بينما تتواصل الأزمة السياسية في العراق بين تيار مقتدى الصدر وخصومه المدعومين من إيران، هل فقدت الولايات المتحدة أي نفوذ لها في بغداد؟
ويبدو أن طرفي الأزمة السياسية يسعيان إلى تجنب تحولها إلى حرب أهلية، لكن مع استمرارها تتزايد المخاوف من خروج الأمور عن السيطرة بعد فشل إيران في التقريب بين مقتدى الصدر والإطار التنسيقي بزعامة نوري المالكي.
الإطار التنسيقي هو المصطلح الذي يشير إلى الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، والتي خسرت أغلبيتها البرلمانية في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي لصالح كتلة "سائرون" التابعة للتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وهو أيضاً تيار شيعي.
وأراد مقتدى الصدر تشكيل "حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، أي لا تخضع لنفوذ إيران ولا لنفوذ الولايات المتحدة، لكنه فشل في الحصول على الأغلبية الكافية، فأوعز إلى نواب البرلمان من كتلته لتقديم استقالتهم، ما فتح الباب أمام الإطار التنسيقي لاختيار رئيس الحكومة، لكن الصدر اعترض وأوعز إلى أنصاره باقتحام البرلمان.
اتهامات لأمريكا وتهديدات لسفارتها
نشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً عنوانه "بينما تتعمق جذور الأزمة السياسية العراقية.. يتلاشى النفوذ الأمريكي"، رصد أبعاد الأزمة في العراق وتداعياتها بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
إذ بعد يومين فقط من اقتحام المتظاهرين للبرلمان العراقي في يوليو/تموز، أصدرت مجموعة تُدعى "أصحاب الكهف" بياناً تهديدياً حول المصدر الحقيقي للانهيار السياسي في العراق. وقالت الجماعة في 1 أغسطس/آب إنَّ "السفارة الأمريكية والسفارة البريطانية ودول الناتو الأخرى" قد أثارت الاضطرابات بين شيعة العراق؛ ولهذا "ستتعرض جميع سفاراتها وقواعدها للاستهداف".
وسلّط البيان الصادر عن الميليشيا المدعومة من إيران الضوء على العديد من العوامل المؤثرة في العراق، حيث تخوض الكتل الشيعية الرئيسية في البلاد صراعاً مريراً على السلطة بعد انهيار 10 أشهر من المحادثات الهادفة إلى تشكيل حكومة.
وتدور المواجهة بين رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي برز باعتباره الفائز الأكبر في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول العراقية، ضد تحالف من الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران الذي أحبط محاولات رجل الدين لتشكيل حكومة.
الانتخابات، التي أجريت الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول، نتج عنها فوز كتلة "سائرون" التابعة للتيار الصدري بالصدارة بـ73 مقعداً في البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 329، وتلتها كتلة "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان المنتهية ولايته بـ38 مقعداً.
وفي المركز الثالث جاءت كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني وحصد 32 مقعداً.
وفاز تحالف "الفتح والبناء" برئاسة القيادي في "الحشد الشعبي" هادي العامري بـ17 مقعداً فقط، بينما سجل تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم رئيس تيار "الحكمة" المتحالف مع تحالف "النصر" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، "التراجع الأكبر" بين القوائم والتحالفات الشيعية، بحصولهما على 4 مقاعد فقط. بينما حصدت أحزاب ناشئة وشخصيات مستقلة نحو 40 مقعداً.
وانضوت كتل "دولة القانون" برئاسة المالكي مع تحالف "الفتح والبناء" و"قوى الدولة الوطنية" وأحزاب شيعية أخرى تحت لواء "الإطار التنسيقي"، الذي عرقل جميع محاولات الصدر لتشكيل الحكومة.
وتصاعدت الأزمة في يونيو/حزيران بعد أن سحب الصدر كتلته من البرلمان وطلب من أنصاره اقتحام المنطقة الخضراء في العراق، مركز السلطة المنعزل في البلاد.
ولأكثر من أسبوعين، يخيم الآلاف من الصدريين خارج البرلمان؛ حيث يدعو زعيمهم المُتقلِب إلى إصلاح شامل للنظام السياسي في البلاد، وإجراء انتخابات جديدة، وربما وضع دستور جديد.
"غياب" أمريكي عن المشهد العراقي
بينما تزعم الميليشيا الإيرانية أنَّ الولايات المتحدة تقف وراء الفوضى، يقول محللون ومسؤولون أمريكيون سابقون إنَّ الأزمة الحالية تشير إلى تضاؤل قوة الولايات المتحدة واهتمامها بالبلاد.
قال دوغلاس سيليمان، رئيس معهد دول الخليج العربية في واشنطن العاصمة والسفير الأمريكي السابق في العراق، لموقع Middle East Eye: "الولايات المتحدة ليس لها علاقة تُذكَر بما يحدث في العراق، ولديها طرق قليلة للتأثير فيه بطريقة إيجابية أو سلبية".
من المؤكد أنَّ واشنطن أقل ظهوراً في العراق اليوم مما كانت عليه منذ عقود. وبينما يبقى 2500 جندي أمريكي في العراق، تحولت مهمة البنتاغون القتالية لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في أواخر العام الماضي إلى دور "المشورة والمساعدة" لدعم الجيش العراقي. وامتد هذا الظهور المنخفض إلى ما وراء المجال العسكري.
إذ لم يستضِف العراق سوى زيارتين رفيعتين للإدارة الأمريكية في الأشهر التي تلت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول في البلاد. وفي هذه الأثناء، تعمل السفارة الأمريكية المترامية الأطراف بالحد الأدنى من الموظفين منذ عام 2019، عندما أمرت الولايات المتحدة جميع الموظفين "غير الطارئين" بمغادرة العراق وسط تهديدات أمنية.
