رفع فولوديمير زيلينسكي والغرب سقف طموحاتهم بعد الانتصارات التي حققتها القوات الأوكرانية في خاركيف، فكيف يمكن أن يكون رد الفعل الروسي في حالة ضاق الخناق على الدب المسلح نووياً؟
الرئيس الأوكراني قام، الأربعاء 14 سبتمبر/أيلول، بزيارة مفاجئة إلى مدينة إيزيوم في خاركيف، وهي المدينة التي كانت حتى قبل أقل من أسبوع تمثل المعقل الرئيسي لروسيا في المنطقة، وأشرف زيلينسكي على رفع العلم الأوكراني أمام مبنى مجلس البلدية المتفحم تماماً.
كانت القوات الأوكرانية قد حققت اختراقاً في صفوف القوات الروسية من خلال هجوم مضاد خاطف منذ مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، وتوغلت في أراضٍ كانت القوات الروسية تسيطر عليها منذ بدايات الحرب، التي اندلعت يوم 24 فبراير/شباط الماضي.
الهجوم الأوكراني أجبر القوات الروسية على الانسحاب من منطقة خاركيف في شمال شرق أوكرانيا، مخلفة وراءها عتاداً عسكرياً ضخماً، في مؤشر على أن الانسحاب جاء مباغتاً ودون خطة، وهي المرة الأولى منذ بداية الهجوم، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة، بينما يصفه الغرب بأنه غزو، التي تجبر فيها روسيا على الانسحاب من أراضٍ أوكرانية استولت عليها.
صحيح أن روسيا كانت قد سحبت قواتها من محيط العاصمة الأوكرانية كييف وباقي أقاليم ومدن غرب أوكرانيا، وذلك خلال أبريل/نيسان الماضي، لكن موسكو وصفت ذلك بأنه نهاية المرحلة الأولى من عمليتها العسكرية، وأن الجيش الروسي أعاد تمركز قواته في الأقاليم الشرقية والجنوبية، لبدء المرحلة الثانية، وهي السيطرة على إقليم دونباس بالأساس.
هل حدث "انقلاب" في الحرب الأوكرانية؟
يمثل هذا السؤال المنطلق الرئيسي لفهم ما قد تعنيه الانتكاسة الروسية في خاركيف لأكثر من سبب، أولها أن هذه هي المرة الأولى التي تخسر فيها روسيا أراضي سيطرت عليها وتجبر على الانسحاب والتقهقر سريعاً أمام هجوم القوات الأوكرانية، وثانيها أن استمرار هذا النمط على الأرض يفتح الباب أمام احتمال تعرض موسكو لهزيمة عسكرية كبرى تجبرها على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية بشكل كامل.
نعم، الرئيس الأوكراني يرفع شعار "النصر"، ويردد أنه لابد من "تحرير كامل الأراضي الأوكرانية"، لكن هذه الشعارات أصبحت الآن مقترنة بتحول عسكري على الأرض لصالح الأوكرانيين، وهو ما يعطي دفعة معنوية هائلة لهم ولداعميهم الأمريكيين والأوروبيين.
وفي هذا السياق، لا أحد يجادل في أن الحرب مواجهة بين روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فالأزمة الأوكرانية بالأساس أزمة جيوسياسية يعكسها توصيف كل طرف لطبيعة تلك الحرب. إذ إن موسكو تصفها بأنها "عملية عسكرية خاصة ذات أهداف محددة"، بينما يصفها الغرب بأنها "غزو وعدوان لا مبرر له".
واختلاف التوصيف هنا يفسر طبيعة الأزمة، فروسيا وزعيمها فلاديمير بوتين يرى في سعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو تهديداً مباشراً لأمن موسكو القومي، وأيضاً خرقاً لوعدٍ قطعته واشنطن على نفسها، عندما تفكك الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 3 عقود، بألا يتمدد حلف الناتو شرقاً نحو حدود روسيا. أما إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فترى أنه ليس من حق روسيا أن تملي على حلف الناتو وأوكرانيا كيفية التعامل.
على أية حال، بالعودة إلى التغيير الكبير الذي شهدته ساحة المعركة، نجد أن هناك تحفظاً من جانب الأمريكيين تحديداً، والغرب عموماً، في توصيف ما حدث على أنه "انقلاب" في مسار الحرب، أو أن روسيا أصبحت قريبة من التعرض لهزيمة عسكرية تجبرها على الانسحاب من أوكرانيا ورفع الراية البيضاء.
زيلينسكي نفسه وصف الانتصارات الأوكرانية بأنها "قد تمثل انفراجة في الحرب المستمرة منذ 6 أشهر، مع إمكانية استعادة المزيد من الأراضي في الشتاء إذا حصلت كييف على أسلحة أقوى".
