فتحت المكاسب الخاطفة التي تقول أوكرانيا إنها حققتها على الأرض شلالاً من التساؤلات العسكرية والسياسية بشأن الحرب، فماذا يعني ذلك التقدم بالنسبة لروسيا؟ وما أسباب التراجع؟ وهل بدأت المرحلة الأخيرة للحرب أم أن العكس تماماً قد حدث للتو؟
كانت القوات الأوكرانية قد واصلت الإثنين، 12 سبتمبر/أيلول، توغلها أكثر في أراض انتزعتها من القوات الروسية المنسحبة من منطقة خاركيف في الشرق، وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن القوات الأوكرانية استعادت منذ بداية الشهر الجاري 6 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي التي كانت روسيا تسيطر عليها.
هيئة الأركان العامة الأوكرانية، من جانبها، قالت إن قواتها استعادت أكثر من 20 بلدة وقرية، يوم الأحد 11 سبتمبر/أيلول فقط، وأضافت أن قواتها في مكان أبعد إلى الجنوب صدت محاولات تقدم روسية في منطقتين مهمتين، في إقليم دونيتسك، هما مدينة باخموت ومايورسك بالقرب من بلدة هورليفكا المنتجة للفحم.
واعترف فيتالي جانتشيف، الرئيس المعين من قبل روسيا للإدارة في المنطقة التي ما زالت روسيا تسيطر عليها من منطقة خاركيف، بأن القوات الأوكرانية أحرزت تقدماً نحو الحدود.
بينما قال مسؤول عسكري أمريكي كبير، إن روسيا بحسب تقديرات الولايات المتحدة تخلت إلى حد كبير عن مكاسبها بالقرب من خاركيف، وأضاف المسؤول العسكري، الذي تحدث للصحفيين شريطة عدم الكشف عن هويته، "ميدانياً بالقرب من خاركيف، تشير تقديراتنا إلى تخلي القوات الروسية إلى حد كبير عن مكاسبها للأوكرانيين، وانسحابها إلى الشمال والشرق. عبر كثير من هؤلاء الجنود الحدود إلى روسيا"، بحسب رويترز.
ما أسباب التقدم الأوكراني؟
يُرجع الغرب، وبخاصة الأمريكيون بطبيعة الحال، الأسباب الرئيسية لتلك المكاسب التي حققتها القوات الأوكرانية على الأرض إلى تدفق المعونات العسكرية الغربية، وإمداد الأوكرانيين بالمعلومات الاستخباراتية الخاصة بمناطق الضعف لدى القوات الروسية، إضافة إلى إعادة تنظيم صفوف الجيش الأوكراني بصورة أفضل، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
وقال جون سبنسر، رئيس قسم شؤون الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة التابع لكلية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، للموقع: "ما حققته القوات الأوكرانية (هذا الأسبوع) هو نتيجة لأشهر من التخطيط، إضافة إلى أسابيع من الاستفادة من مسار الحرب على الأرض من جانب تلك القوات. الواضح أن هناك قوات أوكرانية أخرى كانت تتحين فرصة وجود أي ثغرات في الخطوط الأمامية للقوات الروسية لاستغلالها وتحقيق تلك الانتصارات الخاطفة".
والإشارة هنا تتعلق بجبهتَي خيرسون في الجنوب، وخاركيف في الشرق، إذ كانت القوات الروسية تكثف وجودها وتحصن دفاعاتها في الجبهة الأولى، لكن الأوكرانيين وضعوا ثقلهم العسكري على الجبهة الثانية، وهو ما فاجأ القوات الروسية في منطقة خاركيف فانسحبت سريعاً حتى لا يتم تطويقها من جانب الأوكرانيين، بحسب الخبراء العسكريين الغربيين.
أما روسيا فلم تقر مباشرة بأنها تعرضت لهزيمة على الأرض، لكن وزارة الدفاع الروسية قالت، السبت 10 سبتمبر/أيلول، إن قواتها تخلت عن مدينة إيزيوم، معقلها الرئيسي في شمال شرق أوكرانيا، وبالاكليا المجاورة، مضيفة أن ذلك كان عبارة عن "إعادة تجميع" للقوات مقررة مسبقاً.
لكن بينما انسحب آلاف الجنود الروس من تلك المناطق تاركين وراءهم ذخائر ومعدات، أطلقت روسيا صواريخ على محطات الكهرباء الأحد، ما تسبب في انقطاعات للتيار الكهربائي في خاركيف ومنطقتي بولتافا وسومي المجاورتين.
