على الرغم من تهديدات الصين بغزو تايوان وخطابها الحاد بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، فإنَّ تنفيذ غزو شامل لتايوان لا يزال مسعى محفوفاً بالمخاطر. في المقابل، توجد خطط صينية بديلة لضم تايوان بدون حرب.
واختتمت الصين تدريباتها العسكرية بالذخيرة الحية حول جزيرة تايوان هذا الأسبوع، لكن مكتب شؤون تايوان التابع لمجلس الدولة بجمهورية الصين الشعبية أصدر كتاباً أبيض يؤكد "إعادة التوحيد السلمي" مع الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، مع الاحتفاظ بالحق في استخدام القوة.
في ضوء ذلك، يمكن استبعاد حدوث تصعيد دراماتيكي رداً على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان، حتى لو أصبحت التدخلات العدوانية الصينية عبر خط الوسط في مضيق تايوان واقعاً طبيعياً جديداً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لماذا يمثل غزو جزيرة تايوان الصغيرة مغامرة محفوفة بالمخاطر للعملاق الصيني؟
على الرغم من المزاعم الصينية بأنَّ غزو تايوان سيكون سريعاً وسهلاً، ستحتاج بكين إلى شن هجوم برمائي واسع النطاق ضد خصم تايواني استعدَّ لهذا السيناريو على مدار عقود، وتُظهر الحرب الأوكرانية أن دولة صغيرة لديها إرادة قوية للقتال يمكنها الصمود أمام عدو أكبر، علماً بأن أوكرانيا لديها حدود برية واسعة وسهلية مع روسيا، بينما الجغرافيا تعمل لصالح تايوان، الجزيرة التي تحيطها المياه من كل اتجاه.
ثم هناك المخاطر الجيوسياسية للغزو، وعلى رأسها احتمالية الدخول في حرب واسعة النطاق مع الولايات المتحدة الأمريكية.
من ناحية، يعتقد فصيل داخل الأوساط الأكاديمية العسكرية الصينية أنَّ غزو تايوان يمكن أن يُظهر إرادة صينية متفوقة ويدفع الولايات المتحدة خارج منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ثمة تساؤلات بالتأكيد حول مدى استعداد واشنطن لخوض حرب وما إذا كان بإمكانها الدفاع حقاً عن تايوان. من ناحية أخرى، لا يريد قادة الصين الانجرار إلى صراع عسكري مباشر مع الولايات المتحدة، حليفة تايوان. لا أحد في بكين يريد المخاطرة بتلقي هزيمة مُذلة على يد أقوى جيش في العالم أو أن ينتهي المطاف باندلاع حرب نووية.
ستكون للغزو آثار سلبية على اقتصاد بكين وصورتها
إذا وضعنا الولايات المتحدة جانباً، فإنَّ غزو تايوان من شأنه القضاء على مزاعم الصين بأنَّها قوة مسالمة. في البداية على الأقل، لن تستطيع الصين عزل تايوان المحتلة عن العالم مثل منطقة التبت أو إقليم شينجيانغ، حيث يمكن إبقاء فظائع الصين مخفية إلى حد ما. حتى لو قطعت الصين الاتصال بالإنترنت في تايوان، فإنَّ الجزيرة تتمتع بقدرات تقنية عالية بما فيه الكفاية لالتقاط صور للحرب أو لانتهاكات الاحتلال الصيني تضر بسمعة الصين وصورتها الدولية.
وبالمثل، فإنَّ قرار شن عملية عسكرية ضد تايوان قد ينذر بعواقب وخيمة على الاقتصاد الصيني وعلاقاتها التجارية الخارجية. يمكن أن يتبع الغزو الصيني لتايوان ركود اقتصادي في الداخل. يتشابك اقتصاد جنوب الصين مع الموردين التايوانيين ورؤوس الأموال التايوانية، التي ستدمرها الحرب. تسببت أيضاً العقوبات المالية الغربية المفروضة على روسيا رداً على غزوها لأوكرانيا، في إثارة قلق بكين على الرغم من أنَّ فرض عقوبات مكثفة على الصين سيلحق مزيداً من الضرر بالاقتصاد العالمي.
ولكن هناك مخاطر داخلية أيضاً
يتمثل العامل الأخير -وربما الأهم- في المخاطر السياسية لغزو تايوان. نجحت الصين في ترويج فكرة أنَّ إعادة التوحيد مع تايوان أمر عادل وحتمي، وأنَّ الانتصار العسكري سيكون سهلاً، وهو أمر يؤمن به كثير من المواطنين الصينيين بحماسة.
