منذ ثلاثة أشهر أو ما يزيد بقليل، أُجبر عمران خان، رئيس الوزراء الباكستاني صاحب الشخصية المؤثرة، على التنحي بطريقة مباغتة. ففي وقت كان يتخبط فيه للنجاة باقتصاد باكستان من الانهيار، ويحاول التشبث بالسلطة مخاطراً بوقوع أزمة دستورية -بحسب اتهامات معارضيه- كوَّن خصومه ائتلافاً مختلطاً في البرلمان لإزاحته، وتقول المزاعم إنهم استدرجوا حفنة من الموالين لخان للانشقاق عنه. وبُعيد منتصف ليل 10 أبريل/نيسان، أُزيح خان عن السلطة في تصويت برلماني لم يستغرق سوى 30 دقيقة.
بعد الهزيمة تلك، اشتد عزم خان على العودة إلى السلطة فشنَّ حملة سياسية اجتذبت حشوداً كبيرة من الشباب إلى الاحتجاجات العاصفة التي خرجت لتأييده في جميع أنحاء باكستان. وأخذ خان يتناول في خطاباته اتهامات تتحدث عن سرقة كبرى لأصوات الناخبين و"مؤامرة" مدعومة من الولايات المتحدة لإزاحته عن منصبه، مطالباً بإجراء انتخابات جديدة.
في 17 يوليو/تموز، اجتمعت لحملةِ عمران خان أسباب قوةٍ مباغتة بعد أن سجل حزبه مفاجأة سياسية مذهلة، فقد حصل على 15 مقعداً من أصل 20 مقعداً برلمانياً أُجريت الانتخابات عليها في مقاطعة البنجاب. والبنجاب أهم منطقة في باكستان من الناحية السياسية والاقتصادية، ومعقل الحزب الحاكم الذي يقوده رئيس الوزراء شهباز شريف، وقد أُجريت الانتخابات بأمر من المحكمة لملء مكان النواب الذين تخلوا عن حزب خان.
"زلزال سياسي مباغت" صنعه عمران خان في باكستان
تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية إن جاء فوز النواب التابعين لحزب خان كالزلزال السياسي المباغت على حكومة شريف، لا سيما وأنها مكونة في الأصل من تحالف هش يضم تسعة أحزاب، علاوة على انهماكها بالفعل في مواجهة حالتي الطوارئ القائمتين في البلاد: الاقتصاد المتدهور، وكارثة تغير المناخ. فقد بلغ التضخم درجات غير مسبوقة، وأوقع ملايين الباكستانيين الفقراء في براثن ارتفاعٍ حاد في أسعار الغذاء والوقود، أما أزمة المناخ فقد تركت أراضٍ زراعية شاسعة تحتضر تحت وطأة الجفاف أو تغمرها السيول الغزيرة.
بدا خان وحزبه "حركة الإنصاف الباكستاني" قريبين من انتصار ثانٍ، وربما إجبار شهباز شريف على الدعوة إلى انتخابات جديدة. فقد أمرت المحكمة بإجراء تصويت في المجلس التشريعي لإقليم البنجاب لانتخاب رئيس الوزراء الجديد للإقليم، بعد أن شغله مؤقتاً نجل شريف، حمزة شهباز.
أخذ خان يحذر من مكائد رسمية لشراء الأصوات، لكن بحلول الساعة العاشرة مساءً، وتمام فرز جميع الأصوات البالغ عددها 369 صوتاً، أعلن نائب رئيس البرلمان أن مرشح خان حصل على 186 صوتاً، وهو عدد أصوات كافٍ للفوز.
خان يشن حملة شرسة على خصومه الذين "أفشلوا نجاحه"
لكن اتجاه الأمور تبدَّل بغتة على نحو غريب، فقد ظهرت رسالة سابقة على التصويت من زعيم حزبٍ سياسي صغير، يطلب فيها من المسؤولين التشريعيين عدم احتساب أصوات كتلته المكوَّنة من 10 مقاعد إذا لم تذهب تلك الأصوات لمناصرة شهباز شريف. وفي الوقت نفسه، تقدم موالون للحكومة بشكاوى مختلفة زعموا فيها وقوع مخالفات فنية في التصويت. وهكذا، خصم نائب رئيس مجلس النواب 10 أصوات من كفة خان، وأعلن فوز شهباز بفارق ثلاثة أصوات، فتعالت صيحات الاحتجاج وساد الاضطراب والارتباك أرجاء المشهد برمته.
بعد الساعة 11 مساءً بقليل، ظهر خان بوجه صارم على شاشة التلفزيون، وألقى خطاباً أعرب فيه "صدمته" من أحداث اليوم، وحثَّ أنصاره على تنظيم احتجاجات سلمية في جميع أنحاء البلاد، وقال إنه سيطلب من المحكمة العليا التدخل للحكم في ما وقع من مخالفات.
