مثلما كان متوقعاً، جاءت نتائج المشاركة في الاستفتاء على دستور الرئيس قيس سعيّد، يوم 25 يوليو/تموز 2022 الذي يتزامن مع الاحتفال بعيد الجمهورية، ضعيفة بنسبة 27.54% مقارنةً بانتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي وصلت لــ55.02% في الانتخابات الرئاسية و41,70 % بالنسبة للانتخابات النيابية؛ ما يعني تقريباً نصف المشاركين في انتخابات 2019.
كما قدّر حسن الزرقوني، رئيس وكالة Sigma Conseil المختصة في سبر الآراء والانتخابات، أن تصل نسبة التصويت بنعم على الدستور الجديد لــ92.3 %، حسب ما بثه التلفزيون الوطني عقب نهاية التصويت.
ويرجّح مراقبون أن نسبة المشاركة الضعيفة في الاستفتاء على الدستور الجديد تعود للمقاطعة النشطة التي قامت بها غالبية القوى السياسية المعارضة من اليمين إلى اليسار، بالإضافة لعزوف فئات كبيرة من الشباب عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية؛ لعدم ثقتهم في البرامج والمشاريع التي يقترحها السياسيون والمسؤولون الحاليون.
العديد من العوامل أثرت على سير عملية التصويت على الاستفتاء وأدت لهذه النتائج والأرقام التي كان متوقعاً أن تكون أقل بكثير من النتائج المعلنة لولا تدخل الإدارة ومؤسسات الدولة في سير العملية الانتخابية وتحرّك كتلة "الأغلبية الصامتة" أو "حزب الكنبة" مثلما يطلق عليهم في مصر في آخر وقت.
فما هي المقدمات التي أدت لهذه النتائج في الاستفتاء؟ وهل نجحت المقاطعة؟ وكيف تدخلت الإدارة وخرجت عن الحياد؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة؟
مقاطعة نسبة مشاركة ضعيفة؟
أعلنت الهيئة العليا للانتخابات في آخر نتائج أدلت بها أن عدد المقترعين في التصويت على دستور الرئيس قدّر بـ2458985 من جملة 9 ملايين ناخب، وهي نتيجة ضعيفة مقارنة بعدد المشاركين في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 التي وصلت لــ4,053,905 والانتخابات الرئاسية لسنة 2014 التي قدرت بــ666 339 3 من جملة 354 308 5 ممن يحق لهم الانتخاب بنسبة 62.91 %.
العديد من الأسباب تقف وراء تراجع نسبة المشاركة في التصويت مقارنة بالمحطات الانتخابية السابقة أبرزها الغياب الملحوظ للأحزاب السياسية الكبيرة والفاعلة في المشهد السياسي التونسي على غرار حزب حركة النهضة ذي المرجعية الإسلامية، وجبهة "الخلاص الوطني" التي تضم تكتلاً من مجموعة من الأحزاب وهي "حركة النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" و"حراك تونس الإرادة" وحزب أمل، ومجموعة مواطنون ضد الانقلاب التي دعت إلى مقاطعة الاستفتاء.
كما دعت إلى مقاطعة الاستفتاء أحزاب انضوت تحت ما يسمى "الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء"، وتضم "الحزب الجمهوري" و"التيار الديمقراطي" و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" وحزبي "العمال" و"القطب الديمقراطي الحداثي".
وعلى الرغم من أن القوى المؤيدة للرئيس سعيد، ترى أن المعارضة لا تحظى بالتأييد الشعبي، وأنها قررت المقاطعة "مخافة التعرض للهزيمة في الاقتراع"، إلا أن مقاطعة التصويت على الاستفتاء أدت لتراجع نسبة التصويت في الاستفتاء إلى النصف وأقل من النصف مقارنة بالاستحقاقات الانتخابية السابقة كما تدل على ذلك أرقام ونسب التصويت والاقتراع.
كما أن الأحزاب المعارضة والمؤيدة للرئيس سعيد تُجمع على أن المشاركة في التصويت أو المقاطعة ستسفر في النهاية على المصادقة على الدستور الجديد حتى وإن كانت نسبة المشاركة ضعيفة.