ولكن هذه التوقعات الصينية بسهولة ضم تايوان عسكرياً تزيد من المخاطر إذا فشلت المحاولات الصينية لغزو الجزيرة.
وبناءً عليه، في الوقت الحالي على الأقل، فإنَّ المخاطر الهائلة لخطوة غزو الصين لتايوان- جنباً إلى جنب مع حقيقة أن الجزيرة قد تبقى قوية التسليح ومن الصعب أن تستسلم بسهولة– تقلل من احتمالية نشوب حرب.
خطط صينية بديلة لضم تايوان بدون حرب
في أعقاب زيارة بيلوسي، يجدر التفكير في سبب عدم غزو الصين لتايوان على الرغم من تهديداتها شبه المستمرة بفعل ذلك. ثمة بضعة عوامل تثني بكين عن هذه الخطوة، إضافة إلى المخاطر المترتبة عليها، وهي وجود خطط صينية بديلة لضم تايوان بدون حرب.
فالصين تأمل عودة تايوان إلى البر الرئيسي بدون حرب.
ومع ذلك، تشير نتائج استطلاعات الرأي في تايوان إلى خيالية هذا الأمر. ثمة 2% فقط من التايوانيين يعتبرون أنفسهم صينيين، في انخفاض عن نسبة 25% قبل عقد من الزمن، وذلك بسبب تغير الأجيال وانتهاكات بكين وقمعها لحقوق الإنسان. يتبنى معظم الجمهور التايواني آراء سلبية تجاه الحزب الشيوعي الصيني، وقد أدى تدمير بكين للحريات القانونية في هونغ كونغ إلى تحويل مبدأ "دولة واحدة ونظامان" إلى مزحة.
لكن من المحتمل أنَّ القادة الصينيين قد أقنعوا أنفسهم بأن عودة تايوان ممكنة، إذ يُصوّر الكتاب الأبيض الشعب التايواني على أنَّه مخدوع من الغرب والحزب الديمقراطي التقدمي المؤيد للانفصال الكامل للجزيرة عن الصين. قال سفير الصين لدى أستراليا إنَّ نتائج استطلاعات الرأي ونتائج الانتخابات مضللة.
تبدو مثل هذه المزاعم متوقعة حسب المجلة الأمريكية التي تقول، "يكذب المسؤولون الصينيون عادةً لدرجة أنهم يفترضون أن الآخرين يفعلون الشيء نفسه". علاوة على ذلك، لا يستطيع مكتب شؤون تايوان أيضاً التحدث بصدق حتى على الصعيد الداخلي بشأن فشله في جذب التايوانيين لفكرة إعادة التوحيد مع الصين.
تراهن على إقناع التايوانيين بمزيج من الإكراه والترغيب، وهؤلاء هم حلفاؤها
قد يتمثَّل الاحتمال الأرجح في أنَّ قيادة الحزب الشيوعي الصيني تعتقد أنَّها قادرة على إجبار تايوان على الاستسلام من خلال الإكراه والتخريب بدلاً من الحرب المباشرة. أفنى الحزب الشيوعي الصيني كثيراً من الوقت والمال في بناء علاقات مع جماعات عديدة في تايوان، بدايةً من حزب الكومينتانغ الداعي إلى وحدة الأراضي الصينية، إلى مجموعات الجريمة المنظمة.
وسياسة الصين الواحدة هي مبدأ ينص على أن كل أجزاء الصين، وهي الصين البر الرئيسي، وتايوان، وهونغ كونغ، التي كانت مستعمرة بريطانية، وماكاو التي كانت مستعمرة برتغالية، كلُّها تشكل أجزاءً من الصين الواحدة، وبالفعل عادت هونغ كونغ وماكاو إلى السيادة الصينية رغم احتفاظهما بمقدار كبير من الاستقلال المحلي، خاصة في القوانين والاقتصاد.
والمفارقة هنا أن تايوان والصين نفسهما كانتا تتفقان منذ انشقاق الجزيرة على سياسة الصين الواحدة، ولكنهما يختلفان على من يمثّلها، إلا أن تايوان بدأت في التخلي عن هذا المبدأ.
إذ تبادلت تايوان والصين الادعاء بأن كلاً منهما الممثل الشرعي الوحيد للصين وأراضيها، ومن ضمنها تايوان، ولكن في الوقت الحالي تعترف أغلب دول العالم، وضمنها كل الدول الغربية تقريباً، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بحكومة بكين ممثلاً رسمياً للصين، ولا ترتبط الدول الغربية، ومن ضمنها واشنطن، بعلاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، رغم الدعم القوي العسكري والسياسي الذي تقدمه للجزيرة.
