حتى الآن يبدو أن طرفي الأزمة السياسية في العراق يسعيان إلى تجنب تحولها إلى حرب أهلية، لكن ماذا لو خرجت الأمور عن السيطرة بعد فشل إيران في التقريب بين مقتدى الصدر والإطار التنسيقي بزعامة نوري المالكي؟
الإطار التنسيقي هو المصطلح الذي يشير إلى الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، والتي خسرت أغلبيتها البرلمانية في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي لصالح كتلة "سائرون" التابعة للتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وهو أيضاً تيار شيعي.
وأراد مقتدى الصدر تشكيل "حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية"، أي لا تخضع لنفوذ إيران ولا لنفوذ الولايات المتحدة، لكنه فشل في الحصول على الأغلبية الكافية، فأوعز إلى نواب البرلمان من كتلته لتقديم استقالتهم، ما فتح الباب أمام الإطار التنسيقي لاختيار رئيس الحكومة، لكن الصدر اعترض وأوعز إلى أنصاره باقتحام البرلمان.
صراع يهدد استقرار العراق
لا شك أن الصراع الحالي على السلطة بين مقتدى الصدر وخصومه المتحالفين مع إيران يهدد استقرار العراق، لكنه يعتبر أيضاً اختباراً لقدرة طهران على نزع فتيل قنبلة قد تضر بمصالحها أيضاً.
إذ إنه مع اعتصام أنصار الصدر في البرلمان واحتجاج معارضيه في الشوارع، أدى الخلاف حول تشكيل حكومة جديدة إلى فرض مزيد من الضغوط على نظام سياسي تعصف به الأزمات منذ أن أطاحت قوات تقودها الولايات المتحدة بصدام حسين قبل عقدين، بحسب تقرير لرويترز.
وحتى الآن، لا يبدو أن أياً من الجانبين مستعد للتراجع قيد أنملة في المواجهة المستمرة منذ 10 أشهر، والتي بدأت عندما خرج الصدر منتصراً في انتخابات أكتوبر تشرين/الأول، وسعى بعدها لتشكيل حكومة وفقاً لشروطه، بيد أن خصومه عرقلوا مساعيه.
الانتخابات، التي أجريت الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول، نتج عنها فوز كتلة "سائرون" التابعة للتيار الصدري بالصدارة بـ73 مقعداً في البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 329، وتلتها كتلة "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان المنتهية ولايته بـ38 مقعداً.
وفي المركز الثالث جاءت كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني وحصد 32 مقعداً.
وفاز تحالف "الفتح والبناء" برئاسة القيادي في "الحشد الشعبي" هادي العامري بـ17 مقعداً فقط، بينما سجل تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم رئيس تيار "الحكمة" المتحالف مع تحالف "النصر" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، "التراجع الأكبر" بين القوائم والتحالفات الشيعية، بحصولهما على 4 مقاعد فقط. بينما حصدت أحزاب ناشئة وشخصيات مستقلة نحو 40 مقعداً.
وانضوت كتل "دولة القانون" برئاسة المالكي مع تحالف "الفتح والبناء" و"قوى الدولة الوطنية" وأحزاب شيعية أخرى تحت لواء "الإطار التنسيقي"، الذي عرقل جميع محاولات الصدر لتشكيل الحكومة.
وينتمي الصدر إلى عائلة رجال دين بارزين، وحارب القوات الأمريكية بعد الغزو عام 2003، وعارض النفوذ الخارجي في بلاده طويلاً. وزادت مخاطر الأزمة الحالية في يونيو/حزيران الماضي عندما وجّه النواب من كتلته النيابية إلى الانسحاب من البرلمان، متنازلين بذلك عن عشرات المقاعد للتيارات المتحالفة مع إيران. والخطوات التي اتخذتها تلك التيارات لاحقاً صوب تشكيل حكومة دون الصدر هي ما دفعت أنصاره إلى اقتحام البرلمان.
وفي مؤشر على أن الجمود السياسي في العراق لن ينكسر قريباً بأي حال، اقتحم آلاف من أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر مبنى البرلمان العراقي، الأربعاء 27 يوليو/تموز، وهم يرددون هتافات مناهضة لمنافسيه السياسيين الشيعة، وذلك بعد أيام من تلميحهم إلى اتفاق بشأن رئيس وزراء محتمل.
وفي الوقت الذي تواصل حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي المنتهية ولايتها تصريف الأعمال، يبدو أن فشل الأحزاب في التوافق على حكومة جديدة يتواصل أيضاً، وهو ما يعني استمرار حكومة الكاظمي كحكومة انتقالية لحين إجراء انتخابات جديدة.
مأزق إيران في العراق
تُفاقم الأزمة السياسية في العراق من القلاقل في حزام يضم دولاً عربية هشة الأوضاع بين إيران والبحر المتوسط، وهي العراق وسوريا ولبنان، وكلها تقع في دائرة نفوذ إيران، وعانت من ويلات صراعات أو أزمات كبرى على مدى العقد الماضي، من بينها معركة دامية مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وبالنسبة للعراق الذي مالت فيه كفة ميزان القوى لصالح إيران بعد الغزو الأمريكي، زاد الصراع من الانقسامات في بلد له تاريخ حافل أيضاً من التنافس بين الجماعات العربية السنية والجماعات الكردية التي تسيطر على الشمال.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن الطرفين المدججين بالسلاح يعملان على تجنب العنف انطلاقاً من إدراكهما تأثير ذلك على البلاد وعلى الأغلبية الشيعية التي صعدت إلى السلطة في إطار نظام سياسي أسسته الولايات المتحدة بعد الإطاحة بصدام حسين.
