الاشتباكات الدامية التي شهدتها طرابلس بين فصيلين يتبعان للمجلس الرئاسي، مؤشر على أن الأوضاع الأمنية أصبحت هشة في العاصمة الليبية إلى درجة تدعو للقلق.
ورغم تأكيد مختلف الأطراف السياسية والعسكرية على حرمة الدم الليبي والتزامهم بعدم حل الخلافات بالسلاح، إلا أن ما حدث نهاية الأسبوع الفائت، وسقوط 16 قتيلاً على الأقل في حصيلة هي الأثقل منذ 2020، دلالة على أن الأوضاع تتجه نحو الأسوأ إن لم يتم احتواؤها ليس أمنياً فقط، بل إيجاد حل جذري للأزمة السياسية التي تعيق بناء الدولة.
فالمنطقة الغربية دخلت فعلياً مرحلة إعادة تقاسم السيطرة والنفوذ بين مختلف القوى السياسية والعسكرية الفاعلة في المدن الأربع الرئيسية: طرابلس ومصراتة والزنتان والزاوية.
مربعات السيطرة
تخضع طرابلس لسيطرة فعلية لعدد من الكتائب التي تتبع اسمياً المجلس الرئاسي بصفته القائد الأعلى للجيش، وأخرى لوزير الدفاع، وثالثة لقائد الأركان ورابعة لوزير الداخلية.
وتسيطر كل كتيبة على منطقة، وتضمن حماية مؤسسات الدولة بها سواء حكومية أو بنوك أو مؤسسات، وتحصل على تمويلها من الجهة الرسمية التي تتبع لها، سواء المجلس الرئاسي أو وزارة الدفاع أو قيادة الأركان أو وزارة الداخلية.
وتتصارع هذه الكتائب على مناطق السيطرة والنفوذ في العاصمة، وأحياناً تتحالف مع بعضها لمواجهة خطر داهم، مثلما حدث في هجوم قوات حفتر على طرابلس في 2019.
وفي حالات أخرى تتأثر بالانقسام السياسي، ما يؤدي إلى اقتتال دامٍ بينها على غرار ما حدث في 2017 بين الكتائب الداعمة لحكومة الوفاق والأخرى الموالية لحكومة الإنقاذ، وفي مايو/أيار الماضي، بين كتيبة تتبع الحكومة التي عينها مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، وأخرى داعمة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
وما وقع ما بين 21 و22 يوليو/تموز الجاري، من اشتباكات بالأسلحة الثقيلة وسط طرابلس، بين "قوة الردع ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة" بقيادة عبد الرؤوف كارة، والحرس الرئاسي بقيادة أيوب أبو راس، الذي كان يسمى "كتيبة ثوار طرابلس"، جزء من الصراع المتكرر بين كتائب طرابلس على السيطرة والنفوذ، ويمكن استغلاله سياسياً لاستقطاب القوتين لصالح هذا الطرف أو ذاك.
ورغم أن الخلاف كان يمكن حله دون إراقة كل هذه الدماء، إلا أن نتائج ما حدث تعكس أن الصراع أكبر مما هو ظاهر.
بدأت المشكلة عندما اعتقلت قوة الردع أحد عناصر الحرس الرئاسي، الذين قاموا بالرد باختطاف أحد عناصر قوة الردع، لمبادلته بزميلهم على الأغلب، لكن رد فعل كتيبة كارة كان عنيفاً جداً وغير متوقع، حيث هجمت بالأسلحة الثقيلة على معسكرات كتيبة أبو راس، واستولت على معظمها.
ووقعت الاشتباكات في مناطق آهلة بالسكان في قلب طرابلس، على غرار زاوية الدهماني، وجزيرة الفرناج والسبعة، بالإضافة إلى منطقة عين زارة، الضاحية الجنوبية الشرقية للعاصمة.
واستمرت الاشتباكات لساعات طويلة، ورغم تدخل المجلس الرئاسي الذي يتبع له الفصيلان المتقاتلان، وكذلك رئيس الحكومة وزير الدفاع، وقائد الأركان، إلا أن الاشتباكات لم تتوقف سريعاً، مما يعكس عدم احترافية هذه القوات وعدم اعترافها بسلطة القيادة التي تتبعها وتتلقى منها التمويل.
