يبدو أن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق الواقعة في آسيا الوسطى، والقوقاز تخرج ببطء من الهيمنة الروسية الكاملة، يشجعها الإهانات التي يتعرض لها الجيش الروسي في أوكرانيا، ولكن مازالت بعض هذه الدول حائرة بين خشيتها من موسكو ورغبتها في الابتعاد عنها، بعد أن مسَّت حرب أوكرانيا وتراً حساساً لديها أعاد ذكريات الوحشية الروسية القديمة.
منذ بداية حرب أوكرانيا لم يكن هناك إدانة شاملة من قبل دول آسيا الوسطى للغزو الروسي، ولكن لم يكن هناك تأييد له، بل كان هناك رغبة واضحة في الحياد، لا تخفي قدراً من الإدانة الضمنية غير الصريحة لروسيا، وهو ما يمثل تحولاً نادراً في علاقة آسيا الوسطى بروسيا.
ورغم أن قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي تعقد اليوم الخميس بسمرقند في أوزبكستان، وتجمع جمهوريات آسيا الوسطى والهند وإيران وباكستان وروسيا والصين وتركيا (ضيف شرف)، قد تبدو انتصاراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ لأنه يظهر كذب ادعاءات الغرب بأن الرجل محاصر دولياً، إلا أن القمة قد تحمل في طياتها تغييراً غير معلن قد يتراجع فيه النفوذ الروسي في المنطقة، لصالح بكين بشكل أساسي ولكن أيضاً لصالح تركيا وإيران وحتى الدول الغربية حتى ولو بصورة أقل.
التاريخ والجغرافيا يجبران بلدان آسيا الوسطى والقوقاز على الخضوع لموسكو
أجبرت ظروف التاريخ والجغرافيا جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز أن تبقى تابعة لموسكو بشكل أو بآخر حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، رغم خروجها من القفص الروسي الحديدي الذي ظلت تكتوي به لقرون سواء بنسخته القيصرية أو السوفييتية، وذلك لأن من تمرد على موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لاقى عقاباً فوريأ.
فالنخب الحاكمة في هذه الدول، (كلها دولة إسلامية باستثناء جورجيا وأرمينيا)، هي ربيبة الثقافة السوفييتية الروسية، ولم يكن أغلبها يعلم لغة ثانية غير الروسية، و(بعضها الروسية لغته الأولى)، ولا حضارة إلا حضارة موسكو، وهم يحتاجون لدعم روسيا في مواجهة شعوبهم، ومخاوفهم من تصاعد المطالبات بالديمقراطية أو إعلاء الهوية الوطنية القائمة على الإسلام.
كما أن الجغرافيا جعلت مصيرها في يد روسيا، فدول آسيا الوسطى والقوقاز التي تقع في قلب العالم، لا تلاصق أي بحار سوى بحر قزوين المغلق (باستثناء جورجيا)، والطرق التي تربطها بالعالم، لا تمر إلا عبر ثلاث قوى كبرى استبدادية، وهي روسيا والصين وإيران (إضافة لأفغانستان المضطربة)، وهناط طريق وحيد يربط أذربيجان وأرمينيا بالبحر الأسود عبر جورجيا.
وقدمت جورجيا درساً واضحاً للآخرين، إذ أدت محاولتها التمرد على موسكو لتعرضها لأولى حروب موسكو الخارجية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 2008، حيث تركها الغرب فريسة للدب الروسي الذي انتزع جزءاً من أراضيها، بينما عانت أذربيجان من العقاب الروسي قبل ذلك عبر دعم موسكو لأرمينيا في حربها الأولى مع باكو عقب استقلال البلدين عن موسكو.
وإن كانت أذربيجان نجحت في الحفاظ على قدر من الاستقلال والعلاقة المتوازنة مع موسكو والغرب، مستندة في ذلك لثراء مواردها الطبيعية وحاجة الغرب لها بسبب نفطها من ناحية، ولمناكفة طهران من ناحية أخرى، ثم أخيراً التحالف الوثيق مع تركيا الذي أثمر انتصاراً أذربيجانياً على أرمينيا في عام 2020.