لكن في ظل الأحداث الدرامية التي تشهدها بغداد مع اجتياح أنصار الصدر المنطقة الخضراء شديدة التحصين، والتي تضم العديد من مقرات الدولة والسفارات مطلع هذا الأسبوع، يشعر العديد من العراقيين بالقلق من احتمال وقوع أعمال عنف.
وقال دبلوماسي غربي لرويترز إن أحد كبار القادة العسكريين الإيرانيين، وهو البريجادير جنرال إسماعيل قاآني، زار بغداد في الأيام الأخيرة في محاولة للحيلولة دون تصعيد التوتر، في مؤشر على شعور إيران بالقلق.
وأكد الزيارة مسؤول عراقي في الإطار التنسيقي، وهو تكتل للفصائل المتحالفة مع إيران، لكنه قال إنها لم تُكلل بالنجاح فيما يبدو، دون الخوض في تفاصيل. ولم ترد سفارة إيران في بغداد على طلب التعليق.
وواجه قاآني، الذي يرأس "فيلق القدس" ذراع الحرس الثوري المسؤول عن الفصائل المتحالفة مع إيران في الخارج، صعوبات في ممارسة النفوذ نفسه الذي كان يتمتع به سلفه قاسم سليماني، والذي قُتل في هجوم أمريكي في عام 2020.
وقال ريناد منصور من مؤسسة تشاتام هاوس للأبحاث لرويترز: "النفوذ الإيراني شهد تقلبات عديدة، وهو آخذ في التراجع إلى حد ما". وأضاف: "الانتخابات وعملية تشكيل الحكومة كشفت عن حجم الانقسام… بين الأحزاب السياسية، ما يجعل الأمر معقداً جداً بالنسبة لإيران".
وتأتي الأزمة أيضاً في لحظة صعبة بالنسبة لإيران في دولة أخرى؛ حيث خسرت جماعة حزب الله المسلحة وحلفاؤها الأغلبية البرلمانية في لبنان في مايو/أيار، رغم أنهم ما زالوا يتمتعون بنفوذ كبير.
ماذا يدور في كواليس الأزمة؟
قد تشير دعوة الصدر الأخيرة إلى إدخال تعديلات غير محددة على الدستور إلى أنه يريد قلب النظام القائم بأكمله رأساً على عقب، لكن بعض المحللين يشككون في رغبته الحقيقية في تغيير نظام أتى ليخدمه جيداً؛ إذ يهيمن الصدر وأتباعه على أغلب مفاصل الدولة.
وقال توبي دودج، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد لرويترز: "الصدر ليس ثورياً. هو يريد استمرار النظام لكن على أن يكون في وضع يتيح له هيمنة أكبر".
ووصف دودج الأزمة بأنها "شجار داخل نخبة شعبيتها آخذة في التضاؤل" في بلد تسبب فيه سوء الحكم والإدارة والفساد في انقطاعات متكررة في الكهرباء والمياه وتفشي الفقر والبطالة، رغم أن بالبلاد ثروات نفطية ضخمة.
وأججت ظروف مماثلة احتجاجات حاشدة في بغداد وجنوب العراق في 2019، قُتل فيها مئات المحتجين على يد قوات الأمن. وقال دودج: "ربما كانت هناك حسابات خطأ وغلطات. لكن يبدو لي أنه يوجد في كل مرحلة من تلك العملية طرف أو آخر يتخذ خطوات لتجنب العنف".
وفي سياق آخر، تحتفظ الولايات المتحدة بنحو ألفي جندي في العراق لمحاربة فلول الدولة الإسلامية، وهو عدد أقل بكثير من ذلك الذي تم نشره هناك في ذروة الاحتلال، وهو 170 ألف جندي.
وبحسب مسؤولين عراقيين، فإن المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يشاركون في اتفاقات سرية متعلقة بتشكيل الحكومة في السابق، لم يتدخلوا إلى حد كبير في تلك الأمور في السنوات الأخيرة.
قال فالي نصر، الخبير في شؤون الشرق الأوسط بجامعة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن، إن العراق لا يبدو أولوية كبيرة للولايات المتحدة. وأضاف: "لم يتم التعامل مع (العراق) على أنه عامل يغير قواعد اللعبة بالنسبة للمنطقة، وقد ينتهي به الأمر عند هذه الحال إذا فقد قدر الاستقرار الضئيل الذي يتمتع به".
وختم نصر بالقول إنه "من السابق لأوانه اعتبار ذلك خسارة لإيران، فقد ينتهي الأمر بخسارة للجميع، وبعد ذلك يصبح السؤال: من الذي سيعيد الأمور إلى نصابها بعد ذلك".
وحثت السفارة الأمريكية على التحلي بالهدوء، ودعت الأحزاب العراقية إلى تجنب العنف والعمل سلمياً لحل خلافاتها. بينما أشار حمدي مالك من معهد واشنطن للأبحاث إلى بوادر من الجانبين تدلل على ضبط النفس، لكنه قال إن الصراع يحمل مخاطرة.
"أي حرب أهلية بين الجماعات الشيعية سيكون لها تأثير عميق ليس فقط على… شعب العراق، ولكن على المنطقة الأوسع، بل وعلى أجزاء أخرى من العالم، لأسباب ليس أقلها الانقطاع المحتمل في إمدادات النفط، إذ إن معظم ثروة العراق النفطية تقع في مناطق يغلب عليها الشيعة في البلاد"، بحسب مالك.