وزارة الدفاع البريطانية، من جانبها، قالت إن روسيا أمرت على الأرجح بالانسحاب من منطقة خاركيف، غربي نهر أوسكيل، ويعني هذا التخلي عن خط السكك الحديدية الوحيد الذي دعم العمليات الروسية في الشمال الشرقي.
وقالت بريطانيا إن موسكو تكافح أيضاً لجلب قوات الاحتياط إلى الجنوب، حيث تسعى أوكرانيا من خلال هجومها لعزل آلاف الجنود الروس على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، ما يجبر معظم القوات الروسية على التركيز على "الإجراءات الدفاعية الطارئة".
الخلاصة هنا هي أنه من شأن المزيد من عمليات الانسحاب الروسية أن تجعل القوات الأوكرانية قريباً في وضع يمكنها من مهاجمة الأراضي التي تسيطر عليها موسكو والانفصاليون الأوكرانيون منذ عام 2014 في إقليم دونباس. واعترف دينيس بوشيلين، زعيم الإدارة الانفصالية الموالية لموسكو في إقليم دونيتسك، بالتعرض لضغوط من اتجاهات عديدة.
ماذا تقول روسيا عن أسباب التراجع؟
لم يعلق الرئيس فلاديمير بوتين حتى الثلاثاء، 13 سبتمبر/أيلول، على تلك التطورات الميدانية، كما تجاهل ديميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين سؤالاً وجهه إليه صحفي الإثنين عما إذا كان بوتين محتفظاً إلى الآن بالثقة بقادة الجيش، وقال بيسكوف "العملية العسكرية الخاصة مستمرة، وستستمر إلى أن تحقق الأهداف المحددة لها من الأصل".
وظهر بوتين في وقت لاحق على شاشة التلفزيون الرسمي وهو يرأس اجتماعاً عن الاقتصاد لم يذكر فيه التقهقر، وقال إن روسيا صامدة جيداً في مواجهة العقوبات الغربية"، وأضاف "أساليب الحرب الاقتصادية الخاطفة والهجمة التي يعتمدون عليها لم تفلح".
لكن على الجانب الآخر يعيش الرئيس الأوكراني وقادة جيشه وداعميه من الدول الغربية حالة من النشوة، ابتهاجاً بما يصفونها "انتصارات أوكرانية في حرب خاطفة" فاجأت الروس وأجبرتهم على التراجع. فهذه هي المرة الأولى منذ اندلاع الحرب يوم 24 فبراير/شباط الماضي، التي تحقق فيها القوات الأوكرانية، بدعم من الغرب، انتصارات ميدانية تجبر القوات الروسية على الانسحاب من أراض استولت عليها.
كانت روسيا قد انسحبت من ضواحي العاصمة الأوكرانية كييف ومناطق غرب أوكرانيا بشكل عام، خلال أبريل/نيسان الماضي، لكن ذلك الانسحاب لم يكن نتيجة لتقدم من جانب الأوكرانيين، بل وصفته موسكو بأنه نهاية للمرحلة الأولى من "عمليتها العسكرية" بعد أن حققت تلك المرحلة أهدافها.
إذ إن موسكو تصف الحرب في أوكرانيا بأنها "عملية عسكرية خاصة ذات أهداف محددة"، بينما يصفها الغرب بأنها "غزو وعدوان لا مبرر له". ويعكس اختلاف التوصيف طبيعة الأزمة الأوكرانية، التي هي أزمة جيوسياسية بين الغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى. روسيا ورئيسها بوتين يرى في سعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو تهديداً مباشراً لأمن موسكو القومي، وأيضاً خرقاً لوعدٍ قطعته واشنطن على نفسها، عندما تفكك الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من 3 عقود، بألا يتمدد حلف الناتو شرقاً نحو حدود روسيا.
على أية حال تفجّرت الأزمة واندلعت الحرب الأكبر في أوروبا، واقتربت من نهاية شهرها السابع، دون أن تلوح في الأفق بوادر أو مؤشرات على متى يمكن أن تنتهي تلك الحرب الكارثية، التي يعاني العالم أجمع من تداعياتها وتأثيرها المباشر على أسعار الغذاء والنفط والغاز.
هل بدأت نهاية الحرب؟
من المؤكد أن المكاسب الأوكرانية السريعة في منطقة خاركيف تضع روسيا في مواجهة أخطر هزيمة لها منذ على بداية الحرب، إذ حرم هذا التقدم القوات الروسية من مراكز لوجستية حيوية كانت تستخدمها لتوصيل الإمدادات إلى قواتها في شرق أوكرانيا.
