إذا زرت العاصمة البريطانية لندن، فإنك ستتعجب لقلة متاجر ألعاب الأطفال فيها. أما "إسرائيل"، فإن الأمر يختلف عن ذلك اختلافاً واضحاً؛ يقول عالم ديموغرافي إسرائيلي: "إذا كان لامرأة ما في إسرائيل أقل من ثلاثة أطفال، فإنها تحس كأنها مضطرة إلى تعليل ذلك للجميع، بل والاعتذار عنه". فالإسرائيليون لديهم أطفال أكثر بكثير من نظرائهم في أي دولة أخرى من الدول الغنية. وفي حين يبلغ متوسط معدل الخصوبة في بريطانيا 1.6 لكل سيدة، وفي فرنسا 1.8 لكل سيدة، فإنه يصل إلى 2.9 لكل السيدات في إسرائيل، كما يقول تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
معركة "التفوق الديموغرافي" بين الفلسطينيين والإسرائيليين
تقول الإيكونومست، إن "التفوق الديموغرافي" في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة يرتبط بعواقب جغرافية سياسية وكذلك اقتصادية. فمن بين سكان إسرائيل البالغ عددهم 9.5 مليون نسمة، فإن عرب الداخل [فلسطينيي 48]، ومعظمهم من المسلمين، يشكلون نحو 21% من إجمالي عدد السكان، بينما اليهود 74% تقريباً. لكن إذا أضفنا إليهم سكان أراضي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، فإن "الأغلبية اليهودية" تنخفض إلى ما يبلغ النصف بالكاد.
وهذه باختصار هي "معضلة إسرائيل الثلاثية": فهي لا يمكن أن يجتمع لها أغلبية يهودية متماسكة، وانضمام كل الأراضي التي احتلتها في عام 1967 تحت لوائها، وديمقراطية كاملة، لا تمارس التمييز ضد العرب في الوقت نفسه؛ ولذلك فإن معدلات المواليد لطالما كانت مهمة، ودائماً ما اعتنى الزعماء الإسرائيليون والفلسطينيون باستقصائها وتدقيقها.
ووصف الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات "رحمَ المرأة الفلسطينية" بأنه "أقوى أسلحة الفلسطينيين". وكانت التوقعات الديموغرافية تشير إلى أن عدد الفلسطينيين الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط سوف يفوق عدد نظرائهم اليهود في النهاية.
وقد أعرب بنيامين نتنياهو، أطول رؤساء حكومات إسرائيل خدمةً، عن خشيته الشديدة من ذلك، فأبدى في عام 2003 جزعه لأن معدل المواليد من (فلسطينيي 48)، الذي كان أعلى من الآن بكثير، يهدد بتقويض الأغلبية اليهودية في إسرائيل، وذلك بغض النظر عن معدل مواليد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
معدلات المواليد الإسرائيليين ترتفع
كانت الفوارق بين معدل إنجاب الفلسطينيات ومعدل إنجاب الإسرائيليات كبيرة في ذلك الوقت، وقد نجم عن ذلك اتساع الفارق الديموغرافي بين الجانبين. فقد كانت الفلسطينيات في الداخل المحتل، ينجبن الأطفال بمعدل يقرب من ضعف معدل إنجاب الإسرائيليات. لكن هذه الفوارق تقاربت في العقود الماضية، فقد انخفض معدل مواليد فلسطينيي 48، وارتفع معدل مواليد اليهود الإسرائيليين.
كان معدل الخصوبة لدى (فلسطينيي 48) في عام 1960 يبلغ 9.3، لكن هذا المعدل انخفض في ما تلاه من سنوات ليصل بعد 35 سنة إلى 4.7، أي إلى النصف تقريباً، ثم واصل انخفاضه ليبلغ 3.0 اليوم، بحسب ما تقول الإيكونومست.
إضافة إلى ذلك، انخفض معدل مواليد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية من 4.6 في عام 2003 إلى 3.8 في عام 2019. وقد شابه مسلك الفلسطينيات في ذلك مساراً سلكته النساء في أماكن أخرى عديدة، فقد أشارت بيانات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" إلى انخفاض متوسط معدل الخصوبة في دول المنظمة من 3 تقريباً في عام 1970 إلى 1.6، وهو أقل بكثير من المعدل اللازم للحيلولة دون انكماش عدد السكان، والذي يبلغ 2.1.
أشارت بيانات مركز بيو للأبحاث إلى أن المسلمين لديهم أعلى معدل خصوبة بالقياس إلى كل المجموعات الدينية الأخرى في العالم. ومع ذلك، فقد شهد هذا المعدل انخفاضاً حاداً، من 4.3 في عام 1995 إلى 2.9 في عام 2015. وجاءت 7 دول عربية من بين 12 دولة سجلت أكبر انخفاض في معدل الخصوبة في العالم بين أواخر السبعينيات ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وامتد ذلك إلى إيران، التي لطالما حثَّ علماء الدين فيها على إنجاب المزيد من الأطفال، فقد انخفض معدل المواليد من 7.0 في عام 1984 إلى 1.7.