أما أرمينيا، فهي لا تنظر للعالم إلا بعدسة واحدة، هي عداؤها لأذربيجان وتركيا، وهو أمر، أفضى لارتمائها الكامل في أحضان روسيا وإيران، ورغم ذلك فإن موسكو وضعت حدوداً لدعمها ليريفان حتى لا تفقد العلاقة مع باكو تماماً، وطهران مضطرة للجم اندفاعها في دعم أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية، حتى لا تستفز الأقلية الأذربيجانية الكبيرة داخل إيران.
ولكن بصفة عامة كانت موسكو هي مفتاح العالم الخارجي لأنظمة هذه البلاد وراعيها الأمني ومنسق حل خلافات (أو إشعالها حسب الظروف)، مع دور اقتصادي صيني وتركي وأمريكي وإيراني يتنامى تدريجياً، ولكن ببطء، ودون أن يكون بديلاً للنفوذ الروسي.
ولكن اليوم يبدو واضحاً أن مصالح جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا الوسطى والقوقاز (باستثناء أرمينيا) تتعارض مع روسيا بشكل غير مسبوق، وأن روسيا لم تعد أن تكون ممراً بين هذه الدولة وبقية العالم.
فبعد أن فرض الغرب على روسيا أكبر عقوبات في التاريخ، أصبحت موسكو هي العقبة الرئيسية بين هذه الدول وبقية العالم!
هل تحاول أذربيجان استغلال انشغال روسيا لتحقيق هدفها التاريخي؟
في وقت فرض فيه الغرب حصاراً على روسيا، فإنه يحتاج لبدائل للنفط والغاز الروسيين اللذين يتوفران بكثرة في كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان، ولكن هذا النفط ليس هناك طريق لتصديره لأوروبا سوى عبر روسيا أو من هذه الدول لإيران، ثم تركيا وهو طريق طويل وطهران بدورها خاضعة لعقوبات غربية.
ولا يوجد وسيلة أخرى إلا عبر نقله من آسيا الوسطى عبر بحر قزوين، إلى أذربيجان ومنها جورجيا، وبالفعل هناك أنابيب لتصدير الغاز بالفعل حالياً بين أذربيجان وجورجيا.
وتعمل تركيا وتركمانستان على صفقة، تشمل استيراد أنقرة للغاز من تركمانستان وتصديره إلى بلغاريا، ومن المرجح أن تمتد الصفقة إلى أوروبا، في محاولة لتقليل اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-monitor الأمريكي.
ممر زانجيزور بين أذربيجان وتركيا قد ينهي الاحتكار الروسي للمنطقة
ولكن من الواضح أن رهان أذربيجان الحقيقي هو على ما يعرف بـ"ممر زانجيزور"، وهو ممر مقترح وفقاً للاتفاق الذي عقد بوساطة روسيا لإنهاء الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.
ويفترض أن يربط هذا الممر بين أذربيجان وجمهورية ناختشيفان وهي إقليم أذربيجاني يتمتع بالحكم الذاتي، ولكنه مفصول عن بقية أراضي أذربيجان بمنطقة أرمينية تدعى زانجيزور، كما أنه ملاصق لتركيا من جهة الغرب.
وينص اتفاق إطلاق النار بين البلدين على أنه "يجب إلغاء حظر جميع الروابط الاقتصادية والنقل في المنطقة، على أن تضمن جمهورية أرمينيا أمن اتصالات النقل بين أذربيجان وجمهورية ناختشيفان الأذربيجانية".
وتعتقد أذربيجان اعتقاداً راسخاً أن المادة 9 تشمل فتح ما يُعرف باسم ممر زانجيزور بين ناختشيفان وبقية أذربيجان.
وعلى الرغم من أن روسيا، التي من المفترض أن يكون حرس حدودها مسؤولين عن الإشراف على النقل بين أذربيجان وأرمينيا، لا تشير إلى الطريق على أنه ممر زانجيزور ولا على أنه "ممر"، إلا أنها تدعم افتتاحه.
ولكن أرمينيا رفضت ذلك مؤخراً، رغم أنها شاركت في مفاوضات مع باكو حول الموضوع، حيث قال رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان بعد الاشتباك الأخير إن أرمينيا لن توافق على إنشاء ممر على أراضيها، لكنها مستعدة لفتح خطوط المواصلات لجميع الجيران، بما فيها أذربيجان.
