يقول الرئيس الأمريكي السابق إن خصومه السياسيين يشنون عليه "حملة اضطهاد سياسي"؛ خوفاً من شعبيته الجارفة، بينما يرى الديمقراطيون برئاسة جو بايدن أن ترامب يمثل خطراً على البلاد وينتهك القانون ولابد من معاقبته، فأين الحقيقة؟
ومنذ النهاية الدرامية لفترة رئاسته (2016-2020)، أصبح دونالد ترامب الرقم الأصعب على الإطلاق في الحياة السياسية الأمريكية، إذ يتمتع بشعبية كبيرة داخل الحزب الجمهوري، وجاءت أحداث شهر أغسطس/آب الجاري لتشعل الأجواء بصورة غير مسبوقة.
إذ أثارت مداهمة قوات من مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI منتجع دونالد ترامب "مارالاغو"، وهو منزل الرئيس السابق، عاصفة من ردود الفعل الغاضبة من جانب المعسكر الجمهوري، والمرحِّبة من جانب المعسكر الديمقراطي، فهذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي تداهم فيها قوات الأمن منزل رئيس سابق بناءً على مذكرة تفتيش فيدرالية.
نعم، ترامب ملاحَق من جانب الأجهزة القضائية الفيدرالية لعدد من الأسباب، منها ما يتعلق بالتهرب الضريبي ومنها ما يتعلق باقتحام أنصاره الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، لكن تلك الغارة التي نفذتها قوات مكتب التحقيقات الفيدرالي غير مرتبطة بأي من ذلك، بل بشأن نقل الرئيس السابق مستندات مصنفة على أنها "سرية للغاية" من مكانها داخل البيت الأبيض إلى منزله الخاص، أو على الأقل هذا ما قالته وزارة العدل الأمريكية.
ترامب ونتائج انتخابات 2020
لا شك في أن دونالد ترامب لم يكن رئيساً تقليدياً، ولا حتى سياسياً تقليدياً، فالرجل قضى معظم حياته رجلَ أعمال ونجمَ تلفزيون الواقع، ويتمتع بشخصية نرجسية تماماً. ومنذ ظهوره على مسرح السياسة الأمريكية أواخر عام 2015، ثم فوزه بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، أصبح دونالد ترامب علامة فارقة في تاريخ السياسة الأمريكية، والعالمية أيضاً.
أصبح هناك توجه سياسي عالمي اسمه "الترامبية"، نسبة إلى الرئيس السابق، وأصبح بعض الزعماء حول العالم يلقَّبون باسمه، مثل رئيس وزراء بريطانيا السابق، بوريس جونسون "ترامب لندن"، ورئيس البرازيل هايير بولسونارو "ترامب البرازيل"، ورئيس الفلبين السابق دوتيرتي "ترامب الفلبين"، وغيرهم.
أما المقصود بـ"الترامبية" فهي السياسات الشعبوية اليمينية، التي لا تتقيد كثيراً بالأعراف الدبلوماسية، بل تتوجه بخطابها إلى أنصارها مباشرة. فترامب يتحدث إلى الأمريكيين من الرجال البيض المسيحيين ولا يخفي إيمانه بتفوق الجنس الأبيض على ما سواه، وتسبب صعوده الصاروخي ووصوله إلى البيت الأبيض في صعود رهيب لتيار اليمين المتطرف، وارتفعت وتيرة الجرائم ذات الدافع العنصري.
وخلال سنواته الأربع بين جدران البيت الأبيض، تعرض ترامب لمحاولات عزله من المنصب مرتين، كانت الأولى بسبب اتهامه بالضغط على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لفتح تحقيق في مزاعم بشأن فساد هانتر بايدن، نجل الرئيس الحالي جو بايدن، خلال عمل الابن في شركة الطاقة الأوكرانية. اتخذ ترامب قراراً بتعليق مساعدات عسكرية أمريكية إلى أوكرانيا، واتُّهم بأنه ربط الإفراج عن تلك المساعدات بفتح كييف التحقيق الذي يريده في ممارسات هانتر بايدن.
أما المرة الثانية التي واجه فيها ترامب شبح العزل من منصبه فقد جاءت على خلفية اقتحام أنصاره الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني، لتعطيل جلسة التصديق على نتائج الانتخابات التي خسرها ترامب لصالح جو بايدن. وفي هذه المرة أيضاً أفلت ترامب من العزل، رغم استمرار محاكمة الكونغرس له بعد رحيله رسمياً عن البيت الأبيض ظهر يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021.
