أدت حرب روسيا في أوكرانيا إلى تغييرات كبيرة حول العالم، لكن ألمانيا تحديداً شهدت تغييراً جذرياً يتمثل في تحويل بوصلة برلين من التركيز على الاقتصاد فقط إلى إيقاظ العقيدة العسكرية، فماذا يعني ذلك للتطبيع بين الجيش والشعب؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قد بدأ منذ 6 أشهر محدثاً زلزالاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً هو الأكثر عنفاً في أوروبا والعالم، منذ انتهاء الحرب العالمية عام 1945.
وخرجت ألمانيا، تحت قيادة الزعيم النازي أدولف هتلر، من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومحطمة، وانتهى الأمر بتقسيمها إلى ألمانيا الشرقية التابعة للمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وألمانيا الغربية التابعة للتحالف العسكري الغربي (الناتو) بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
ألمانيا.. عملاق أوروبا الاقتصادي
بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، تم هدم سور برلين -الفاصل بين الشطرين الشرقي والغربي من ألمانيا- وأعيد توحيد ألمانيا مرة أخرى. أصبحت برلين قوة رئيسية مؤثرة داخل الاتحاد الأوروبي، ونما الاقتصاد الألماني بسرعة لتصبح البلاد القوة الاقتصادية الأكبر داخل القارة العجوز.
ونظراً لماضيها النازي المقلق غاب البعد العسكري، أو كاد، عن مسيرة النمو الألماني، واحتل الاقتصاد العنوان الأبرز في حياة الحكومات والشعب، حتى فجر يوم 24 فبراير/شباط الماضي، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انطلاق "العملية العسكرية الخاصة" داخل أوكرانيا.
نعم، لم تعد الأمور في القارة العجوز، ولا حتى حول العالم، كما كانت عليه قبل تلك اللحظة، وتغير كل شيء تقريباً، لكن التغيير في ألمانيا بالتحديد جاء جذرياً وسريعاً وغير متوقع على أقل تقدير.
فقبل حتى أن تبدأ المقاتلات الروسية عملها في ضرب البنية التحتية العسكرية لأوكرانيا، تمهيداً لدخول طوابير المدرعات الطويلة لتطويق العاصمة كييف والمدن الرئيسية، كانت ألمانيا قد اتخذت قراراً بدا غير مرجح قبل أيام قليلة. إذ أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز تعليق العمل بخط أنابيب نوردستريم2 لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وكان ذلك يوم 22 فبراير/شباط، كرد فعل على إعلان بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني.
خط أنابيب "نورد ستريم 2" لنقل الغاز عبارة عن مشروع البنية التحتية للطاقة الذي تم الترويج له منذ فترة طويلة، والذي تسبب في إحداث شرخ عميق بين ألمانيا والولايات المتحدة، وكان يعتبر الخط شرياناً حيوياً لمبيعات الغاز الروسي نحو أوروبا.
ويمتد خط أنابيب الغاز الطبيعي، الذي تبلغ قيمته 11 مليار دولار عبر بحر البلطيق، وهو مملوك لشركة غاز بروم الروسية العملاقة للطاقة، من غرب سيبيريا إلى ألمانيا، وهو مسار جديد لإمداد الغاز الروسي نحو أوروبا، لدعم خط "نورد ستريم1" الأصلي المستخدم بالفعل. وكان الخط جاهزاً للتشغيل، وسعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإقناع شولتز، قبل بدء الحرب في أوكرانيا، لإلغاء المشروع دون جدوى.
قرار ألمانيا إذاً تعليق العمل في خط نوردستريم2، حتى قبل أن تبدأ الحرب فعلياً، مثّل مفاجأة لجميع المراقبين، إذ كان تحولاً واضحاً في موقف برلين، التي كان يعتمد اقتصادها بشكل شبه رئيسي على الغاز الروسي رخيص السعر منذ أكثر من عقدين من الزمان.
لكن على مدى الأشهر الستة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بات واضحاً أن التغيير في الموقف الألماني لا يتوقف عند حدود الاقتصاد، بل شمل أيضاً إعادة التركيز على القوات العسكرية والتسليح.