من جانبه، برّر الأمين العام لحزب "التيار الديمقراطي، "غازي الشواشي قرار مقاطعة الاستفتاء بـ"عدم وجود ضمانات لنزاهة التصويت، نظراً لأن رئيس الدولة غيّر تركيبة هيئة الانتخابات، لتصبح موالية للرئيس"، ولعدم تحديد "عتبة أو حد أدنى للمشاركة من أجل المصادقة على الدستور. وبالتالي، يكفي تصويت 100 ألف شخص ليمر هذا الدستور".
انقسام المعارضة
يرى ملاحظون أن تشتت المعارضة وانقسامها إلى تكتلات وتحالفات ومجموعات متنافرة أحياناً على الرغم من تقاسمها نفس التوجه في معارضة قرارات الرئيس ورفض الدستور الجديد سواء بالمقاطعة أو بالتصويت بـ"لا" ساهم في مضي قيس سعيد قدماً في مشروعه السياسي الجديد وأضعف موقفها أمام جمهور الناخبين الذين رأوا في انقسام المعارضة وتنافرها دليلاً على صواب قرارات الرئيس.
هذا وأقر غازي الشواشي، في تصريحات إعلامية، بأن "شتات المعارضة وفشلها في تقديم بديل ملموس"، جعل من الاستفتاء على الدستور بمثابة "استفتاء على الرئيس أو بيعة له" من قِبَل المشاركين.
وقال الأمين العام لـ "التيار الديمقراطي": إن "الثابت اليوم، أن غياب جبهة معارضة موحدة وغياب مشروع بديل، سمحا لقيس سعيد بالإمساك بزمام الأمور".
في الجانب الآخر، اعتبرت "جبهة الخلاص الوطني" أن قيس سعيد قد فشل فشلاً ذريعاً في نيل التزكية الشعبية لمشروعه الانقلابي وفقد بذلك كل مبرر للاستمرار في الحكم، مطالبة إياه "بالاستقالة وفسح المجال لتنظيم انتخابات عامة رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها".
وأكّدت الجبهة في بيان لها أصدرته إثر خروج نتائج الاستفتاء، أن ما أقدم عليه قيس سعيد "من اغتصابٍ للسلطة وتزوير للإرادة الشعبية قد وضع نفسه خارج إطار الحوار الوطني"، "وناشدت القوى الوطنية السياسية والمدنيّة فتحَ مشاورات عاجلة من أجلِ عقد مؤتمر للحوار الوطني".
إلى ذلك، اعتبر صلاح الدين الداودي، أستاذ جامعي وأحد مؤيدي الرئيس، أن "اللجوء إلى المقاطعة بذريعة أن التصويت محسوم نظراً لاستغلال الرئيس شتات المعارضة فيه مغالطة، فالحقيقة أنه ليس هناك حضور شعبي وراء المعارضة. بل حتى إن توحدت المعارضة، لن يكون لها أي تأثير على الواقع، ببساطة لأن الشعب لا يعيرها أي اهتمام وستنهزم في صناديق الاقتراع"، وفق تعبيره.
جدير بالذكر أن الرئيس السابق للجنة صياغة مسودة الدستور وخبير القانون الدستوري، العميد الصادق بلعيد، نأى بنفسه عن نسخة الدستور التي نشرها قيس سعيّد، وأعلن أنها "لا تمُت بِصِلة إلى تلك التي وضعناها وعرضناها على الرئيس" وأن المشروع "يفتح المجال أمام نظام ديكتاتوري".
عدم حياد الإدارة
تعرّض عمل مؤسسات الدولة المعنية بالإشراف على الانتخابات ومتابعتها وتنظيمها للعديد من الانتقادات، خصوصاً الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تم اتهامها بعدم الحياد والانحياز للرئيس والتصويت لصالح الدستور على حساب المعارضين والمقاطعين للاستفتاء.