وسيلعب هذا الممر، دوراً حاسماً في زيادة الاتصال الإقليمي- ليس فقط في جميع أنحاء القوقاز، ولكن أيضاً عبر أوراسيا الكبرى، حيث يصل آسيا الوسطى وأذربيجان بالأراضي التركية، أي يربط أوروبا بآسيا، وهو أمر ازدادت أهميته بعد اندلاع حرب أوكرانيا وتوقف دور روسيا كممر للنقل بين أوروبا وآسيا الوسطى.
أي إن هذا الممر يحقق مصالح كبيرة، لجمهوريات آسيا الوسطى وينهي اعتمادهما في النقل التجاري على روسيا، كما أنه طريق محتمل للحصول على الطاقة لأوروبا وتركيا.
في المقابل، فإن روسيا وإيران وأرمينيا، قلقون من هذا الممر، وبينما لم تعارضه روسيا بشكل صريح، فإن يريفان رفضته، رغم تأكيد أذربيجان أنها ترغب في ترتيبات لا تمس سيادة أرمينيا.
وكان لافتاً في هذا الصدد أن إيران أعلنت أنها لا تقبل أي تغيير في الحدود بين أذربيجان وأرمينيا، وذلك في اتصال هاتفي، أجراه وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، مؤخراً مع نظيره الأذربيجاني، جيهون بيرموف.
وأضاف أن بلاده تعتبر الحدود بين إيران وأرمينيا، ممراً تاريخياً ينبغي الحفاظ عليه بعيداً عن أي تغيير، في إشارة لا تخطئها عين إلى رفض طهران لإنشاء "ممر زانجيزور" رغم أنه سيربط بين أذربيجان وبقية أراضيها المفصولة عنها.
ولكن مع تورط الجيش الروسي في حرب أوكرانيا، تبدو جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز أكثر حرية في التعبير عن إرادتهم حتى لو يصل الأمر للتمرد الصريح على موسكو، بعد أن تبين لهم حدود قدرات روسيا التي كانوا يرونها دوماً جبارة.
وقال محللون إن أذربيجان قررت بالفعل اختبار الوضع، بينما كانت روسيا تكافح في أوكرانيا. ولطالما دعمت روسيا أرمينيا في نزاعها الإقليمي مع أذربيجان على مدى ثلاثة عقود منذ سقوط الشيوعية.
وقال توم دي وال، الزميل الأول في مؤسسة كارنيغي أوروبا: "تشعر أذربيجان بثقة تامة في هذه اللحظة الجيوسياسية، ولا سيما في الوقت الحالي أثناء الهجوم المضاد الأوكراني". "يبدو أن هذا يستهدف روسيا تماماً بقدر ما يستهدف أرمينيا، مما يمثل اختباراً لالتزام موسكو بالدفاع عن أرمينيا"، حسبما نقل عنه تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
أرمينيا طلبت دعماً من روسيا، ولكن الأخيرة حاولت إنقاذ الهدنة
وقالت روسيا إنها توسطت في وقف إطلاق النار يوم الثلاثاء. اتفق الطرفان على نشر قوة حفظ سلام روسية كجزء من هدنة لإنهاء الحرب الشاملة في عام 2020، ولكن بينما تركز يريفان على أنه تم التوصل لمثل هذا الاتفاق، فإن باكو لا تشير إليه كثيراً.
ناشدت أرمينيا الحصول على دعم عسكري من منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) ، وهي اتفاقية دفاع مشترك تضم عدداً من الجمهوريات السوفييتية السابقة، تهيمن عليها روسيا، لكن موسكو مترددة في التدخل المباشر.
قال توم دي وال: "من الواضح أن روسيا تراوغ، سواء لأنها تحت ضغط كبير في أوكرانيا أو لأنها لا تريد خوض معركة مباشرة أو غير مباشرة مع أذربيجان في هذه المرحلة"، خاصة أن أنقرة أثبتت أنها حليف قوي لباكو.
اشتباكات قيرغيزستان وطاجيكستان مؤشر لتراجع هيبة موسكو في جمهوريات الاتحاد السوفييتي
من ناحية أخرى، اندلعت اشتباكات على الحدود بين قيرغيزستان وطاجيكستان مؤخراً، مما أسفر عن مقتل أحد حرس الحدود وإصابة 5 آخرين في طاجيكستان، وفقاًَ لتقارير محلية.
