برلين الاعتراف بحكومة الوحدة، لكنها لا تمانع في التواصل مع باشاغا، باعتباره أحد الأطراف الفاعلة في الأزمة.
فليس من المستبعد أن يكون اجتماع برلين، بداية تمهيدية لمرحلة جديدة، خاصة بعد تعيين باتيلي، مبعوثاً أممياً لليبيا، ومن شأن ذلك إعادة ترتيب أوضاع البلاد بشكل مختلف.