وقد لاحظ مراقبون خلال فترة الصمت الانتخابي أن القوى السياسية المنخرطة في الاستفتاء لم توقف الدعاية الانتخابية ولم تكفّ عن التعبير عن مواقفها حتى يوم الصمت الانتخابي ويوم الانتخابات.
وكان رئيس الجمهورية قيس سعيّد قد ألقى كلمة اليوم إثر التصويت في مركز الاقتراع دعا فيها المواطنين للتصويت على دستور الجمهورية الجديدة، معتبراً أنها "خطوة لتأسيس جمهورية جديدة مختلفة عن الجمهورية التي كانت في السنوات العشر الماضية وقبلها"، وهو ما يعتبر جريمة جزائية بحسب رئيس هيئة الانتخابات فاروق بو عسكر الذي سبق أن قال إن أي خرق للصمت الانتخابي يصنف في خانة الجريمة الجزائية التي يعاقب عليها القانون.
كما لم تقم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بدورها في إزالة اللافتات الدعائية التي تتضمن مواقف من الاستفتاء؛ حيث عاين مراقبون لافتات دعائية معلقة في الشوارع تدعو للتصويت للدستور الجديد أيام الصمت الانتخابي.
إلى ذلك، اعتبر الناصر الهرابي، مدير مرصد "شاهد لمراقبة الانتخابات" (منظمة غير حكومية مستقلة) أن الحملة الدعائية متعثرة وباهتة وأداء هيئة الانتخابات كان مرتجلاً ويثير مخاوف بشأن نزاهتها مقارنة بانتخابات 2014 و2019.
وأعرب الهرابي في تصريحات لوكالة الأناضول عن "التّخوف من أن تهدر هيئة الانتخابات مكسب النزاهة الذي جمعته في انتخابات 2014 و2019 باتخاذها مواقف صمت في الوقت الذي يجب أن تكون فيه محايدة وعادلة في مهمتها".
هيئة الانتخابات لم تكن الوحيدة التي تعرضت للانتقادات بسبب الاستفتاء، فمؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية (عمومية) تعرضت بدورها للانتقادات للانحياز الواضح في خطها التحريري للتصويت لصالح الاستفتاء رغم وجود مقاطعة ورافضين للدستور الجديد، وهو ما اعتبره البعض خروجاً عن الموضوعية والحياد وخدمة للأجندات الاتصالية الرئاسية.
السيناريوهات المنتظرة
من المتوقع ألا تسكت المعارضة والمجتمع المدني والحقوقي على اعتماد الدستور الجديد للجمهورية التونسية الذي يعتبرونه يؤسس لديكتاتورية جديدة ويضيق الخناق على الحقوق والحريات.
السيناريو الأول: أن تنجح المعارضات للرئيس سعيد ودستوره في الاجتماع حول أجندة سياسية موحدة وتنطلق في حوار وطني جامع لإيجاد الوسائل الكفيلة بإسقاط الدستور الجديد وتكوين حكومة موازية للحكومة الموجودة في القصبة وتدويل قضيتها لرفع الغطاء الدولي عن الرئيس ودفعه للاستقالة في مرحلة متقدمة.
السيناريو الثاني: التحضير من الآن للمشاركة في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر/كانون الأول القادم والسعي للحصول على الأغلبية في الغرفتين البرلمانيتين، وعند تحقيق هذا الهدف تقوم المعارضة بطرح مشاريع قوانينها لتعديل الدستور الحالي والحد من صلاحيات الرئيس الواسعة التي يحظى بها بفضل دستور 2022 .
السيناريو الثالث: أن يواصل الرئيس ملاحقة معارضيه السياسيين قضائياً خصوصاً من داخل حركة النهضة وإصدار بطاقات إيداع بالسجن والإيقاف في حقهم عن طريق القضاء الذي أصبح يتحكم فيه عن طريق المراسيم وعن طريق المجلس الأعلى للقضاء المعيّن، وهو ما سيصعد المواجهة بين الحركة والرئيس وربما يضعها في مواجهة السيناريو المصري الذي بدأت إرهاصاته تظهر منذ فترة.