خسر ترامب الانتخابات دون أن يعترف بالهزيمة، وظل يردد أنه الفائز وأن الفوز قد تمت "سرقته" على أيدي الديمقراطيين و"الدولة العميقة" بمشاركة ودعم وسائل الإعلام "المزيفة"، في إشارة إلى المحطات التلفزيونية والصحف التقليدية، باستثناء شبكة Foxnews اليمينية المؤيدة له، وإن كانت الشبكة نالها أيضاً بعض من هجومه أحياناً. ليس ترامب وحده هو الذي ردد، ولا يزال، مزاعم تزوير الانتخابات وسرقة "فوزه"، بل شاركه تلك المزاعم أغلب أعضاء الكونغرس الجمهوريين، وعشرات الملايين من الناخبين الجمهوريين أيضاً.
عودة ترامب إلى الساحة السياسية
عندما غادر ترامب البيت الأبيض ظهر يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021، بدا أن الرئيس السابق يتجه نحو غياهب النسيان وربما ينتهي به الحال سريعاً خلف القضبان أيضاً. فهناك تحقيقات جارية تتعلق بتهربه من الضرائب، وهناك كارثة اقتحام الكونغرس والدماء التي سالت خلالها وهزت أسس الديمقراطية الأمريكية حول العالم ودور ترامب المحتمل في التحريض على تلك الأحداث، إضافة إلى وجود أصوات داخل الحزب الجمهوري نفسه تصف الرئيس السابق بأنه يمثل "خطراً داهماً"، ليس فقط على مستقبل الحزب، ولكن على مستقبل الولايات المتحدة نفسها.
كان ترامب "محظوراً" من الوجود على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً منصته المفضلة "تويتر"، إذ جرى وقف حساباته على جميع منصات التواصل، وليس "تويتر" فقط، في أعقاب أحداث اقتحام الكونغرس الدامية. كما أوقفت شبكات التلفزيون ووسائل الإعلام التقليدية بث أي فعالية أو خطاب له، وبدا أن نجم الرئيس الأكثر صخباً في التاريخ قد بدأ رحلة الأفول.
في ذلك الوقت، تعالت المطالبات من جانب الديمقراطيين وبعض نشطاء الديمقراطية لإدارة بايدن ووزارة العدل كي تلاحق ترامب بتهم جنائية، لكن بايدن رفض ذلك؛ تجنباً لشبهات اتهام إدارته بالاضطهاد "السياسي" لرئيس سابق.
مرت الأشهر سريعاً وجاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أواخر أغسطس/آب 2021، والذي تم بطريقة فوضوية أغضبت الحلفاء، لتبدأ عودة ترامب تدريجياً إلى الأضواء. وصف ترامب الانسحاب بتلك الطريقة بأنه "هزيمة مهينة" للولايات المتحدة، وفي المقابل تعرضت شعبية جو بايدن لضربة مؤلمة.
وبعد أقل من ثلاثة أشهر، شهدت بعض الولايات الأمريكية انتخابات، كانت الأكبر منذ انتخابات 2021 الدرامية، ومعها بات شبح عودة ترامب يزداد قوة ووضوحاً، حيث حقق الجمهوريون انتصارات لم يكن يتوقعها أي من المراقبين، وظهر ترامب منتشياً ولمَّح لعودته إلى الترشح للرئاسة مرة أخرى عام 2024.
ومع عودة ترامب إلى استعادة نشاطه داخل أروقة الحزب الجمهوري، بدا كما لو أن هناك تيارين، أحدهما يدعمه بقوة والآخر يرفضه، لكن العام الجاري شهد عدة أحداث داخل الحزب نفسه أظهرت مدى قوة التيار الداعم للرئيس السابق. كان أبرز تلك الأحداث ما حل بالنواب الجمهوريين العشرة، الذين صوتوا لصالح عزل ترامب في المرة الثانية بسبب أحداث اقتحام الكونغرس.
فمن هؤلاء العشرة، أعلن أربعة أنهم لن يترشحوا مرة أخرى في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس خلال نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وسعى الستة الباقون إلى الفوز بترشيح الحزب الجمهوري، خسر منهم أربعة، كانت آخرهم وأبرزهم النائبة ليز تشيني، التي فقدت تأييد الحزب مساء الثلاثاء 16 أغسطس/آب، ولم يفز سوى اثنين من العشرة، بحسب تقرير لشبكة Foxnews الأمريكية.