في حين أن هذا الحادث لا يرتبط ارتباطاً مباشراً بالحرب في أوكرانيا ، إلا أنه مؤشر على تراجع هيمنة موسكو، وقدرتها على توجيه دول المنطقة.
فقد وقع الاشتباك، على الرغم من أن روسيا تتمتع تقليدياً بعلاقات جيدة مع كلا البلدين، ويقول المحللون إن الغزو الروسي قد غيّر تماماً ميزان القوى في منطقة كانت لسنوات ساحة تنافس بين روسيا والصين وتركيا والغرب وإيران، تفوقت فيها موسكو تقليدياً.
التمرد بدأ عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا مباشرة
أثارت الحرب الروسية في أوكرانيا قلق قادة دول آسيا الوسطى، الذين طالما قبلوا بنفوذ موسكو الاقتصادي والسياسي القوي.
كانت الدول السوفييتية الخمس السابقة – كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان- متحفظة على تأييد الحرب التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما أن عزلتهم الجغرافية واعتمادهم المستمر على روسيا في طرق التصدير والمساعدة الأمنية وأسواق العمل جعلتهم مترددين أيضاً في إدانة تصرفات بوتين.
خوفاً من أن تنقلب موسكو على آسيا الوسطى، كما اقترح بعض الشخصيات الروسية البارزة بالفعل، حاول قادة المنطقة التحوط في مواقفهم إزاء أزمة أوكرانيا، بطرق قد تجدها موسكو مزعجة، حسبما ورد في تقرير لموقع قناة الجزيرة باللغة الإنجليزية.
على سبيل المثال، لم تقف أي دولة في آسيا الوسطى إلى جانب موسكو في 2 مارس/آذار أو 24 مارس/آذار عند التصويت على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أدانت الغزو الروسي لأوكرانيا. وإما سجلوا رسمياً امتناعهم عن التصويت أو ببساطة لم يصوتوا على الإطلاق.
وبعد فرض العقوبات الغربية، رفض أعضاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) مثل كازاخستان وقيرغيزستان قبول الرسوم الجمركية من روسيا بالروبل.
يثير هذا القرار، الذي ألمحت إليه أرمينيا أيضاً، تساؤلات حول تماسك الكتلة، التي لطالما كانت مبادرة بوتين الأليفة لدمج المنطقة، على الرغم من أنها لم تتقدم كثيراً منذ إطلاقها عام 2014.
تشير تصرفات أخرى إلى مقاومة أكبر لموسكو من قبل دول المنطقة، أكثر مما أشارت إليه البيانات الدبلوماسية الأولية، حيث اعترضت قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان على سبيل المثال على تفسيرات الكرملين للمكالمات الهاتفية الرئاسية الثنائية التي أشارت إلى دعم أكبر للحرب الروسية في أوكرانيا، مما كان قادة آسيا الوسطى مستعدين للاعتراف به.
وفي الوقت الذي تكافح فيه الحملة العسكرية الروسية، وأصبح مدى المعاناة الإنسانية في أوكرانيا واضحاً بشكل متزايد، انتقلت حكومات كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان إلى ما هو أبعد من التعبير الصامت عن القلق إلى نقد أكثر صراحة. حيث سمحوا ببعض الاحتجاجات المناهضة للحرب، وسمحوا كذلك لمنظمات المجتمع المدني بجمع المساعدات الإنسانية لأوكرانيا، وشددوا القيود على العروض المحلية للعلامة "Z " التي يضعها الجيش الروسي في أوكرانيا ويستخدمها مؤيدو الحرب للإشارة لدعمهم لموسكو. كما كررت هذه الحكومات الثلاث التزامها بوحدة أراضي أوكرانيا.
كازاخستان حليف روسيا المقرب يرفض دعم حربها
في يناير/كانون الثاني 2022، عندما هزت موجة من الاحتجاجات كازاخستان، وافق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على نشر قوة تابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا في البلاد. كانت المهمة قصيرة ولم تشارك في أي قتال، لكنها كانت كافية لدعم رئاسة قاسم جومارت توكاييف.