لكن تأثير ذلك التقدم الأوكراني على مسار الحرب ذاتها، أو بمعنى أدق إذا ما كان ذلك يعني إمكانية تحقيق أوكرانيا انتصاراً عسكرياً حاسماً على روسيا، يظل محل شك كبير، بحسب الأمريكيين والأوكرانيين أنفسهم.
إذ إن زيلينسكي نفسه قال إن الهجوم الأوكراني ربما يمثل انفراجة في الحرب المستمرة منذ ستة أشهر، مع إمكانية استعادة المزيد من الأراضي في الشتاء إذا حصلت كييف على أسلحة أقوى.
فرغم تلك الانتصارات الميدانية التي حققتها القوات الأوكرانية في الشرق، لا يزال واضحاً أن أوكرانيا أبعد ما تكون عن تحقيق "أي انتصار حاسم"، بحسب توصيف أولينيسكي ريزنيكوف، وزير الدفاع الأوكراني نفسه. القوات الروسية تسيطر على إقليم دونباس بصورة شبه كاملة، وهو أحد الأهداف الرئيسية للحرب، إن لم يكن هدفها الوحيد الآن من وجهة النظر الروسية، بحسب شبكة CNN الأمريكية.
وإذا كان تحقيق أي من الطرفين انتصاراً عسكرياً حاسماً أمراً يبدو مستبعداً، فذلك يفتح باب التساؤلات بطبيعة الحال عن الحلول الأخرى، أو بمعنى أكثر دقة التفاوض للوصول إلى حل سياسي. وفي هذا السياق، ربما يكون التقدم الأوكراني الأخير مدخلاً للعودة إلى التفاوض مرة أخرى، على الرغم من الرفض المعلن من الجانبين لذلك المسار.
وفي هذا السياق، يرى كثير من المراقبين الآن أن تلك الانتصارات الميدانية الأوكرانية قد تجعل الكرملين ورئيسه بوتين أكثر انفتاحاً على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه ربما يكون زيلينسكي وداعموه مستعدين أيضاً، على أساس أنهم الآن قد حققوا شيئاً على أرض المعركة، ولو من وجهة النظر الإعلامية والشعبية.
كان الطرفان قد أجريا بالفعل مفاوضات سلام في بداية الحرب، وتوصلا لاتفاق فعلاً، لكن الدول الغربية أفشلته، مفضلةً استمرار الحرب، لكن الآن وبعد أن فشلت العقوبات الغربية الكاسحة في تدمير الاقتصاد الروسي، كما فشلت المساعدات العسكرية الضخمة وغير المسبوقة في إجبار الروس على التراجع حتى حدود ما قبل 24 فبراير/شباط، ربما يكون الزعماء الغربيون أكثر قابلية لإنهاء الحرب. وتعتبر "الانفراجة"، بوصف زيلينسكي، مدخلاً جيداً لبدء التفاوض على إنهاء الحرب.
ويعيد هذا السيناريو للأذهان ما طرحه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، عندما قدم اقتراحاً في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (في مايو/أيار الماضي)، يشير إلى إمكانية أن تسمح أوكرانيا لروسيا بالاحتفاظ بشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو عام 2014.
"يجب أن تبدأ المفاوضات في الشهرين المقبلين، قبل أن تحدث اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة"، وأضاف كيسنجر: "من الناحية المثالية يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع السابق"، ما يشير على ما يبدو إلى أن أوكرانيا توافق على التخلي عن جزء كبير من دونباس وشبه جزيرة القرم.
وكانت موسكو قد ضمت شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، ودعمت انفصاليين في إقليم دونباس، أعلنوا استقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك في الإقليم. وأعلن بوتين الاعتراف رسمياً باستقلال المنطقتين، يوم 21 فبراير/شباط الماضي، أي قبل بدء الهجوم بثلاثة أيام.
الخلاصة هنا هي أن انتصارات أوكرانيا الأخيرة في ساحة المعركة ربما تفتح الباب أمام المفاوضات لإنهاء الحرب، أما إذا تمسكت كييف وداعموها الغربيون بمواصلة القتال على أمل إلحاق هزيمة شاملة بالدب الروسي، فلا أحد يمكنه التنبؤ بمدى الحرب زمنياً، ولا نتائجها في نهاية المطاف، فروسيا لم تتخذ خطوة استدعاء احتياطي الجيش بعد، وهو ما يراه أغلب المحللين دليلاً على أن الجيش الروسي لا تزال له اليد العليا بشكل عام.