وليز تشيني هي العدوة اللدود لدونالد ترامب، ومثَّلت هزيمتها النكراء في السباق لنيل ترشيح حزبها لإعادة انتخابها نائبة عن ولايتها وايومينغ، مؤشراً لافتاً على مدى تأثير الرئيس السابق على الحزب، بعد أن فازت بهذا الترشيح هارييت هيغيمن المدعومة من ترامب نفسه.
وتحولت تشيني (56 عاماً)، إلى واحدة من أشد أعداء ترامب منذ أن انضمت إلى لجنة الكونغرس الخاصة بالتحقيق في دور الرئيس السابق في هجوم أنصاره على مبنى الكابيتول. وكانت استطلاعات الرأي في ولاية وايومينغ، في أعقاب تصويت تشيني لعزل ترامب وانضمامها للجنة التحقيق، قد أظهرت تراجع شعبيتها من أكثر من 77% قبل إعلان موقفها إلى أقل من 26% فقط بعد موقفها المعادي لترامب.
ماذا حققت غارة مكتب التحقيقات الفيدرالية؟
بعد قيام قوات مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI بمداهمة وتفتيش منتجع مارالاغو، أظهرت جميع استطلاعات الرأي ارتفاعاً لافتاً في شعبية ترامب. وبحسب تقرير لصحيفة Washington Post، أظهر استطلاع للرأي، في أعقاب تفتيش منزل الرئيس السابق، أنه وسَّع الفارق بينه وبين مرشح جمهوري محتمل للرئاسة، حاكم ولاية فلوريدا، رون دي سانتيس، إلى أكثر من 10 نقاط. وقال أكثر من 57% من الناخبين الجمهوريين المستطلع رأيهم، إنهم سيصوتون لصالح ترامب في انتخابات الرئاسة 2024 في حال ترشحه، بزيادة 4% عن استطلاع رأي أجرته الجهة نفسها في يوليو/تموز الماضي. وعلى الجانب الآخر، تراجعت نسبة التأييد لترشيح دي سانتس المحتمل من 23% في يوليو/تموز إلى 17% فقط في أعقاب غارة مكتب التحقيقات الفيدرالي.
لكنَّ اللافت هو أن استطلاعات الرأي المختلفة، بعد تلك الغارة، أظهرت ارتفاعاً كبيراً في نسبة الناخبين الجمهوريين الذين أبدوا تصميماً على الإدلاء بأصواتهم في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس وفي الانتخابات الرئاسية المقبلة في حال ترشح ترامب، وهو ما تفاخر به الرئيس السابق على حسابه في منصة Truth Social، التي أسسها رداً على حظر حساباته بمنصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
وأظهرت استطلاعات الرأي نفسها أن غالبية المستطلع رأيهم من الجمهوريين يعتقدون أن ترامب يتعرض لـ"حملة اضطهاد سياسي" من جانب الحكومة الفيدرالية والإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن، هدفها الرئيسي حرمانه من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وزارة العدل تنفي تلك الاتهامات وتؤكد أن مذكرة التفتيش الصادرة بحق ترامب تصرف قانوني تماماً سبقه اتخاذ جميع الخطوات من تحريات وتحقيقات وأخذ إذن المحكمة، والسبب يرجع إلى إخراج ترامب ملفات تحمل ختم "سري للغاية" من البيت الأبيض عندما غادره قبل عام ونصف العام.
ولكلٍّ من الطرفين حججه ومبرراته، ويبدو أنه بات من المستحيل الوقوف على إجابة للسؤال المنطقي: هل يتعرض ترامب فعلاً لاضطهاد سياسي من جانب الدولة العميقة وخصومه الديمقراطيين؟ أم أنه بارع لهذه الدرجة في انتهاك القانون لدرجة عدم تمكُّن جهات التحقيق من إدانته بشكل نهائي؟
لكن الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكداً هو أن شعبية ترامب في ازدياد مطرد، وهو ما يمثل خطراً كبيراً على أغلبية الديمقراطيين الهشة في الكونغرس خلال انتخابات التجديد النصفي المقبلة، علماً بأن ترامب لا يزال مقتنعاً بأنه فاز في الانتخابات الماضية وتمت "سرقة فوزه"، دون أن يقدم دليلاً فعلياً على تلك السرقة، والمؤكد أيضاً هو أن الأغلبية بين الجمهوريين مقتنعون بالشيء نفسه، ومن ثم فهم مقتنعون بأن أي تحرُّك من جانب جهات التحقيق وإنفاذ القانون تجاه ترامب دافعه سياسي.