مع هذا التدخل الداعم لرئيس كازاخستان، وحفاظ القوات الروسية على السلام بين أرمينيا وأذربيجان ، وحشد الكرملين لقواته على الحدود مع أوكرانيا، بدا أن بوتين يتمتع بنفوذ أكبر من أي وقت مضى في الفضاء السوفييتي السابق.
ولكن قد تفكك الكثير من ذلك جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، وخاصة في الأسبوع الماضي؛ حيث أدى التقدم السريع لأوكرانيا إلى وضع خطط بوتين الحربية في حالة من الفوضى.
قال برويرز: "إننا نشهد انهيار سمعة روسيا كراع أمني، وهو ما يحدث على المستوى المادي مع تركيز القوة الهائل على أوكرانيا، ولكن أيضاً على المستوى الذاتي لسمعة الضمانات الأمنية الروسية".
في جميع أنحاء المنطقة، صدم غزو أوكرانيا الحلفاء الروس وأثار قلقهم، لكنه شجعهم أيضاً على اتخاذ موقف أكثر قوة مع موسكو.
وكان العديد من المحللين يعتقدون أن الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف سيكون مديناً تماماً لموسكو بعد أن ساعده تدخل منظمة معاهدة الأمن الجماعي المدعومة من روسيا في تأمين قبضته على السلطة وسط الاضطرابات الداخلية العنيفة.
ومع ذلك، أظهرت حكومة توكاييف استقلالاً عن الكرملين أكبر كثيراً مما كان متوقعاً، معلنةً حيادها ورفضت طلباً روسياً لانضمام القوات الكازاخستانية إلى القتال.
كما أعلنت وزارة الخارجية الكازاخستانية أنها لن تعترف باستقلال ما يسمى بجمهوريات دونيتسك ولوهانسك الشعبية، وكان لافتاً أن الرئيس الكازاخستاني بنفسه قد برر هذا الموقف بأنه متسق مع القانون الدولي.
الرأي المحلي الكازاخي تجاه الحرب مختلط – وهذا ليس مفاجئاً نظراً لتغلغل وسائل الإعلام الروسية بشكل مكثف وجود نسبة كبيرة من ذوي الأصول الروسية في البلاد (ونسبة أقل من ذوي الأصول الأوكرانية).
ومع ذلك، فقد سمحت حكومة كازاخستان أو تسامحت مع العديد من الاحتجاجات المناهضة للحرب، وأعربت عن استيائها من موسكو بشكل ضمني، من خلال السماح بالنقاش العام في وسائل الإعلام حول ما إذا كان ينبغي للبلاد أن تظل منظمة معاهدة الأمن الجماعي وعضواً في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
ورداً على محتوى مؤيد لروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي، حذرت الحكومة الكازاخستانية من الإدلاء بتعليقات "استفزازية" حول النزاع، أو إثارة التوتر العرقي، أو التشكيك في وحدة أراضي كازاخستان.
وأوقفت شركة طيران أستانا، شركة الطيران الرئيسية في البلاد التي يشترك في ملكيتها صندوق الثروة السيادي الكازاخستاني وشركاء بريطانيون، جميع الرحلات الجوية إلى روسيا، ظاهرياً بسبب صعوبات التأمين، على الرغم من أن مخاطر الخوف من سمعة قبل طرح عام أولي للشركة في البورصة قد تكون أيضاً أحد العوامل، حسب تقرير لمركز Carnegie الأمريكي.
روسيا تهين كازاخستان وتنكر وجودها والصين ترد بدعمها
أثارت كازاخستان غضب الكثيرين في موسكو، بمحاولتها البقاء على الحياد بشأن أزمة أوكرانيا، ورفضها الاعتراف بالأراضي التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا، ووعودها بعدم مساعدة جهود روسيا للالتفاف على العقوبات الغربية.
دفع هذا البعض في موسكو إلى التشكيك في سيادة كازاخستان، بما في ذلك رئيس الوزراء الروسي السابق دميتري ميدفيديف، الذي وصفها بـ"دولة مصطنعة" في منشور حذفه لاحقاً.
