خمسة أشهر من الهدنة، كانت كافية لأطراف الصراع في إثيوبيا لالتقاط الأنفاس والعودة مجدداً إلى ميادين القتال، بعدما فشلت الحرب الأخيرة في حسم النصر إلى أي طرف، فكان لا بد من جولة ثانية حاسمة بين القوات الحكومية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي المعارضة المسلحة.
فالحكومة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد، كانت على وشك السقوط، في مارس/آذار الماضي، بعدما وصلت قوات الجبهة إلى تخوم العاصمة أديس أبابا، مُسقطة في طريقها عدة مدن وبلدات استراتيجية، طيلة 21 شهراً من القتال، الذي اندلع في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
غير أن القوات الحكومية تمكنت من قلب نتيجة الصراع لصالحها بعدما استخدمت سلاح الطائرات المسيَّرة بكثافة، وتمكنت قوات العفر الحليفة لها من صد تقدم قوات الجبهة نحو معاقلها في الشرق، ما أدى إلى انهيار زحف الجبهة وتراجعها سريعاً نحو معاقلها في الشمال خشية قطع طرق الإمداد لكتائبها المتقدمة في الأمام، وتطويقها وإبادتها.
ورغم النصر المفاجئ الذي حققه آبي أحمد على جبهة تحرير تيغراي، إلا أنه لم يطاردها إلى معاقلها في الشمال، ولم يقتحم عاصمتها ميقلي، مكتفيا باسترجاع المدن والمناطق التي استولت عليها في إقليمي العفر والأمهرة، بل وسمح للمنظمات الإنسانية بإدخال الغذاء إلى الإقليم المحاصر.
كان جيش آبي أحمد منهكاً، في هذه الحرب بعدما مُني بهزائم كبيرة في أكثر من جبهة، وقُتل من رجاله الآلاف، ووقع آلاف آخرون في الأسر، ناهيك عن الجرحى وخسائر اقتصادية جسيمة.
لذلك احتاج آبي أحمد، للوقت من أجل تنظيم جيشه والاستعداد للجولة الثانية من القتال، فلا يمكن لزعيم مثله أن يقبل بأن يكون إقليما استراتيجيا خارج سلطة الدولة، خاصة أن الجبهة كانت تحكم الإقليم منذ 1991، وتملك أسلحة ثقيلة وعشرات الألوف من الجنود ذوي الخبرة في حرب العصابات والحروب النظامية معاً.
تجدد القتال
بشكل مفاجئ، أعلن سلاح الجو الإثيوبي، في 24 أغسطس/آب، إسقاطه طائرة تحمل أسلحة لجبهة تيغراي، بعد أن دخلت المجال الجوي للبلاد قادمة من السودان.
وفي إشارة إلى مصر والسودان، ادّعى سلاح الجو الإثيوبي، في بيانه، أن الطائرة تابعة لمن وصفهم بـ"الأعداء التاريخيين" لبلاده، وهو ما وصفته جبهة تحرير تيغراي بـ"الكذب الفج".
ولم تعلق مصر أو السودان رسمياً على الاتهامات الضمنية بتبعية الطائرة المزعومة لهما، بينما استبعد نشطاء إعلاميون مقربون من حكومتي القاهرة والخرطوم إرسال البلدين أسلحة إلى جبهة تحرير تيغراي.
ونقلت وكالة سبوتنيك الروسية عن مصدر عسكري سوداني، لم تسمّه، نفيه عبور طائرة حربية محملة بالأسلحة إلى الأجواء الإثيوبية، قادمة من الأجواء السودانية، وقال "هذه ادعاءات غريبة ومضللة ولا أساس لها".
فعادة ما تلجأ الحكومات في فترات الحروب إلى استحضار العدو الخارجي في خطاباتها، لحشد الرأي العام المحلي خلفها، في مواجهة تمرد داخلي.
وتدعي قوات تيغراي أن الجيش الحكومي بدأ حشوده العسكرية قبل 5 أيام من الهجوم على مدينة ألاماتا، جنوبي الإقليم، رغم أنها كانت تتوقع أن يتم الهجوم من الغرب، حيث تسيطر القوات الحكومية على المنطقة الغربية من تيغراي ذات الطبيعة السهلية، والمحاذية للحدود السودانية، لمنع وصول أي مساعدات عسكرية أو إنسانية خارجية.
بينما تتهم الحكومة الإثيوبية الجبهة بخرق اتفاق وقف إطلاق النار والهدنة الإنسانية، وشن هجوم مفتوح على الجبهة الشرقية من إقليم تيغراي، وهددت بأنها ستجد نفسها مضطرة لـ"ممارسة واجبها القانوني والأخلاقي في الدفاع عن الوطن".
وتتركز حالياً المعارك في المثلث الحدودي بين تيغراي وأمهرة والعفر، إذ تتهم جبهة تحرير تيغراي القوات الحكومية بشن هجوم على مدينة ألاماتا، جنوبي الإقليم.