فعندما نشأت تايوان ككيان يحكم بشكل منفصل عن بقية الصين، إثر فرار حكومة حزب الكومينتانغ بعد انهيار سلطتها في البر الرئيسي للصين عام 1949، أمام قوات الحزب الشيوعي، لم يقرر حزب الكومينتانغ، الذي كان قبل ذلك الحزبَ الحاكم الرئيسي في الصين، إنشاء دولة مستقلة، بل أعلن أنه يمثل الصين الرسمية، وأطلق على البلاد اسم جمهورية الصين، واعتبر أن حكومة تايوان هي الممثل الرسمي للصين، واعترف الغرب بهذا الوضع الشاذ لفترة.
وحتى التعديلات الدستورية لعام 1991، وإرساء الديمقراطية في تايوان، اعتبرت حكومة تايوان التي يهيمن عليها حزب الكومينتانغ أنها تمثل الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأراضيها المحددة، وأيضاً تم تصنيف الحزب الشيوعي الصيني على أنه "جماعة متمردة".
في عام 1992، أكد حزب الكومينتانغ، الذي أسس تايوان، أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الصين قد اتفقتا على وجود "الصين الواحدة"، لكنهما اختلفا حول ما إذا كانت "الصين الواحدة" هذه تمثلها جمهورية الصين الشعبية، أم جمهورية الصين (تايوان).
حدثت تغييرات داخل تايوان بشأن سياسة الصين الواحدة، وظهرت قوى سياسية تعتبر البلاد دولة مستقلة، ولكن القضية مازالت مسألة خلافية داخل تايوان حتى لو تراجع زخم مبدأ الصين الواحدة.
كان أول مظاهر التغيير، في عام 1991، عندما أشار الرئيس التايواني في ذلك الوقت، لي تنغ هوي، إلى أنه لن يتحدى السلطات الشيوعية لحكم الصين القارية. هذه نقطة مهمة في تاريخ العلاقات عبر المضيق، حيث لم يعد رئيس تايوان يطالب بالسلطة الإدارية على البر الرئيسي للصين.
بعد ذلك، اكتسبت حركة استقلال تايوان دفعة سياسية، وتحت إدارة الرئيس التايواني "لي" لم تعد القضية هي من يحكم الصين، بل من يدعي السلطة الشرعية على تايوان والجزر المحيطة بها.
وأصبحت سياسة الصين الواحدة قضية خلال الانتخابات الرئاسية لتايوان عام 2004. حيث تخلى تشين شوي بيان، عن غموضه السابق ورفض علناً مبدأ الصين الواحدة، زاعماً أنه يعني ضمناً أن تايوان جزء من جمهورية الصين الشعبية. وأيد خصمه ليان تشان علناً سياسة "الصين الواحدة، مع تفسيرات مختلفة". في نهاية انتخابات 2004، أعلن ليان تشان وزميله في الترشح، جيمس سونغ، لاحقاً، أنهما لن يطرحا التوحيد النهائي، باعتباره هدف سياستهم عبر المضيق، ولن يستبعد احتمال استقلال تايوان في المستقبل.
في مقابلة صحفية قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2004، استخدم تشين نموذج ألمانيا والاتحاد الأوروبي كأمثلة لكيفية توحيد البلدان، والاتحاد السوفييتي لتوضيح كيف يمكن أن تتفتت دولة ما.
في عام 2008 انتُخب ما ينج جيو رئيساً لتايوان، ونشأت حقبة جديدة من العلاقات الأفضل بين جانبي مضيق تايوان. وزار مسؤولو حزب الكومينتانغ البر الرئيسي للصين، والتقوا المسؤولين الصينيين في بكين، وتم إنشاء رحلات الطيران العارض المباشر.
ولكن التوجهات الانفصالية ازدادت قوة في البلاد مؤخراً بدعم من الغرب، وقد يكون ذلك بسبب سياسة الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ الأكثر تشدداً، خاصة فيما يتعلق بالحريات، وتخويف الغرب من تكرار نموذج هونغ كونغ، علماً بأن الحريات في هونغ كونغ تراجعت بالفعل، ولكن ليس بالطريقة التي يتحدث عنها الغرب، ومازال للجزيرة قدر كبير من الحكم الذاتي بما في ذلك قدر كبير من الحريات الفردية والسياسية الأعلى بكثير من البر الرئيسي للصين، إضافة لنظام إدارة سياسي واقتصادي مستقل بما في ذلك عملة منفصلة عن اليوان الصيني.