لكن بينما تظل كازاخستان حذرة من التهديدات طويلة المدى من جارتها الأكبر روسيا، هناك آخرون مستعدون للتدخل وسد الفجوة، حسبما ترى صحيفة الغارديان البريطانية.
فلقد وصل الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الأربعاء الماضي إلى كازاخستان فيما يُعتقد أنه أول رحلة له إلى الخارج منذ بداية انتشار جائحة كوفيد.
وقال في بيان بدا أنه مصمم جزئياً لتوبيخ الكرملين: "سنواصل دعم كازاخستان بحزم في حماية استقلالها وسيادتها وسلامة أراضيها".
أوزبكستان صديق روسيا المخلص تنأى بنفسها عن الحرب
تعد أوزبكستان التي تستضيف "قمة رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون" دولة شديد الأهمية في منطقة آسيا الوسطى، فرغم أنها ليست دولة غنية بالطاقة مثل كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان، ولكنها أكثر دول المنطقة سكاناً ومركزها الحضاري التاريخي حيث يوجد بها المدن العريقة الرئيسية في آسيا الوسطى مثل بخارى وسمرقند.
في 17 مارس/آذار 2022، مع اشتداد حرب موسكو على أوكرانيا، أصدرت أوزبكستان موقفاً بدا مفاجئاً للمراقبين، حيث قال وزير الخارجية عبد العزيز كاملوف، متحدثاً في الجلسة المكتملة لمجلس الشيوخ الأوزبكي، "أولاً، يجب وقف الأعمال العسكرية والعنف على الفور". وأكد أن جمهورية أوزبكستان تعترف باستقلال أوكرانيا وسيادتها وسلامتها الإقليمية، وأنها لن تعترف بالأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا كدول مستقلة.
وقال تيمور عمروف، الزميل في مركز كارنيغي في موسكو، لقناة الجزيرة: "قبل الحرب، كانت أوزبكستان تقترب خطوة واحدة من الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وقد شارك ميرزيوييف حتى في اجتماع لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي". لكن أعتقد أن أوزبكستان ستحاول الآن أن تنأى بنفسها عن موسكو.
وتحذِّر مواطنيها من الانضمام للجيش الروسي
مثل دول آسيا الوسطى الأخرى، لا تزال الحكومة في طشقند مترددة في إلقاء اللوم في إشعال الحرب على جهة معينة. وقد أعربت عن "قلقها العميق" وحثت على حل دبلوماسي لإنهاء "النشاط العسكري والعدوان" لتنأى بنفسها عن تصرفات موسكو.
وكدولة استبدادية، لم تسمح أوزبكستان للمظاهرات المناهضة للحرب وكبحت جماح التغطية المستقلة للحرب على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك ، فقد سمحت بممارسات محدودة لدعم كييف، بما في ذلك عرض العلم الأوكراني في مواقع بارزة في طشقند وسمرقند، وتسامحت البلاد مع التجمعات الصغيرة خارج السفارة الأوكرانية. لا يمكن أن يحدث أي منهما دون موافقة حكومية. أرسلت أوزبكستان، إلى جانب قيرغيزستان وكازاخستان، مساعدات إنسانية وإمدادات طبية إلى أوكرانيا.
وحذرت الحكومة في أوزبكستان المهاجرين الأوزبكيين في روسيا، الذين يخضعون للتجنيد في الجيش الروسي، من أن الخدمة في جيش أجنبي يمكن أن تعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات- وهو تحذير واضح للأوزبك للابتعاد عن النزاع. علاوة على ذلك، بينما يكافح الجيش الروسي أمام المقاومة الأوكرانية، ازدادت علو الأصوات في طشقند الداعمة لكييف.
من جانبها، تتجنب قيرغيزستان استعداء موسكو أو مواطنيها الذين يدعمون الحرب.
قبل الغزو، حاكى الرئيس القرغيزي صادر جاباروف نقاط الحديث الروسية ليشير إلى أن اعتراف موسكو بدونيتسك ولوهانسك ربما كان مبرراً.
وبحسب ما ورد تحت ضغط من موسكو، حظرت حكومة جاباروف أيضاً الاحتجاجات المناهضة للحرب في بيشكيك وفرضت غرامات على المتظاهرين.