كيف تغيرت العقيدة السياسية لألمانيا؟
بعد توحيد ألمانيا بشطريها الشرقي والغربي، قبل نحو ثلاثة عقود، أصبحت العقيدة السياسية للبلاد تحمل عدداً من المحرمات، من أبرزها عدم التدخل في مناطق النزاعات أو إرسال أسلحة لأي من طرفيها. وأصبح العمل السياسي الألماني بأغلب أشكاله ينطلق من تحت عباءة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لا تمتلك ألمانيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن، وغالباً ما يكون موقفها متسقاً مع حلفائها فيما يتعلق بالصراعات حول العالم. وفي هذا الإطار تمتعت ألمانيا بعلاقات ممتازة مع دول العالم ومناطقه المختلفة، حيث يكون الاقتصاد عادة هو المحرك الأول والأخير لقرارات برلين.
وأبرز مثال على ذلك كان قضية الاعتماد على الغاز الروسي، التي أغضبت واشنطن حتى وصلت الأمور إلى ما يشبه القطيعة، خلال رئاسة دونالد ترامب، الذي أراد أمرين رئيسيين من المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، أولهما زيادة الانفاق العسكري لبرلين، ليصل إلى 2% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، والثاني خط أنابيب نوردستريم2.
ورغم رحيل ميركل وترامب، فإن أسباب الخلاف بين واشنطن وبرلين ظلت قائمة، وإن خفّت حدتها بتولي جو بايدن وشولتز المسؤولية في أمريكا وألمانيا. ظل بايدن يسعى لإقناع شولتز بالتخلي عن خط أنابيب نوردستريم2 دون جدوى، كما ظل الحديث عن زيادة الإنفاق العسكري الألماني يراوح مكانه، رغم تراجع بايدن عن قرار ترامب نقل القوات والقواعد الأمريكية من الأراضي الألمانية.
وهذا الموقف الألماني والعقيدة السياسية لم يكن من فراغ بطبيعة الحال، إذ تسببت حربان عالميتان ودكتاتوريتان خلال القرن العشرين في كسر الثقة بين المجتمع الألماني وكل ما له علاقة بالعسكر، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني، يرصد التغير الجذري الذي طرأ على ألمانيا بعد 6 أشهر من الحرب الأوكرانية.
كان شولتز قد أعد الأرضية لهذا التحول الجوهري، فبعد ثلاثة أيام فقط من الهجوم الروسي على أوكرانيا، أي يوم 27 فبراير/شباط، وفي خطاب تأسيسي حظي باهتمام كبير، لم يتحدث المستشار عن "نقطة التحول" فحسب، بل استخلص أيضاً عدداً من الاستنتاجات، أهمها ضرورة إعادة الاعتبار للجيش الألماني المُهمل منذ عقود، بإنشاء صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتمويل المشتريات العاجلة.
المستشار وعد أيضاً بالالتزام بما أكد عليه حلف الناتو عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ويتعلق برفع ميزانية دفاع الدول الأعضاء إلى ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا ما جعل ميزانية التسلح الألمانية الأعلى في أوروبا. المستشار شولتز وعد أيضاً في خطابه بالدفاع عن كل شبر من أراضي دول الحلف الأطلسي.
تحطيم المقدسات.. التطبيع مع الجيش الألماني
الخبير الأمريكي جوزيف برامل في حوار مع الموقع الألماني، بمناسبة مرور 6 أشهر من الحرب، أوضح أن كلمة "Zeitwende تسايتفينده" في خطاب شولتز، ومعناها في الألمانية "تحول مفصلي وجوهري"، أثارت انتباه صناع القرار في واشنطن.
"لقد اتخذت برلين قراراً جعل الأمريكيين سعداء، خاصة أن الأمر يتعلق باستثمار كبير بشراء طائرات مقاتلة من طراز إف.35 المكلف للغاية. وهذا معناه أن ألمانيا ستظل ولعقود من الزمن تعتمد من الناحية التكنولوجية العسكرية على أمريكا"، بحسب برامل.