ورغم تلك الانتصارات الميدانية التي حققتها القوات الأوكرانية في الشرق، لا يزال واضحاً أن أوكرانيا أبعد ما تكون عن تحقيق "أي انتصار حاسم"، بحسب توصيف أولينيسكي ريزنيكوف، وزير الدفاع الأوكراني نفسه. فالقوات الروسية تسيطر على إقليم دونباس بصورة شبه كاملة، وهو أحد الأهداف الرئيسية للحرب، إن لم يكن هدفها الوحيد الآن من وجهة النظر الروسية، بحسب شبكة CNN الأمريكية.
كيف قد يكون رد الفعل الروسي؟
يرى أغلب المحللين المستقلين أن رد الفعل الروسي على الاختراق الأوكراني في جبهة خاركيف سيكون مرتبطاً بشكل أساسي بمدى استمرارية تلك الاستفاقة العسكرية الأوكرانية في ساحة المعركة من جهة، وانعكاس ذلك على جبهة القتال الرئيسية في دونباس ومنطقة خيرسون في الجنوب من جهة أخرى.
ففي نهاية المطاف، إذا ما استمر تقدم القوات الأوكرانية، التي أصبحت بالفعل قريبة من الحدود الروسية من خلال ما حققته من انتصارات مباغتة في منطقة خاركيف، ووجدت القوات الروسية نفسها في مواجهة شبح الهزيمة العسكرية، كيف يمكن أن يكون رد فعل بوتين؟ روسيا دولة نووية عظمى وتمتلك أسلحة نووية أكثر عدداً وتنوعاً من أي دولة أخرى على الكوكب، بما فيها القوات الأمريكية نفسها، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات أقلها سوءاً يمثل رعباً حقيقياً.
فروسيا يمكنها أن تلجأ إلى استخدام ما يعرف بالأسلحة النووية التكتيكية، وهي قنابل وقذائف ورؤوس نووية صغيرة الحجم، ومنها ما يقول الغرب إن موسكو قد نشرتها بالفعل على الأراضي الأوكرانية، وسيكون الغرض في هذه الحالة هو إدخال الرعب في قلوب الأوكرانيين ودفعهم إلى الاستسلام.
الأسلحة النووية التكتيكية، التي يفضل الخبراء تسميتها بالأسلحة غير الاستراتيجية، عبارة عن قذائف قدرتها التدميرية صغيرة نسبياً، إذ تحمل متفجرات لا تزيد عن عدة أطنان أو أقل. على سبيل المثال القنبلة B61-12 الأمريكية هي سلاح تكتيكي نووي يمكن التحكم في حجم تفجيره ليصبح أقل من ثلث كيلوطن، وهو ما يمثل واحداً إلى خمسين من حجم القوة التفجيرية للقنبلة النووية التي تم إسقاطها على مدينة ناجازاكي اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، بحسب تقرير لمجلة The Economist البريطانية. كما أن تفجير مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت عام 2020 نتيجة لانفجار شحنة ضخمة من نيترات الأمونيوم يعطي فكرة ما عما قد يسببه تفجير سلاح نووي تكتيكي.
هذا السيناريو تحديداً حذرت منه روز غوتيمولر، النائبة السابقة للأمين العام لحلف الناتو، بقولها لهيئة الإذاعة البريطانية، إن الخسائر الميدانية في خاركيف قد تدفع بوتين إلى استخدام الأسلحة النووية: "إن التأمل في طريقة تصرف بوتين وزمرته خلال هذه الأزمة يجعلني أخشى أن يردوا الآن بطرق غير متوقعة حقاً قد تبلغ حد استخدام أسلحة الدمار الشامل".
المسؤولة السابقة في حلف الناتو قالت إن الرد النووي الروسي يمكن أن يتم عبر "ضربة واحدة فوق البحر الأسود، أو ضربة ضد منشأة عسكرية أوكرانية. لإثارة الرعب، ليس فقط في قلوب الأوكرانيين"، بل أيضاً حلفاء كييف. وتابعت: "الهدف هو حث الأوكرانيين المرعوبين على الاستسلام.. حالياً أنا قلقة من هذا السيناريو".
هل تندلع حرب نووية فعلاً؟
السيناريو الآخر الأكثر رعباً بطبيعة الحال هو اندلاع مواجهة نووية مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، وهذا تحديداً ما حذر منه مرة أخرى الرئيس الروسي السابق ديميتري مدفيديف عبر قناته على منصة تليغرام.