ويترقبون أفول قوة أمريكا وتخليها عن تايوان
يترقب القادة الصينيون أيضاً احتمالية أفول قوة الولايات المتحدة، بحيث تصبح تايوان وحدها بدون حاميها الرئيسي.
حتى لو استبعدت بكين إمكانية إعادة التوحيد السلمي، فإنَّ المخاطر التي قد تصاحب الغزو كبيرة للغاية. لا يوجد ما يضمن للصين تحقيق الانتصار في حال قررت غزو تايوان، حتى بدون تدخُّل أمريكي مباشر. لم تخُض الصين حرباً فعلية منذ 43 عاماً، منذ غزوها لفيتنام عام 1979. على الرغم من استثمارها بكثافة في تعزيز قدراتها العسكرية، لم تتح لها الفرصة لاختبار تلك القدرات.
ولكن النمو الاقتصادي الصيني الكبير، وعدد سكان البلاد الهائل الذي يمثل نحو خمس سكان العالم، إضافة إلى استمرار الجيش الصيني في تطوير قدراته بشكل مطرد، يعني أنه مهما طال الزمن، فإن الفجوة في القوة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة ستتراجع، وعلى العكس فإن الفجوة في القدرات العسكرية بين بكين وتايبيه ستزداد، بما يسمح للجيش الصيني بالتغلب على عوامل تأخره العسكري، وطبيعة تايوان البحرية المحصنة، الأمر الذي قد يمكنه في نهاية المطاف من غزو تايوان، خاصة إذا تزامن ذلك مع تراجع قوة أمريكا، أو على الأقل تقلص اهتمامها بتايوان، أو حين يصبح صدامها مع الصين أكثر تكلفة عسكرياً واقتصادياً مما هو الآن.
تداعيات زيارة بيلوسي حتى الآن
أعلنت بكين مؤخراً تجميد عدد من المحادثات العسكرية والأمنية مع واشنطن، إضافة إلى تعليق مؤقت لخمسة برامج تعاون في عدد من القضايا الأخرى، مثل تغير المناخ وجهود مكافحة المخدرات. كانت هذه تداعيات متوقعة -حيث سعت الصين للتعبير عن غضبها من زيارة بيلوسي لتايوان- لكنها خطيرة أيضاً، نظراً إلى احتمالية حدوث اشتباكات عرضية في غياب المناقشات العسكرية المنتظمة.
في غضون ذلك، وصف المبعوث الأمريكي الخاص لقضية المناخ، جون كيري، الصين بأنَّها "تُعاقب العالم" بتعليقها محادثات المناخ مع الولايات المتحدة. قد يحدث استئناف لتلك المناقشات بمجرد أن تهدأ الحالة المزاجية الغاضبة في بكين، لكن العلاقات الأمريكية-الصينية تواصل الانحدار مع عدم وجود مسار واضح للتحسن في المستقبل القريب.
تمضي الولايات المتحدة قدماً من أجل فتح سفاراتها في جزر المحيط الهادئ. قد يسفر الاتفاق الأمني الصيني مع جزر سليمان عن نتائج عكسية، حيث لا تزال تلك الصفقة تجذب اهتماماً أمريكياً جديداً إلى منطقة اعتبرتها واشنطن لفترة طويلة، منطقة بعيدة عن الصراعات والمنافسات الدولية. يعد مشروع قانون سفارات جزر المحيط الهادئ أحدث علامة على الاهتمام الأمريكي بتلك المنطقة، وهو مشروع قانون مدعوم من الحزبين في كل من مجلسي النواب والشيوخ، ومن المرجح إقراره في وقت لاحق من هذا العام. ستفتح واشنطن بموجب هذا القانون سفارات أمريكية في ثلاث دول جزرية -فانواتو وكيريباتي وتونغا- كانت قد تعاملت دبلوماسياً مع الولايات المتحدة من خلال سفارات أخرى في المنطقة.
استمراراً لهذا الاتجاه، يخطط الرئيس الأمريكي جو بايدن، لاستضافة قمة لقادة جزر المحيط الهادئ بالبيت الأبيض في سبتمبر/أيلول المقبل. تعتبر هذه التحركات منطقية، لكنها تعكس أيضاً مدى ارتباط الجهود الدبلوماسية للولايات المتحدة بوجودها العسكري العالمي. على صعيد آخر، تظل العلاقات الودية مع الدول الأصغر، ساحة تنافُس تتفوق فيها الصين تفوقاً واضحاً على الولايات المتحدة.