على الرغم من أن ذلك لم يمنع المتظاهرين من التجمع أو الجهات الفاعلة في المجتمع المدني من التحدث علانية.
ومع ذلك، لا تزال المناقشات العامة حول مستقبل قيرغيزستان في المنظمات الإقليمية التي تتخذ من روسيا مقراً لها جارية. خلال مقابلة تلفزيونية رسمية في 20 مارس/آذار، شدد نائب رئيس مجلس الوزراء القرغيزي على أن لكل دولة الحق في "تحديد سياساتها الداخلية والخارجية" بموجب ميثاق الأمم المتحدة. كما كرر وزير خارجية قيرغيزستان التزام البلاد بمبدأ وحدة الأراضي، ودعا إلى إنشاء ممرات إنسانية مستقرة في أوكرانيا – وكلاهما انتقادات ضمنية لموسكو.
هل تسحب الصين البساط من تحت موسكو؟
وبينما تمثل قمة منظمة شنغهاي التي تضم نصف سكان العالم، فرصة لبوتين لإثبات أنه لا تزال هناك قوى عالمية كبرى متعاطفة مع روسيا، لكنها أيضاً فرصة لتسليط الضوء على أنه بينما تظل روسيا لاعباً إقليمياً قوياً، فقد تغيرت ديناميكية القوة بالمنطقة، حسب صحيفة the Guardian.
وقال تيمور عمروف، الزميل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "ترى العديد من دول آسيا الوسطى أن روسيا بحاجة إليهم أكثر من أي وقت مضى، وهم يحاولون الآن الضغط عليها قدر المستطاع".
ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالاقتصاد، كان جزءاً من الإرث الأمني والسياسي المشترك لأنظمة آسيا الوسطى مع موسكو الخوف من الحركات المطالبة بالديمقراطية أو صعود الإسلام السياسي أو الثقافي الذي يحيي تراث المنطقة الذي أباده الروس في العهدين القيصري والسوفييتي.
ولكن الهجوم الروسي على أوكرانيا (أكبر جمهورية سوفييتية سابقة سكاناً بعد روسيا)، أخاف بلدان آسيا الوسطى والقوقاز من أيدولوجية موسكو الإمبراطورية التي بررت غزوها لأوكرانيا.
فإنكار أن أوكرانيا أمة حقيقية، أو المطالبة بضم جزء من أراضيها بدعوى أنها كانت جزءاً من روسيا، أو أن سكانها يتحدثون الروسية أو من أصول روسية، هي مبررات يمكن بسرعة استخدامها ضد باقي جمهوريات الاتحاد السوفييتي التي ينطبق عليها نفس الأوضاع تقريباً.
ويزيد الطين بلة أن جمهوريات آسيا الوسطى لا تشترك مع روسيا في الإرث المسيحي الأرثوذكسي، وليسوا أبناء عمومة الروس كالأوكرانيين (الشعبان ينتميان للجنس السلافي)،.
فإذا كانت موسكو تفعل ذلك في أقرب الشعوب إليها، فماذا يمكن أن تفعل في شعوب آسيا الوسطى الإسلامية.
وفي الأغلب يزداد القلق، خاصة في كازاخستان، التي لديها أقلية روسية كبيرة، وتلاصق موسكو، وهي دولة غنية بالموارد، وهناك ادعاءات روسية بحقها مماثلة لما تقوله موسكو عن أوكرانيا، حيث تزعم تقارير إعلامية روسية بأن الاتحاد السوفييتي ظلم روسيا عندما منح كازاخستان جزءاً من أراضيها.
غير أن جمهوريات الاتحاد السوفييتي في آسيا الوسطى، أكثر حصافة من كييف، التي ما انفكت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في تحدي موسكو في الوقت الملائم وغير الملائم، مما وفر للأخيرة ذريعة لاقتناص القرم منها عام 2014.
ولكن يبدو أن جمهوريات آسيا الوسطى تسعى لنيل استقلال بطيء وتدريجي (وليس طلاق) عن موسكو، ولكنها لن ترتمي بالضرورة في حضن الصين مثلما فعلت كييف مع الغرب، بل يبدو أنها تسعى كذلك لعلاقات وثيقة مع تركيا والغرب وإيران على امل تنويع تحالفاتها.