وقال جوناثان لورد، مدير العراق السابق في وزارة الدفاع، والمدير الحالي لبرنامج أمن الشرق الأوسط في مركز أبحاث CNAS في واشنطن، لموقع Middle East Eye: "كانت المشاركة الأمريكية في العملية السياسية العراقية شبه غائبة تماماً".
وفي هذا السياق، يعتبر البعض أن الأشهر العشرة الماضية عبارة عن فرصة ضائعة للولايات المتحدة. فقد رحبت واشنطن بقلق شديد بما كان يُنظَر إليها عموماً على أنها انتخابات سلمية، وإن كانت تعاني من انخفاض قياسي في نسبة المشاركة، وأظهرت خلالها الأحزاب السياسية الكبيرة المدعومة بميليشيات مسلحة قوتها. وحصل بعض المرشحين المستقلين على أصوات، لكن الصدر حقق أكبر المكاسب في ظل النظام الجديد.
هناك القليل من الحب بين الولايات المتحدة والصدر، وهو رجل دين تلقى تعليمه في إيران وقاد حركة مقاومة مسلحة ضد الاحتلال الأمريكي. لكن في السنوات الأخيرة، وصف الصدر نفسه بأنه قومي عراقي. وينظر إليه البعض في واشنطن على أنه وسيلة تحوُط محتملة ضد طهران، على الرغم من المخاوف بشأن تعطشه للسلطة وأهدافه لحكومة على غرار حكومة إيران الدينية.
قال لهيب هيغل، محلل شؤون العراق في مجموعة الأزمات الدولية، لموقع Middle East Eye: "إنَّ الولايات المتحدة ترى الصدر على أنه قومي مُتقلِب ذو قاعدة ضخمة. ويُنظَر إليه على أنه شخص يحتاج إلى توجيهه في اتجاه مفيد للولايات المتحدة، وهذا ما حاولت الولايات المتحدة فعله، وستواصل فعله".
الولايات المتحدة لديها مجال محدود للحوار مع الصدر. بينما يتعامل الصدريون في الحكومة العراقية مع المسؤولين الغربيين، فإنهم يرفضون التحدث مباشرة إلى الولايات المتحدة. لذا الاتصالات متروكة للوسطاء.
وقال ريناد منصور، مدير مبادرة العراق في مركز أبحاث Chatham House، لموقع Middle East Eye: "موقف الولايات المتحدة المعلن بعد الانتخابات هو أنها كانت محايدة، لكن كان الطريق المفضل للبعض هو التحالف الثلاثي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والسُّنة والصدريين لطرد الجماعات المتحالفة مع إيران ببطء".
ماذا يعني ذلك للأوضاع في البلاد؟
لكن العراق لم يكن على رأس أولويات إدارة جو بايدن الخريف الماضي. فقد جاءت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول في الوقت الذي تعاملت فيه واشنطن مع تداعيات انسحابها الفوضوي من أفغانستان. كما كانت الولايات المتحدة أيضاً تتعمق في المفاوضات مع إيران بشأن إعادة الدخول في الاتفاق النووي لعام 2015. ومن المحتمل أنَّ واشنطن كانت غير راغبة في تحديد مستوى المشاركة المطلوب لتوحيد المجموعات العراقية.
وقال المحلل هيغل للموقع البريطاني: "السبب في أننا لم نشهد الكثير من الحديث عن الولايات المتحدة في العملية السياسية في العراق هو ببساطة؛ لأنها ليس لديها دور كبير فيها، ولم ترغب في أن يكون لها".
بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والذي أطاح صدام حسين عام 2003، انزلق العراق إلى حرب أهلية. ثم غزا تنظيم "داعش" مساحات شاسعة من البلاد. وتعثر الاقتصاد.
وتأتي نحو 90% من عائدات الحكومة العراقية من مبيعات النفط. بينما القطاع الخاص هزيل، والفساد المستشري يعني أنَّ العراقيين العاديين لم يشهدوا سوى القليل من الراحة من ارتفاع أسعار النفط الخام، بينما ارتفعت تكاليف الغذاء والمعيشة الأخرى، التي تفاقمت جزئياً بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي الوقت نفسه، تمر البلاد بجفاف تاريخي. ومما يضاعف التحديات الداخلية انتشار الميليشيات المدعومة من إيران.
ويعني هذا الوضع الرهيب أنَّ سلسلة الحكومات الضعيفة في العراق، التي جُمِّعَت من الفصائل المتشاحنة في البلاد لتكون حل وسط، قد بحثت في الخارج عن النجاح.
وقاد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي جهود الوساطة بين إيران والسعودية. كما قاد تكاملاً أعمق مع الأردن ومصر. قبل زيارته للمنطقة، أشاد الرئيس الأمريكي جو بايدن ببغداد ووصفها بأنها "منصة للدبلوماسية".
لكن البعض يقول إنَّ التركيز على الحملات الدبلوماسية في الخارج جعل الحكومة تبدو أكثر غفلة وغير مستجيبة لاحتياجات العراقيين العاديين، مثل أولئك الذين يحاصرون البرلمان.
قال منصور من مركز أبحاث Chatham House: "إلى أي مدى نحتفل بحكومة تأتي فيها النجاحات الرئيسية عندما تذهب إلى مؤتمرات في الخارج، بينما البلد ينهار من الداخل؟".
في غضون ذلك، تستمر الأزمة السياسية في العراق، ولا تزال السفارة الأمريكية في بغداد فارغة لدرجة تثير التساؤلات.