كارة يعزز نفوذه
أفضت الاشتباكات إلى تعزيز "قوة الردع" لسيطرتها ونفوذها على وسط طرابلس، بعد طردها الحرس الرئاسي وتحجيم كتيبة النواصي في مايو/أيار الماضي، على يد جهاز الدعم والاستقرار بقيادة عبد الغني الككلي (غنيوة)، المتمركز في حي بوسليم الشعبي القريب من مركز طرابلس.
أصبح وسط طرابلس تحت سيطرة فعلية لرجلين واسعي النفوذ؛ كارة والككلي، وإن كان الأخير حسم موقفه لصالح دعم حكومة الدبيبة، فإن الأول ما زالت مواقفه غامضة.
كارة، ذو التوجه السلفي يتبع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، لكن عدة أطراف لا تستبعد إمكانية تحالفه مع باشاغا، رغم أنه كان على خلاف معه في عهد حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج، وتم نقل تبعيته من وزارة الداخلية إلى المجلس الرئاسي، لإضعاف باشاغا، الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية.
وعندما دخل باشاغا إلى طرابس في مايو/أيار، تحت حماية كتيبة النواصي التي يقودها مصطفى قدور (سلفي) واشتباكها مع قوات الككلي، لم يتدخل كارة لدعم أي من الطرفين، واختار الحياد.
يتفوق كارة على الككلي في أن قواته أقرب إلى مركز طرابلس، وتقع تحت نفوذه عدة مقرات حساسة للدولة، ما يجعله لاعباً رئيسياً في أي تحالفات أمنية مقبلة، سواء مع حكومة الدبيبة أو مع حكومة باشاغا، التي تتربص الفرص لدخول طرابلس.
المازن.. القربان الجديد
أبرز ضحايا أحداث طرابلس وزير الداخلية خالد المازن، الذي أقيل من منصبه جراء الاشتباكات، وتم تعيين وزير الحكم المحلي بدر الدين التومي، لتسيير شؤون الوزارة خلفاً له.
وتتحدث وسائل إعلام عربية، أن سبب إقالة المازن راجع لعدم قدرته على وقف الاشتباكات، وتعلل بأن الأجهزة الأمنية التابعة له لا يمكنها التعامل مع كتائب مسلحة بأسلحة ثقيلة.
لكن حالة الاحتقان الشعبي والغضب من تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية في البلاد، ستدفع الدبيبة للتضحية ببعض المسؤولين بغية تهدئة الشارع، مثلما فعل مع مجلس إدارة شركة الكهرباء، الذي تمت إقالة أعضائه قبل أن يعادوا إلى منصبهم، وإقالة رئيس مؤسسة النفط مصطفى صنع الله.
فالإقالة السريعة للمازن، ليست مرتبطة فقط بالاشتباكات الحالية، بل إن طرابلس والمنطقة الغربية خاصة في الزاوية وصبراتة، تشهد بين الفينة والأخرى اشتباكات بين مختلف المجموعات المسلحة المتصارعة على مناطق السيطرة والنفوذ.
ناهيك عن أن المازن، معروف أنه كان الذراع اليمنى لباشاغا، عندما كان الأخير وزيراً للداخلية، والأول أميناً عاماً للوزارة.
وفي ظل الصراع الحالي بين الدبيبة وباشاغا، قد لا يحظى المازن بالثقة المطلوبة من رئيس حكومة الوحدة، لذلك من المرجح أن يكون هذا أحد الأسباب التي دفعت بإقالته السريعة.
وأيّاً يكن المنتصر أو المهزوم في اشتباكات طرابلس الأخيرة، إلا أنها أعطت صورة غير مثالية عن الأمن والاستقرار الذي سعت حكومة الوحدة لتقديمه للعالم، وإقناع مختلف الدول لإعادة فتح سفاراتها بالعاصمة.
كما أن هشاشة الوضع الأمني في طرابلس، من شأنه أن يغري باشاغا لتعزيز تحالفاته مع بعض الكتائب النافذة في العاصمة لدخولها قريباً، رغم أنه تعهد مؤخراً للسفير الأمريكي ريتشارد نورلاند بنبذ العنف.
إلا أن قوات الزنتان بقيادة أسامة الجويلي، المتحالف مع باشاغا، متمركزة في منطقة ورشفانة قرب البوابة الجنوب غربية لطرابلس وتراقب الوضع عن كثب، وقد تغريهم الخلافات بين كتائب العاصمة لاقتحامها بعد التحالف مع بعضها وتحييد أخرى والاصطدام بمن تبقى منها، خاصة أن الوقت ليس في صالحهم.