ائتلاف "إشارة المرور" الحاكم في برلين، والمكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزبي الخضر والليبرالي، لم يتسلم مهامه بعد الانتخابات إلا في ديسمبر/كانون الأول، تحت شعار "الجرأة على مزيد من التقدم"، لكن الحرب وأزماتها أجبرت الحكومة منذ ذلك الحين على التضحية بعدد من القناعات الحزبية والوعود الانتخابية على مسلخ السياسة الواقعية.
فقد اضطر روبرت هابيك، وزير الاقتصاد وحماية المناخ (حزب الخضر)، إلى إعادة تشغيل محطات الطاقة المغلقة التي تعمل بالفحم، بسبب تقييد إمدادات الطاقة من روسيا. وهذا ما يمثل في حد ذاته تكسيراً لأحد محرمات حزب الخضر بسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وقد يضطر هابيك، وهو الذي يشغل أيضاً منصب نائب المستشار إلى تمديد زمن تشغيل محطات الطاقة النووية. ويتعلق الأمر بثلاثة مفاعلات كان من المقرر إغلاقها نهاية العام كجزء من التخلص التدريجي من الطاقة النووية، وهي قضية في قلب برنامج حزب الخضر.
والآن، ينتظر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يترأس الائتلاف الحكومي من أعضائه أن يفعلوا ما لا يمكن تصوره منذ وقت ليس ببعيد. ففي خطاب ألقاه نهاية يونيو/حزيران، لم يكتفِ لارس كلينغبايل، الرئيس المشارك للحزب، بالدعوة إلى قيادة ألمانيا لأوروبا، حيث قال بصراحة "بالنسبة لي، تعني سياسة السلام أيضاً اعتبار القوة العسكرية كأداة سياسية مشروعة".
هذا كلام مذهل لصدوره عن حزب يميل حمضه النووي تقليدياً نحو السلام ونزع السلاح، وليس لبناء القوة العسكرية. وفجأة أصبح من الممكن لألمانيا أيضاً تسليم الأسلحة إلى مناطق النزاعات، وهو ما يتعارض مع عقيدة سياستها الخارجية القائمة بعد الحرب العالمية الثانية. فقد اعتاد حزب الخضر بالتحديد على إدانة صادرات الأسلحة بشدة، وخصوصاً إلى دول تشارك في حروب.
حزب بات يطالب اليوم بتسليم أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا في أسرع وقت ممكن. لقد شهد الحزب الاشتراكي أيضاً تحولاً جوهرياً، رغم أن الجناح اليساري القوي للحزب يواصل كبح جماح هذا التوجه.
وبهذا الشأن اعتبر خبير الشؤون السياسة فولكر كروننبرغ، من جامعة بون، أنه في زمن التحولات التاريخية كهذه، لا تسير الحسابات السياسية كالمعتاد، ما يتيح الفرصة لسلك طرق جديدة.
وأوضح كروننبرغ في حوار مع الموقع الألماني، أن "صدمة الحرب في أوكرانيا خلقت زخماً يتيح مجالاً كبيراً لإعادة التشكل السياسي. في أوقات هذا النوع من الأزمات يكون المجال واسعاً للسلطة التنفيذية".
وفي هذا السياق، تم نشر شريط مصور قصير (أوائل شهر أغسطس/آب الجاري) لا تتعدى مدته ثلاثين ثانية على موقع يوتيوب، وهو أول فيديو ترويجي للجيش الألماني منذ خمس سنوات.
ويعرض الشريط في نصفه الأول جنوداً يرتدون الزي العسكري في مشاهد من الحياة اليومية: يلعبون مع أطفالهم، يشترون صحفاً ويتجولون في أنحاء المدينة.
وفي النصف الثاني فقط تم عرض الجانب الحربي لحياة الجنود من خلال صور لطائرات مقاتلة في تدريبات طيران سريعة ومشاهد سفن حربية في أعالي البحار، وجنود يهبطون من طائرات هليكوبتر رافعين شعار: "نحن حماة ألمانيا".
ولأن الجنود بزيهم العسكري لم يكونوا جزءاً من المشهد العام في ألمانيا حتى الآن، يمكن تأويل صورهم في شريط الفيديو على أنهم باتوا مظهراً طبيعياً تماماً، في مؤشر على تحول جذري. فبسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، بدأت ألمانيا في تطبيع العلاقة مع جيشها، استعداداً للصراعات المستقبلية.