واتهم خان الفائزين بالانتخابات بشرائها "على نحو ابتياعهم للأغنام والماعز"، وخصَّ بالنقد آصف على زرداري، أحد أثرياء باكستان ورئيسها الأسبق ومن أبرز المتحالفين الآن مع حكومة شريف، زاعماً أنه العقل المدبر للمؤامرة، وواصفاً إياه باللص "الذي يبتاع الديمقراطية بمال الفساد الأسود".
قرارات "مريرة" تفرضها الحكومة الباكستانية على المواطنين
في المقابل، قال رانا ثناء الله، وزير الداخلية في حكومة شريف، للصحفيين في لاهور، عاصمة البنجاب، إن قرار إبقاء شهباز شريف في منصبه من شأنه أن "يعزز الديمقراطية والتسامح"، واتهم خان بمحاولة "بث الفوضى في البلاد"، وتوعد خان بأنه "إذا أثار احتجاجات جماهيرية، فإن [السلطات] ستعلمه احترام القانون، ولن تسمح له بزعزعة استقرار البلاد".
من جانب آخر، قالت المحكمة العليا يوم السبت 23 يوليو/تموز، إنها ستراجع الطريقة التي أُجري بها اقتراع يوم الجمعة، ما يعني أن مرشح خان، برويز إلهي، لديه فرصة للفوز إذا خلصت المحكمة إلى وقوع مخالفات في التصويت. ولكن مهما كانت النتيجة، فإن كثيراً من المراقبين يرون أن الصخب السياسي القائم إنما هو إحراج مؤسف للبلاد، وضربة أخرى للديمقراطية الضعيفة في باكستان.
وفي هذا السياق، قال أياز أمير، الصحفي المخضرم والنائب الليبرالي السابق، لمحطة Dunya Television التلفزيونية: "اقتصادنا واقع بالفعل في حالة شديدة السوء، والآن سيفاقم هذا الاضطراب السياسي من وطأة أزماتنا. السياسيون منهمكون في الصراع على السلطة، ولا يولون أي اهتمام للقضايا ذات الأهمية الحقيقية"، لا سيما التضخم.
عندما كان خان في السلطة، قيل إنه خاطر بإلغاء صفقة اقتراض مهمة من صندوق النقد الدولي بعد أن أصر على تخفيض أسعار الوقود والغذاء، واتهمه خصومه بأنه فعل ذلك للبقاء في السلطة. أما حكومة شريف، فتقول إنها مضطرة الآن إلى نقض السياسات التي أقرها خان، واتخاذ قرارات صارمة ومكروهة شعبياً لتمرير حزمة الإنقاذ.
"الناس سيصوِّتون لخان مرة أخرى"
من جهة أخرى، أخذ خان يزور المناطق الزراعية الفقيرة التي حلَّ بها الجفاف أو اجتاحتها الأمطار الغزيرة، وتودد إلى القرويين وتعهد بمساعدتهم إذا عاد إلى السلطة. وقال غلام سروار، النائب عن حزب خان، إن حكومة خان ساعدت صغار المزارعين وأمدَّتهم بالقروض اللازمة للحصول على البذور والأسمدة، لذلك "فإن الناس هنا يحبونه، وسوف يصوتون له مرة أخرى".
عمد خان أيضاً إلى حشد أتباعه في مناطق الحضر منذ الإطاحة به، فقد عقد مسيرات في المدن للمطالبة بإقامة انتخابات جديدة، والهجوم على زعماء البلاد الحاليين واتهامهم بالفساد، والتنديد بالمكايد الأجنبية المزعومة على استقلال باكستان.
يقول رجا والي، وهو سائق يبلغ من العمر 30 عاماً كان حاضراً برفقة زوجته وطفليه في مسيرة نظمها خان عشية انتخابات برلمان البنجاب، إن خان "الزعيم الوحيد الصادق في هذا البلد، والوحيد الذي يهتم لأمرنا. كل السياسيين الآخرين لصوص". وأشاد آخرون في الحشد بجهود خان من أجل تحسين الرعاية الصحية للفقراء، وتعزيز التنمية الاقتصادية لبلدهم الذي يعاني الفقر منذ أمد طويل.
وقال أمير قريشي، صاحب متجر أحذية يبلغ من العمر 53 عاماً: "نحن جميعاً غارقون في الوحل الآن، لكن خان يريد إخراجنا منه. لا نريد أن تصبح باكستان مثل سريلانكا التي انهار فيها كل شيء. نريده للبلاد أن تتحسن، ونريد انتخابات جديدة في أقرب وقت، ونريد أن يعود خان إلى حكم البلاد".