بينما تمنع إسرائيل رفع علم فلسطين في القدس، فإن رئيساً للسلفادور جرى لف جثمانه عند وفاته بعلم فلسطين، تظهر هذه الواقعة الفريدة الدور الكبير الذي يلعبه الفلسطينيون في السلفادور، وقصة نجاحهم التي خرجت من رحم معاناة أجدادهم من العنصرية عندما قدموا لهذه البلاد البعيدة.
يمكن للمرء أن يعثر داخل دولة السلفادور بأمريكا الوسطى على الكثير من آثار فلسطين التي تبعد عشرات الآلاف من الكيلومترات، والتي يعتبرها كثير من أبناء السلفادور وطنهم الأول: فلسطين.
تتجاوز المسافة بين البلدين 12.000 كيلومتر، لكن السلفادور وفلسطين تتشاركان تاريخاً يتجاوز القرن من الزمان ويربط بين البلدين والشعبين، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
الفلسطينيون في السلفادور جزء من جالية ضخمة بأمريكا اللاتينية
تُعتبر أمريكا اللاتينية موطناً لأكبر جاليات الشتات الفلسطيني خارج العالم العربي، والتي يصل حجمها إلى 700.000 شخص من ذوي الأصول الفلسطينية الذين يعيشون في مختلف أرجاء المنطقة. يعيش منهم نحو 100.000 في السلفادور تحديداً.
ووطئ الفلسطينيون التراب السلفادوري في البداية أواخر القرن الـ19، عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية تشهد نزوحاً جماعياً ضخماً لسكانها.
وقال الأكاديمي يوسف الجمال: "هاجر العديد من الفلسطينيين للأسباب نفسها التي دفعت العديد من أبناء الشام للهجرة في ذلك الوقت، وهي الأسباب السياسية والاقتصادية. إذ كانوا يعيشون آخر أيام الإمبراطورية العثمانية، وكان غالبيتهم من أتباع المسيحية. لهذا لم يرغبوا في خوض الحرب إلى جانب الإمبراطورية العثمانية، وأرادوا عيش حياةٍ أفضل".
لكن المنحدرين من فلسطين لم يمثلوا سوى أقلية ضمن الموجة الأولى من مهاجري الشام، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى ممن أقاموا في السلفادور كانوا ينحدرون من مدينة بيت لحم الفلسطينية في المقام الأول.
اُضطهدوا من التجار ذوي الأصول الأوروبية، فلجأوا للمهارة الشامية التقليدية
وجد الفلسطينيون أن خياراتهم المتاحة كانت محدودةً مع بداية وصولهم إلى وطنهم الجديد بأمريكا الوسطى. إذ لم يتمتعوا باتفاقيات الهجرة التي جرى ترتيبها مسبقاً ليحصلوا على عملٍ مضمون في الزراعة، كما كان الحال مع نظرائهم الأوروبيين. ولهذا اضطروا للبحث عن حلول بديلة لكسب قوتهم، وسرعان ما استخدموا البراعة الفلسطينية والشامية التقليدية في مجال التجارة.
كتبت سيسيليا بايزا، عالمة الاجتماع والأكاديمية المهتمة بجاليات الشتات: "بدأ تجار فلسطين في أمريكا اللاتينية ببيع السلع متجولين من بابٍ إلى باب أينما انتهى بهم المطاف، وكانت وظيفةً مربحة رغم صعوبتها. واستهلوا ببيع المشغولات اليدوية الدينية. لكنهم سرعان ما نجحوا في توسيع أعمالهم لتشمل المنتجات المصنعة الأخرى، وتمكن غالبيتهم من افتتاح متجره الخاص في غضون بضع سنوات".
صنفوا كأتراك ثم كعناصر ضارة مع الصينيين
وجرى تصنيف أبناء الجالية الفلسطينية على أنهم من "الأتراك" عندما وصلوا إلى السلفادور للمرة الأولى، وذلك بسبب كونهم من رعايا الدولة العثمانية، كما كان يحدث مع بقية المهاجرين العرب الذين جاوءا من الدول التي كانت تابعة للدولة العثمانية إلى المنطقة.
لكن هذا التصنيف سرعان ما حمل إيحاءً بالازدراء، بينما تعرضت الجالية للتمييز العنصري. إذ كانت النخب السلفادورية ذات الأصول الأوروبية- المعروفون باسم الكريولو- تشعر بالضيق نتيجة تنامي الجالية "التركية".
وأوضح سمعان خوري، رئيس الاتحاد الفلسطيني في أمريكا اللاتينية وعضو الجمعية الفلسطينية السلفادورية، لموقع Middle East Eye البريطاني: "واجه الفلسطينيون الكثير من الرفض بمجرد وصولهم. إذ اعتبرهم البرجوازيون في السلفادور أناساً من طبقات اجتماعية أدنى".
وانعكس هذا التوجه على المستوى المؤسسي. إذ جرى تعديل قوانين الهجرة الوطنية عام 1921، وصنّفت المهاجرين الصينيين والعرب على أنهم "أمرٌ ضار".