بينما تتهم حكومة أديس أبابا الجبهة بالهجوم على إقليم العفر شرقاً، وبالأخص مدينة يالو، مستخدمة أسلحة ثقيلة، والتوغل في إقليم أمهرة، خاصة في بلدة كوبو (جنوب تيغراي) وبالمناطق الجبلية.
الجوع يؤجج القتال
"نحو نصف سكان إقليم تيغراي يعانون نقصاً حاداً في الغذاء"، وفق برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، أي ما يقرب من 3.5 مليون نسمة على حافة المجاعة، خصوصاً مع الجفاف الذي يضرب منطقة القرن الإفريقي.
فالمساعدات الإنسانية الدولية الشحيحة تجد صعوبات في الوصول للإقليم براً عبر شاحنات لا تتزود بما يكفي من الوقود، والحكومة الإثيوبية مع حليفتها الإريترية تطبقان الحصار على تيغراي، والمفاوضات التي يرعاها الاتحاد الإفريقي لم تحرز تقدماً جدياً، والقوات الحكومية ما زالت تسيطر على أخصب الأراضي الزراعية في الإقليم.
وهذا الوضع المأساوي، من شأنه أن يدفع جبهة تيغراي، المدججة بالأسلحة وعشرات الألوف من الجنود، إلى البحث عن حلول لفك الحصار المضروب عليها، سواء من خلال التحرك عسكرياً من الجبهة الشرقية عبر إقليم العفر لقطع خط السكك الحديدية الذي ينقل معظم الصادرات والواردات الإثيوبية عبر موانئ جيبوتي وإريتريا، باعتبارها دولة حبيسة لا منافذ بحرية لها.
وهذا الخيار سيضع جبهة تحرير تيغراي في موقف تفاوضي قوي، يمكنها من إملاء شروطها على حكومة أديس أبابا، إلا أن تنفيذه صعب، لأن مقاتلي إقليم العفر أثبتوا شراسة في القتال، وأرضهم مفتوحة بلا جبال شاهقة، ولا وديان عميقة، ولا غابات كثيفة، ما يجعل المهاجمين صيداً سهلاً للطائرات المسيّرة.
الخيار العسكري الثاني للجبهة هو أن تسعى للسيطرة على الأجزاء الغربية من إقليم تيغراي، التي تتميز بتوفر المياه السطحية والأراضي الزراعية، والتي بإمكانها أن تخفف من أزمة الغذاء في الإقليم، وتنفتح على العالم بالوصول إلى الحدود الدولية مع السودان، ما قد يمكنها من الحصول على مساعدات إنسانية من المنظمات الدولية دون المرور عبر مناطق سيطرة الحكومة.
لكن مقاتلي الجبهة ما زالوا يتجنبون فتح الجبهة الغربية لأسباب تكاد تكون مجهولة، حتى عندما كانوا في أوج قوتهم.
فمنطقة غرب تيغراي سهلية وزراعية، بينما تفضل قوات الجبهة القتال في الجبال والتضاريس الصعبة، التي تحرم القوات الحكومية من استخدام الطائرات المسيرة والحربية والآليات الثقيلة.
كما أن التحرك في غرب تيغراي ستكون له عواقبه؛ لأن مقاتلي الجبهة سيكونون محاصرين من الجيش الإثيوبي جنوباً وغرباً، ومن الجيش الإريتري شمالاً، ما يجعل أي هجوم على هذه الجبهة بمثابة دخول مصيدة.
الخيار العسكري الثالث يتمثل في التوغل في إقليم أمهرة، الغني بالموارد المائية؛ حيث يحتوي على بحيرة تانا، منبع نهر النيل الأزرق، وطبيعتها الجبلية تناسب أسلوب مسلحي الجبهة في القتال، ناهيك عن مواردها الكثيرة، خاصة وأنها الحليف الرئيسي لآبي أحمد في السلطة.
وبالنسبة لحكومة آبي أحمد، فإن القضاء على تمرد الجبهة في الشمال وكسر شوكتها، وبسط السيطرة الحكومية على الإقليم مسألة غير قابلة للنقاش.
لذلك تسعى لخنق الإقليم اقتصادياً لإضعافه، مع ترك منفذ لمرور المساعدات الإنسانية بشكل محدود وتحت رقابتها إليه، مع التشديد في مسألة الوقود حتى لا تستخدمه جبهة تحرير تيغراي لتحريك آلياتها الثقيلة للزحف مجدداً نحو العاصمة.
لذلك أدانت حكومة إثيوبيا ما اعتبرته "سرقة" جبهة تيغراي 570 ألف لتر من الوقود من مستودعات برنامج الأغذية العالمي، لاستخدامه في تعزيز الهجوم الأخير.
وبفضل الطائرات المسيرة المسلحة التي اقتنتها أديس أبابا من أكثر من دولة، يجد الجيش الإثيوبي نفسه واثقاً أكثر من أي وقت مضى من صد وتشتيت أي هجوم واسع وممتد لمقاتلي الجبهة، واحتوائهم داخل الإقليم.