ويزيد ذلك مقدار التعجب من ارتفاع معدل المواليد بين اليهود الإسرائيليين، فمع أن معدل الخصوبة بينهم انخفض بين عام 1960 وعام 1990 من 3.4 إلى 2.6، فإنه ارتفع بعد ذلك، ليصل معدل المواليد إلى مستواه الحالي البالغ 3.1.
ما علاقة يهود الحريديم بارتفاع معدل الإنجاب في إسرائيل؟
يعود معظم أسباب هذه الزيادة إلى تضاعف عدد اليهود المتدينين (الحريديم) في إسرائيل؛ لأن معدل الخصوبة لديهم يبلغ 6.6، أي أكثر من ضعف المعدل بين اليهود في إسرائيل، وثلاثة أضعاف معدل الخصوبة لدى اليهود العلمانيين.
ويشير دان بن دافيد، الاقتصادي في جامعة تل أبيب ومعهد شوريش، إلى أن ذلك هو السبب في تضاعف نسبة الحريديم تقريباً بين سكان إسرائيل في كل جيل، فمع أن الحريديم لا تمثل نسبتهم إلا 13% من السكان، فإن نسلهم يصل إلى نسبة 19% من الأطفال الإسرائيليين دون سن 14 عاماً، ونسبة 24% من الأطفال دون سن 4 سنوات. وتتوقع وكالة الإحصاء الإسرائيلية أنه إذا استمرت الأمور على الوتيرة الحالية، فإن نصف أطفال إسرائيل في عام 2065 سيكونون من نسل الحريديم.
ومع أن هذه البيانات والتوقعات جديرة بأن ترضي الحاخامات والقوميين اليهود، فإن بن دافيد يرى أن مآلات ذلك ستبدِّل طبيعة إسرائيل وتهدد اقتصادها. فمعظم اليهود الأرثوذكس المتشددين يبعثون بأولادهم إلى المدارس الدينية لدراسة التوراة، بدلاً من تعليمهم العلوم والرياضيات، وغيرها من المجالات اللازمة للوظائف في اقتصاد إسرائيل الذي تهيمن عليه القطاعات التكنولوجية.
والواقع أن أقل من نصف رجال الحريديم يلتحق بالقوى العاملة في البلاد، ويواصل معظمهم دراسة النصوص القديمة حتى بعد بلوغهم، وغالباً ما تنفق عليهم زوجاتهم أو يتلقون معونات من الدولة.
ولارتفاع معدل المواليد بين الحريديم أسباب أخرى، فكثير من العائلات الكبرى تراه "سبيلاً لتعويض اليهود الذين قتلوا في الهولوكوست"، أو "يتقربون إلى ربهم بكثرة الإنجاب"، كما أن نساء الحريديم يملن إلى الزواج مبكراً وإنجاب الأطفال وهن في سن صغيرة. ولأن الطوائف الأرثوذكسية المتشددة بذلت جهدها لعزل نفسها عن التأثيرات الخارجية؛ مثل التلفزيون والإنترنت، فإنها بقيت معزولة إلى حد ما عن حملات تقليل معدلات المواليد في بقية العالم.
إسرائيل تحث سكانها على إنجاب المزيد من الأطفال
أما اليهود الإسرائيليون العلمانيون، فيصعب تفسير سبب إقبالهم على كثرة الإنجاب، لا سيما أن إجازة العمل مدفوعة الأجر للآباء الإسرائيليين عند الإنجاب ليست سخية، كما أن مصاريف رعاية الأطفال ليست أرخص من نظيرتها في الدول الغنية. وقد يكون السبب وراء الأمر هو أن الدولة تحث الناس على إنجاب المزيد من الأطفال، فهي تسهم، على سبيل المثال، في مساعدة الراغبين في علاج الخصوبة، وتمنح دعماً للإخصاب خارج الجسم بنحو 150 مليون دولار في السنة. ويكفي الإشارة إلى أن عدد الأجنة المجمدة في إسرائيل يساوي نظيره في الولايات المتحدة.
ولعل للأمر تفسير آخر، وهو أن الأجداد والجدات في إسرائيل يميلون إلى مساعدة الأبناء أكثر من نظرائهم في كثير من البلدان الغنية الأخرى، فقد أشار استقصاء إلى أن 83% من الأمهات اليهوديات العلمانيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 25 عاماً و39 عاماً قد تلقين المعاونة من أجداد أطفالهن، في حين تقل هذه النسبة إلى 30% فقط من الأمهات الألمانيات.