ثم أُدخِلَت قوانين الهجرة الصارمة التي استهدفت "الأتراك وغيرهم من الأقليات الإثنية" في عهد الديكتاتور ماكسيميليانو هيرنانديز مارتينيز، خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
يقول خوري: "نجا الفلسطينيون في السلفادور وحققوا الكثير. إذ بدأوا العمل في التجارة، وسرعان ما أحدثوا ثورة".
كيف تغلبوا على التمييز العنصري؟
نجح الفلسطينيون في السلفادور في التغلب على التمييز العنصري والتجاهل المؤسسي، قبل أن يزدهروا كجاليةٍ ساعدت في تكوين السلفادور المعاصرة.
وأردف خوري: "من المؤسف أن أجدادنا اضطروا لتحمل تلك الأشياء، لكننا نشعر بفخرٍ كبير لما وصلنا إليه اليوم. إذ نتمتع بمكانةٍ اجتماعية، واقتصادية، وسياسية رائعة بكل صراحة".
ولا يمكن فهم التطور المعاصر للسلفادور دون النظر إلى الألقاب وأسماء العائلات العربية والفلسطينية التي ساعدت البلاد على النمو.
حيث لعبت عائلات الناصر، والحنظل، وسمعان، والسقا، وصافية، وزبلح، وبقيلة دورها في تكوين الدولة الواقعة بأمريكا الوسطى.
نجحوا اقتصادياً واهتموا بتعليم أبنائهم
ولا شك أن تثبيت أقدام الموجة الأولى من المهاجرين الفلسطينيين عبر جيلٍ من الباعة الجائلين قد سمح للأجيال اللاحقة بتأمين نفسها مالياً، وساعدها بالتبعية على ارتقاء السلم الاقتصادي والاجتماعي.
قال الجمال للموقع البريطاني: "تمتع الفلسطينيون في السلفادور بالقوة الاقتصادية، وحرصت عائلاتهم على أن يذهبوا للمدرسة ويكملوا تعليمهم، وها نحن نشهد ثمار هذا الاستثمار اليوم. وربما يكون العديد منهم من أبناء الطبقة المتوسطة، لكنهم أكثر ثراءً على الصعيد الاقتصادي والسياسي والثقافي".
وأردف: "أصبح الفلسطينيون في السلفادور أقوياء للغاية بفضل نوعية الوظائف التي حصل عليها أسلافهم والعنصرية التي واجهوها، وقد أرادوا تغيير ذلك".
رؤساء فلسطينيون للسلفادور.. أحدهم لف جثمانه بعلم فلسطين المحظور بالقدس
بعد أجيالٍ قليلة من وصولهم، تحول الفلسطينيون إلى شخصيات بارزة في مجالات السياسة والأعمال والطب بالسلفادور.
وصرح مروان جبريل البوريني، السفير الفلسطيني في السلفادور، قائلاً للموقع البريطاني: "يُشكّل الفلسطينيون جزءاً أساسياً من نسيج هذا البلد. ويحتل ذوو الأصول الفلسطينية مجموعةً من المناصب المهمة والرئيسية في كافة القطاعات. ويساهمون بالكثير على كافة المستويات، خاصةً المستوى الاقتصادي".
وأردف البوريني: "يعتبرون محركاً مهماً لاقتصاد البلاد، لكنهم يشاركون سياسياً بكثرةٍ أيضاً".
وتتجلى القوة السياسية لهذه الجالية في حقيقة انحدار نجيب بقيلة، الرئيس السلفادوري الحالي، من أصول فلسطينية.
وأقر خوري قائلاً: "لا شك أن وجود رئيس من أصول فلسطينية يمثل مصدر فخرٍ هائلاً".
ومع ذلك ليس بقيلة أول سياسي بارز من أصول فلسطينية في البلاد. وليس حتى أول رئيس سلفادوري من أصول فلسطينية.
حيث شهدت الانتخابات الرئاسية لعام 2004 منافسةً بين سلفادوريين من أصلٍ فلسطيني: المحافظ أنطونيو سقا واليساري شفيق حنظل. وقد فاز الأول بالانتخابات.
وعندما توفي حنظل عام 2006، جرى لف جثمانه بعلمي السلفادور وفلسطين، تكريماً لأصوله.
..وميدان باسم ياسر عرفات
وتتجلى كذلك البصة المجتمعية التي تركها فلسطينيو البلاد في شوارع سان سلفادور، عاصمة السلفادور.
إذ يمكن للمرء العثور على مجمع "فيلا فلسطين" السكني الذي يتألف من عدة شوارع تحمل أسماء المدن الفلسطينية. بالإضافة إلى ميداني فلسطين وياسر عرفات.
ويرى العديد من السلفادوريين-الفلسطينيين، مثل خوري، أن تأثير ووجود وتاريخ الجالية في وطنها الثاني لطالما كان مصدراً للفخر.
وأضاف: "أنا فخورٌ بجذوري الفلسطينية، وبكوني سلفادورياً. ولم نكن لنبلغ هذه المكانة اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً لولا دمجنا في المجتمع".