إذ وجه مدفيديف، الحليف الوفي للرئيس بوتين وذراع اليمنى، رسالة مباشرة إلى الدول الغربية، الثلاثاء 13 سبتمبر/أيلول، مفادها أن حرباً عالمية ثالثة ومواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والناتو هي سيناريو وارد، في حال استمر ضخ الأسلحة والدعم العسكري من الغربيين إلى كييف، وهو ما اعتبره مدفيديف "حرباً بالوكالة لإضعاف روسيا".
وقال مدفيديف إن بلاده ستواصل هجومها بهدف استسلام أوكرانيا، مضيفاً: "الحملة العسكرية ستنتقل عاجلاً أم آجلاً إلى مستوى آخر". وصرح في حديثه عن الشعوب الغربية: "كل شيء يشتعل من حولهم. سوف يحرقون الأرض حرفياً ويذوّبون الخرسانة. الجميع سيكون في حال سيئة للغاية". بحسب تحليل لموقع فرانس24.
غوتيمولر، من جانبها، استبعدت استخدام الروس للأنظمة الاستراتيجية المركزية، أو الصواريخ البالستية العابرة للقارات، أو الصواريخ التي يتم إطلاقها من الغواصات، وهي موجهة خصيصاً نحو الولايات المتحدة.
نعم، الوصول إلى مرحلة إطلاق روسيا أسلحتها الاستراتيجية، وهو المصطلح المستخدم للأسلحة النووية، يمثل ولا شك المرحلة الأخيرة في المواجهة الحالية مع الغرب، لكن الجزم باستبعاد هذا السيناريو لا يبدو منطقياً، قياساً على ما وصلت إليه الأمور حتى اليوم.
فقبل أن تندلع الحرب، سواء أكانت "عملية عسكرية" أم "غزواً"، كان هناك فريق من المراقبين والمحللين يرون أنها مستبعدة، وأن بوتين وبايدن سيتوصلان في نهاية المطاف إلى اتفاق يجنب أوروبا والعالم ويلات وتداعيات لا أحد يمكنه توقعها. إذ إنه في نهاية المطاف، كان بوتين يريد ضمانات قانونية ملزمة بأن أوكرانيا لن تنضم لحلف الناتو، والجمهورية السوفييتية السابقة غير مؤهلة أصلاً للانضمام إلى الحلف العسكري الغربي ولا حتى للاتحاد الأوروبي، بشهادة المسؤولين الغربيين أنفسهم، بسبب الفساد المستشري فيها.
لكن الحسابات السياسية والمواقف الداخلية لبعض السياسيين الغربيين، وخصوصاً بايدن ورئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، أدت إلى وصول الأزمة للحظة الانفجار واندلعت الحرب. وهنا لابد من استعادة صرخة زيلينسكي نفسه الغاضبة: "أوكرانيا ليست تايتانيك"، يوم 28 يناير/كانون الثاني الماضي، اعتراضاً على قرار واشنطن ولندن سحب العاملين في سفارتي البلدين لدى كييف.
الآن من يمكنه استبعاد استمرار الإصرار الغربي في محاولة سحق بوتين وإضعاف روسيا للأبد؟ لا أحد بطبيعة الحال، خصوصاً إذا كان الدعم الغربي غير المسبوق لكييف وترسانات الأسلحة المتدفقة قد بدأت تؤتي أكلها أخيراً، وحقق الأوكرانيون انتصارات واضحة في خاركيف. والآن أعلن زيلينسكي ووزير دفاعه أن الهدف هو تحرير إقليم دونباس بالكامل، ويطالبون بالمزيد من الأسلحة الغربية المتطورة.
من يمكنه أن يتوقع رد فعل بوتين إذاً؟ لا أحد. لكن من المهم هنا الأخذ في الاعتبار أن القوات الروسية لم تتعرض للانهيار كما يريد البعض في الغرب، وربما تكون خطوة إقدام الجيش الروسي على استدعاء قوات الاحتياط (أكثر من مليونين ممن قضوا خدمتهم العسكرية خلال السنوات الخمس الماضية) أبرز الأدلة على الضغوط التي تعاني منها روسيا في ساحة المعركة، وهذه الخطوة لم تحدث أصلاً.
الخلاصة هنا هي أن سيناريو استخدام روسي للأسلحة النووية التكتيكية يظل وارداً حال استمرار الانتصارات الأوكرانية، كما لا يمكن استبعاد اندلاع حرب عالمية ثالثة تنطلق خلالها الأسلحة الاستراتيجية (النووية) ليبدأ عصر الرعب النووي بالفعل، ويتوقف كل ذلك على ما تشهده ساحة المعركة خلال الأسابيع القليلة المقبلة.